إذا كان فيلم "أوبنهايمر" أكد الحقيقة المعروفة بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأولى التي كان لديها التمويل والإرادة السياسية لتحويل الانشطار النووي إلى سلاح من خلال معامل ألموس الشهيرة، ومشروع مانهاتن النووي؛ فإن الحقيقة المؤكدة الأخرى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت القنابل النووية مرتين، عندما قصفت مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس عام 1945 بقنبلة نووية أطلقت عليها "الولد الصغير"، وبعدها بثلاثة أيام دمرت مدينة ناغازاكي بقنبلة نووية جديدة أُطلق عليها "الرجل البدين".
وبعد مرور نحو 78 عاماً على المآسي التي خلفتها القنبلتان، تقدم الولايات المتحدة نفسها باعتبارها الدولة التي تحاول حماية البشرية من مخاطر استخدام الأسلحة النووية، لكن حقيقة الأمر أن العالم يشهد بالفعل مرحلة جديدة من السباق النووي في ظل تراجع واضح عن الخطوات السابقة التي منعت الانزلاق نحو حرب نووية شاملة أثناء فترة الحرب الباردة. فعالم اليوم يشهد توسعاً هائلاً في عدد الأسلحة النووية ونوعيتها من الدول الأعضاء في النادي النووي، والتي تملك نحو 15 ألف رأس نووي، ويضم النادي النووي 9 دول هي: الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية.
ومن أبرز مظاهر السباق النووي أن كلاً من واشنطن وموسكو وبكين تتسابق لتطوير المثلث النووي الخاص بها، الذي ينقل القنابل النووية إلى أهدافها النهائية. ويضم هذا المثلث؛ القاذفات الاستراتيجية، والصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، والغواصات التي يمكن أن تطلق صواريخ نووية. ويطرح ذلك تساؤلات بشأن رؤية الولايات المتحدة للسباق النووي الذي يشهده العالم، وهل يستثمر البيت الأبيض في "تخويف الآخرين" لجني الأرباح السياسية والعسكرية والاقتصادية من الرعب النووي؟
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الولايات المتحدة منذ الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وضعت رؤية تهدف إلى تطوير قدراتها النووية، لكن هذه الرؤية جاءت متأخرة كثيراً من وجهة نظر الرئيس السابق دونالد ترامب الذي شهدت ولايته تطويراً شاملاً للقدرات النووية الأمريكية. وتعمل واشنطن منذ ذلك الحين وفق استراتيجية متكاملة لتعزيز تفوقها وهيمنتها في مجال الأسلحة النووية، وفي نفس الوقت بث الرعب والخوف لدى الشعوب التي تجاور دولاً تحظى بقدرات نووية. وقامت هذه الاستراتيجية الأمريكية على مجموعة من المسارات، وهي كالتالي:
1- تجنب القناعات الخاطئة:
تقوم الحسابات الأمريكية على أنه لو وصلت للآخرين قناعة بأن البيت الأبيض لن يستخدم الأسلحة النووية، فإن هذا هو الخطر الحقيقي على أمن الولايات المتحدة وحلفائها. فمن وجهة نظر مخططي الاستراتيجية الأمريكية، يجب أن يكون أعداء واشنطن على قناعة كاملة بأن الولايات المتحدة جاهزة ولديها الإرادة السياسية الواضحة لحماية نفسها وحلفائها باستخدام الأسلحة النووية. وتشير التقديرات العلنية إلى أن واشنطن يمكن أن تخوض حرباً نووية مع روسيا في أوروبا، أو مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ. وأوضح ذلك القائد السابق للقيادة الاستراتيجية الأمريكية، الأدميرال تشارلز ريتشارد، عندما قال عام 2021 إنه "لا يستبعد إمكانية نشوب حرب نووية مع روسيا أو الصين"، وشكل هذا أول توقع للبنتاغون بإمكانية نشوب حرب نووية منذ انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.
كما صاغت الولايات المتحدة رؤية لكيفية اندلاع حرب نووية، وهو سيناريو رسمه الأدميرال ريتشارد عندما قال إن "الحرب النووية سوف تبدأ عندما تدخل روسيا أو الصين في حرب إقليمية مع دولة مثل أوكرانيا أو تايوان، وتشعر أي منهما أنها تتعرض لهزيمة نكراء أو إمكانية سقوط نظامها السياسي. هنا ستكون موسكو وبكين مستعدتين لاستخدام الأسلحة النووية". وفي سبيل نفي واشنطن لأي قناعة خاطئة لدى الخصوم حول استعدادها لاستخدام الأسلحة النووية، فإنها اتخذت عدداً من الخطوات، ومنها:
أ- كشف تسريب في إبريل 2019 عن نشر الولايات المتحدة 150 قنبلة نووية في 5 دول أوروبية هي تركيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا. وجاء هذا التسريب في شكل دراسة كتبها السيناتور الكندي جوزيف داي بعنوان "عصر جديد للردع النووي"، ونشرها الموقع الرسمي للجمعية البرلمانية لحلف دول شمال الأطلسي "الناتو".
ب- حدثت الولايات المتحدة نحو 480 قنبلة نووية من طراز "بي 61-12"، وضمتها لقنابل حلف "الناتو" في الدول الأوروبية بالقرب من الحدود الروسية، وفق ما أوضحه اتحاد العلماء الأمريكيين (FAS) في 18 نوفمبر 2021. كما أنه بنهاية عام 2023، ستكون هناك قاذفات من طراز "بي-21 ريدار" جاهزة لتحميل كل هذا العدد من القنابل النووية في أوروبا.
ج- كشف مارك أسبر، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، عن سيناريو لضرب روسيا بالقنابل النووية، وذلك على هامش المناورات التي جرت في قاعدة القوات الاستراتيجية الأمريكية في ولاية نبراسكا بحضور أعضاء من الكونغرس في 20 فبراير 2020. وكانت هذه المناورة نوعاً من المحاكاة لضرب مقدمة الجيش الروسي إذا حاول اختراق قوات "الناتو" في دول بحر البلطيق الثلاث (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا).
د- شهدت مناورات "الرعب المرن" التي أجراها حلف "الناتو" في شمال شرق أوروبا عام 2021، تحميل القنابل النووية بالفعل على القاذفات الاستراتيجية لمواجهة ما تسميه واشنطن "يوم الرعب الروسي"، ومنذ ذلك الوقت تقوم القاذفات الأمريكية بطلعات قرب الحدود الروسية منها طلعات كانت في ديسمبر 2022 بالقرب من سان بطرسبرغ. وما يؤكد أيضاً أن الولايات المتحدة تريد إرسال رسالة واضحة لخصومها بأنها مستعدة وقادرة على استخدام السلاح النووي، إصدار السفارة الأمريكية في بولندا بياناً قالت فيه إن مناورات "الرعب المرن"، وطلعات القاذفات المُحملة بالأسلحة النووية هي محاكاة لضرب روسيا.
هـ- أعلنت واشنطن استراتيجية لتطوير القنابل النووية، بعد أن أوضح ترامب أن بلاده تتخلف عن روسيا التي تملك ما يقرب من 6850 سلاحاً نووياً، بينما لدى الولايات المتحدة 6550 قنبلة نووية. لذا خصص ترامب 500 مليار دولار لتطوير الرؤوس النووية، منها 100 مليار دولار سنوياً لمدة 5 سنوات بدايةً من ميزانية 2017-2018، ونجحت خطته في تحويل القنابل الكبيرة إلى قنابل أصغر يمكن استخدامها لأهداف محددة، وهو ما يُحول الأسلحة النووية من سلاح "ردع وتخويف" إلى سلاح "عملياتي" على الأرض.
و- نشرت الولايات المتحدة بداية من عام 2020 صواريخ قصيرة المدى تحمل رؤوساً نووية في الغواصات التي تعمل في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، حتى لا تتكون أي فكرة خاطئة لدى الصين أو كوريا الشمالية بأن القوات الأمريكية في شرق آسيا معزولة أو يمكن ابتزازها بأسلحة نووية كورية شمالية أو صينية.
2- تضخيم القدرات النووية للخصوم:
تهدف الولايات المتحدة من خلال ذلك إلى إشاعة الرعب والخوف لدى جيران الصين وكوريا الشمالية، وتحفيز شعوب ودول أوروبا ضد روسيا، وتعميق الخلافات بين دول الخليج وإيران. وعملت واشنطن على تضخيم القدرات النووية للخصوم عبر مجموعة من الخطوات، وهي كالتالي:
أ- على الرغم من تأكيد وكالة الطاقة الذرية أكثر من مرة أن الإمكانات النووية للصين لا تزيد كثيراً عما تعلنه الأخيرة، وهو نحو 370 رأساً نووياً؛ تدّعي واشنطن أن لدى بكين أكثر من 1500 رأس نووي، بل أكدت عام 2021 أن الرؤوس النووية الصينية سوف تصل إلى 3 آلاف رأس نووي بحلول عام 2035. وهذه رسالة نجحت من خلالها واشنطن في بث الخوف لدى كل جيران الصين الذين يتسابقون الآن لعقد اتفاقيات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وشراء مزيد من السلاح الأمريكي.
ولتعميق الخوف من بكين، تقول واشنطن إن الأولى تمتلك صواريخ بالستية يصل مداها إلى 12 ألف كلم، وإن الصين سوف تنتج بدايةً من عام 2025 قاذفة عملاقة "الجناح الطائر" والتي يمكن أن تتفوق على القاذفة الأمريكية "بي 52". وتزيد الولايات المتحدة من نشر الخوف من الصين بالقول إنها أخطر من روسيا في مجال السلاح النووي؛ لأنها لم تلتزم في السابق بأي اتفاقيات تُقيد قدراتها النووية.
ب- التضخيم من القدرات النووية والصواريخ البالستية لكوريا الشمالية، فعلى الرغم من خطورة البرنامج النووي والصاروخي لبيونغ يانغ، يرى البعض أنه يمكن احتواؤه أو تشجيع كوريا الشمالية على التخلص منه، لكن هذا التضخيم سمح لواشنطن بتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية خيالية، منها الإبقاء بشروطها على 46 ألف جندي أمريكي في اليابان، و29500 جندي في كوريا الجنوبية، ونشر منظومة "ثاد" للدفاع الجوي الأمريكي في كوريا الجنوبية؛ وهي المنظومة التي ساعدت الجيش الأمريكي على كشف مزيد من الأراضي الصينية والروسية وليس فقط الكورية الشمالية.
3- توسيع رقعة الوجود النووي:
على الرغم من الحديث الأمريكي عن ضرورة الالتزام باتفاقية عدم الانتشار النووي، يؤكد الواقع أن واشنطن أسهمت في توسيع انتشار السلاح النووي، وذلك من خلال سلسلة من القرارات، أهمها:
أ- نشر الغواصات النووية، وتمثل ذلك في تدخل البيت الأبيض يوم 15 سبتمبر 2021 لإلغاء صفقة الغواصات التي تعاقدت عليها أستراليا مع فرنسا، والتي كانت تعمل بالكهرباء والديزل، واستبدالها بغواصات تصنعها بريطانيا والولايات المتحدة وتعمل بالطاقة النووية؛ وهو ما قد يدفع الصين إلى زيادة عدد غواصاتها التي تعمل بالطاقة النووية أيضاً.
ب- إجراء مناورات نووية مع كوريا الجنوبية واليابان في بحر الصين الجنوبي في إبريل من العام الجاري، الأمر الذي شكل استفزازاً غير مسبوق لكوريا الشمالية والصين وروسيا.
4- عدم الالتزام باتفاقية لا يلتزم بها الآخرون:
يسير الرئيس جو بايدن وفق رؤية وضعها سلفه ترامب، مفادها أن الولايات المتحدة لن تلتزم بأي اتفاقية لا يلتزم بها الآخرون، ولهذا قامت الولايات المتحدة بعدد من الخطوات غير المسبوقة، ومنها:
أ- تجديد اتفاقية "ستارت 3" لمدة 5 سنوات فقط عام 2021؛ وهي الاتفاقية التي تم التوصل إليها عام 2011، وتُجدد كل 10 سنوات، وتحدد سقف الصواريخ النووية البعيدة المدى بــ1500 رأس نووي لكل طرف. ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، فشلت كل المحاولات لجمع واشنطن وموسكو حول مائدة الحوار الاستراتيجي لبحث اتخاذ خطوات مشتركة تخفف من التوتر النووي أو تجديد اتفاقية "ستارت 3" لما بعد عام 2026.
ب- انسحاب الولايات المتحدة وروسيا منذ أغسطس 2019 من اتفاقية منع إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، والتي تحمل رؤوساً نووية في أوروبا، والمعروفة باسم (INF)؛ وهي الاتفاقية التي وقعها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ونظيره السوفيتي ميخائيل غورباتشوف عام 1987.
ختاماً، تقوم العقيدة النووية الأمريكية على أن التفوق الكاسح في مجال الأسلحة النووية هو الخيار الوحيد لإقناع الخصوم بعدم استخدام السلاح النووي، وهو ما من شأنه أن يحقق السلام للولايات المتحدة وخصومها والعالم أجمع. ومن المؤكد أن التاريخ يمكن في بعض المواقف أن يعيد نفسه، ففي عام 1962 نجح الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي والزعيم السوفيتي الأسبق نيكيتا خروتشوف في نزع فتيل أكبر أزمة نووية أثناء ما سُمي بأزمة "خليج الخنازير" أو "الصواريخ الكوبية"، وهو يمكن لكل الدول النووية الاستفادة منه والبناء عليه.