أشارت تقارير إعلامية غربية، في 12 سبتمبر 2023، إلى قيام القوات البحرية الصينية، ببدء أكبر مناورات بحرية، غير مُعلن عنها مُسبقاً، في تاريخها في المحيط الهادئ، في تحرك يؤشر على المدى الذي وصل إليه الدور المتزايد لهذه القوات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ "الإندوباسيفيك". إذ تُظهر هذه المناورات وجود توجه لدى الصين نحو توسيع نطاق ومجال عمليات قواتها البحرية إلى مناطق أبعد من الساحل الصيني، لتصل إلى أعالي البحار، أو ما يُطلق عليه "المياه الزرقاء"، وذلك بالنظر إلى أن تلك المناورات جرت في المنطقة التي تتحكم في طريق الوصول الرئيسي من المحيط الهادئ إلى بحر الصين الجنوبي، والتي تمتد بين جزيرة تايوان والفلبين وجزيرة غوام الأمريكية، ذات الأهمية الاستراتيجية العالية بالنسبة للجيش الأمريكي.
دوافع عديدة:
ثمّة دوافع واعتبارات عدة وراء التطور الكبير الذي طرأ على دور القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني في منطقة الإندوباسيفيك، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1. استمرار أزمة تايوان: تنظر الصين إلى جزيرة تايوان، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، في الوقت الذي تصر فيه السلطات الحاكمة في تايبيه على رفض الرؤية الصينية، وتتمسك بمطلب الاستقلال عن بكين، التي ترغب في إعادة تايوان إليها بالطرق السلمية، أو باللجوء إلى القوة العسكرية إذا تطلب الأمر ذلك. وبخلاف الاعتبارات التاريخية والسياسية والاقتصادية، فإن الأهمية الجيوستراتيجية لتايوان بالنسبة للصين، تكمن في أنها تُعد خط الدفاع الأول عن الحدود البحرية الصينية، إذ تقع تايبيه على مسافة نحو 140 كيلومتراً من البر الرئيسي الصيني، وهي تقع أيضاً ضمن ما يُطلق عليه "سلسلة الجُزُر الأولى"، والتي تبدأ من شمال اليابان مروراً بتايوان والفلبين وصولاً إلى فيتنام، والتي تُعد من الدول والمناطق الحليفة للولايات المتحدة، وهو ما يجعل مسألة قيام القوات البحرية الصينية بتأمين "سلسلة الجُزُر الأولى" بمثابة أولوية قصوى لحماية الصين من أي تهديدات أمنية خارجية محتملة من جانب هذه الدول.
وربما تهدف الصين من وراء مد مناوراتها البحرية إلى منطقة غرب المحيط الهادئ إلى منع الولايات المتحدة من استهداف الصين، عبر إعاقة وصول الإمدادات إلى القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة في حالة اتجاهها نحو الدفاع عن تايوان ضد أي غزو صيني مُحتمل.
2. الوصول إلى المياه الزرقاء في أعالي البحار: يرتكز البرنامج الضخم الذي تتبناه الصين لبناء السفن الحربية على مدى السنوات الماضية على تطوير قدرات القوات البحرية في المحيط الهادئ، وذلك بهدف تحويلها إلى أسطول يمتلك القدرة على الوصول إلى المحيطات والعمل في أعالي البحار. وتحقيقاً لهذا الهدف، قامت الصين ببناء مدمرات صواريخ موجهة، وسفن هجومية برمائية وحاملات طائرات، تمتلك القدرة على العمل على بعد آلاف الأميال من سواحل بكين. كما بدأت القوات البحرية الصينية، على مدار العامين الماضيين، في إرسال حاملتي الطائرات "لياونينغ" و"شاندونغ" في مهام تدريبية خارج "سلسلة الجزر الأولى".
ويُعد هدف الوصول إلى أعالي البحار، وما يعكسه من اهتمام بتحديث وتطوير جيش التحرير الشعبي الصيني، والذي تُعد القوات البحرية أحد الأفرع الرئيسية له، أحد الأركان الرئيسية لرؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ، لتحقيق الصعود الصيني. إذ تسلط المناورات البحرية الأخيرة الضوء على مدى تسريع إجراء هذه التغييرات، ولاسيما فيما يتصل بالقوة البحرية للصين.
3. الوجود الأمريكي في "الإندوباسيفيك": تتبنى واشنطن استراتيجية مُحددة تجاه آسيا ترتكز على تكثيف وجودها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك في محاولة لتطويق واحتواء النفوذ الصيني في المنطقة. وتتجلى أبرز ملامح تلك الاستراتيجية في الوجود العسكري الكثيف للقطع البحرية الأمريكية في منطقة الإندوباسيفيك، بدءاً من أستراليا وجزر المحيط الهادئ، مروراً بقواعدها العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية، ووصولاً إلى البحار القريبة من الصين.
وتشير تقديرات إلى أن الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ يضم نحو 200 سفينة، من ضمنها 5 حاملات طائرات، ونحو 1100 طائرة حربية، وما يزيد على 130 ألفاً من قوات البحرية والمدنيين. ويبلغ عدد قوات مشاة البحرية في المحيط الهادي نحو 86 ألف جندي، بجانب 640 طائرة.
هذا بالإضافة إلى التدريبات البحرية المشتركة التي تُجريها الولايات المتحدة مع حلفائها الآسيويين في المنطقة، حيث أجرت القوات البحرية لكل من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والفلبين، في أغسطس 2023، أول مناورة مشتركة بين الدول الأربع قبالة السواحل الفلبينية.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى المناورات الصينية في المحيط الهادئ في إطار مواجهة الوجود الأمريكي في منطقة الإندوباسيفيك، حيث تعمل بكين على تكثيف وجودها في المنطقة، لمحاولة تحقيق التوازن مع الوجود البحري لواشنطن وحلفائها.
مُؤشرات القوة البحرية:
هناك العديد من المؤشرات التي تعكس تزايد دور القوات البحرية الصينية في منطقة الإندوباسيفيك، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
1. التدريبات البحرية مع الدول الصديقة: تُعد التدريبات العسكرية البحرية التي تُجريها القوات البحرية الصينية مع نظيرتها من الدول الصديقة، أحد المؤشرات المُهمة على الدور المُتزايد لهذه القوات، وامتداد هذا الدور في الفترة الأخيرة إلى منطقة الإندوباسيفيك. فقد أجرت القوات البحرية الصينية والروسية تدريبات مشتركة، في يوليو 2023، في بحر اليابان، بمشاركة أكثر من 10 سفن و30 طائرة حربية من الجانبين، وذلك بهدف الحفاظ على أمن الممرات المائية الاستراتيجية في بحر اليابان، وتعزيز قدرة البلدين على حماية السلام والاستقرار الإقليميين في مواجهة التحديات الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. كما قامت الدولتان أيضاً بإجراء مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهادئ، في أغسطس 2023، تضمنت تدريبات على عمليات الإنقاذ والتصدي لهجمات جوية.
وتؤشر هذه التدريبات على تنامي التعاون العسكري البحري بين الصين وروسيا من جهة، وسعي الدولتين إلى إيصال رسائل عدة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين والغربيين من جهة أخرى، وعلى رأسها استعداد الدولتين لاحتمالات اندلاع حرب حقيقية في المنطقة. فضلاً عن عدم إتاحة المجال أمام واشنطن وحلفائها للتحرك بحرية في المنطقة. وفي الإطار ذاته، فقد أجرت الصين وروسيا وجنوب إفريقيا، في فبراير 2023، تدريبات بحرية مُشتركة في المحيط الهندي، تضمنت إطلاق نيران مدفعية مشتركة ومناورات تكتيكية في البحر.
2. قرب انضمام حاملة الطائرات الصينية الثالثة "فوجيان" إلى الخدمة: تستعد الصين لإطلاق حاملة الطائرات الجديدة "فوجيان"، وهي أول حاملة طائرات ذات تصميم محلي بالكامل، وثالث حاملة طائرات تمتلكها القوات البحرية الصينية بعد حاملتي "لياونينغ" و"شاندونغ"، الأمر الذي يمثل نقلة نوعية كبيرة في سياق مساعي الصين لنقل عملياتها البحرية إلى مسافات بعيدة عن شواطئها. وتتمثل مهمة حاملة الطائرات "فوجيان" في تعويض التفوق الجوي للولايات المتحدة وحلفائها في غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا، وتزويد جيش التحرير الشعبي الصيني بحرية تشغيلية أكبر. كما أنها تمثل تطوراً كبيراً بالنسبة لحاملات الطائرات الصينية السابقة. علاوة على كونها أول حاملة طائرات لجيش التحرير الشعبي الصيني يمكن أن تحمل أسطولاً كاملاً من الطائرات، بما في ذلك طائرات الدورية وطائرات الإنذار والتحكم المبكر.
3. تنامي المكانة الدولية للقوات البحرية الصينية: طبقاً لأحدث تصنيف للأساطيل البحرية في العالم خلال العام الجاري 2023، فقد جاءت الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة وقبل روسيا. ووفقاً للتصنيف تمثل الصين قوة بحرية صاعدة، إذ تمتلك أكبر أسطول يضم 425 وحدة بحرية نشطة حتى أغسطس 2023، وتشمل 3 حاملات طائرات، و72 غواصة، و48 مدمرة، و71 طراداً. ويتميز أسطولها بصغر عمر القطع البحرية مقارنة بنظيره الأمريكي، حيث يبلغ متوسط عمر القطع البحرية الصينية 13.8 عام. وبالمقارنة مع الولايات المتحدة، التي جاءت في المرتبة الأولى، وذلك بالنظر إلى امتلاكها مزيجاً متنوعاً من القطع البحرية والغواصات، فإن أسطولها البحري يشتمل على 243 وحدة بحرية نشطة، تتضمن 11 حاملة طائرات، و68 غواصة، و70 مدمرة، وغيرها من القطع الحربية. وتتميز القطع البحرية بأن عمرها صغير، إذ يبلغ 23.3 عام في المتوسط.
4. الصواريخ البالستية المضادة للسفن: تُعد الصواريخ المضادة للسفن، أحد أبرز ملامح تطور القوات البحرية الصينية، حيث تمتلك الصين نوعين من هذه الصواريخ ذات القدرة على ضرب السفن في البحر، الأول يصل مداه إلى ما يزيد على 1500 كيلومتر، والثاني يبلغ أقصى مدى له نحو 4 آلاف كيلومتر. وقد أثارت هذه النوعية من الصواريخ الصينية المُضادة للسفن حالة قلق واسعة لدى الخبراء والمراقبين الأمريكيين، لكونها يمكن أن تغير قواعد اللعبة تماماً، إذ ستسمح هذه الصواريخ، إلى جانب أنظمة المراقبة والاستهداف المحدثة، للصين بمهاجمة حاملات الطائرات الأمريكية أو سفن حلفائها الضخمة في غرب المحيط الهادئ.
تداعيات جيوسياسية وعسكرية:
من المحتمل أن يترتب على تزايد دور القوات البحرية الصينية في منطقة الإندوباسيفيك، العديد من التداعيات، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1. توسيع الانتشار البحري الصيني في أعالي البحار: يفرض تنامي دور القوات البحرية الصينية في مناطق بعيدة عن الساحل الصيني، ضرورة تأسيس وجود ثابت لهذه القوات، للتمركز في تلك المناطق، وذلك بهدف حماية ممرات التجارة الصينية إلى أنحاء العالم من جهة، والحصول على الإمدادات اللوجستية للسفن الحربية الصينية من جهة أخرى. وهو ما يفسر تفكير الصين في إقامة قواعد عسكرية بحرية في الخارج، ولاسيما في المناطق الجغرافية المهمة بالنسبة لها، ومنها هامبانتوتا في سريلانكا، وجوادر في باكستان، وريام في كمبوديا، ولوغانفيل في فانواتو. كما تقترب الصين من تأسيس قاعدة عسكرية بحرية في كمبوديا، حيث أظهرت صور الأقمار الاصطناعية رصيفاً شبه مكتمل يمكن استخدامه في رسو حاملات الطائرات، وهو يتماثل في الحجم والتصميم مع رصيف القاعدة الصينية بجيبوتي.
2. احتدام التنافس البحري في الإندوباسيفيك: يتوقع أن يؤدي تزايد دور القوات البحرية الصينية في منطقة الإندوباسيفيك إلى زيادة التنافس البحري بين الصين من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين وكذلك بعض حلفائها الغربيين من جهة أخرى. فقد شهدت الفترة الأخيرة بروز زيادة ملحوظة في توجه حلفاء واشنطن في المنطقة، ولاسيما اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إلى تطوير وتحديث قدراتهم العسكرية البحرية، فضلاً عن تنامي الوجود البحري لبعض القوى الغربية الرئيسية، ومنها ألمانيا وفرنسا وكندا في المنطقة. وهي جميعها مؤشرات تنُم عن تزايد التنافس البحري في المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية للصين والولايات المتحدة والغرب. وقد يؤدي ازدحام المنطقة بالأساطيل البحرية للدول المتنافسة إلى احتمال حدوث أخطاء غير مقصودة، قد يترتب عليها اندلاع صدامات أو احتكاكات بين المعسكرين المتنافسين، أي الصين من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. ما يجعل تلك المنطقة بمثابة برميل بارود على وشك الانفجار.
3. تصاعد عدم الاستقرار الإقليمي: يُتوقع أن يؤدي تزايد الدور البحري للصين في المنطقة إلى بروز مسببات عدم الاستقرار في المنطقة، في ظل تزايد تحركات ونشاطات الصين "العدوانية" في المياه الإقليمية المتنازع عليها، ولاسيما في بحر الصين الجنوبي، والتي ترتب عليها تصاعد المخاوف والقلق لدى جيران الصين، ما دفعهم إلى زيادة شراكاتهم الأمنية مع الولايات المتحدة، ومع بعضهم بعضاً.
4. تنامي المكانة الدولية للصين: من شأن تنامي القوة البحرية للصين في الوقت الحالي وعلى المدى البعيد، أن يؤدي إلى تغيير موازين القوة في النظام الدولي الحالي، وبالتالي تصاعد مكانة بكين في هذا النظام، وتحولها إلى قوة عظمى مسيطرة، في ظل الارتباط الوثيق بين امتلاك القوة البحرية وبين التحول إلى دولة كبرى مؤثرة في العالم.
5. استمرار التفوق البحري الأمريكي: على الرغم من نجاح الصين في تجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر قوة بحرية في العالم من حيث المعيار العددي، فإن هذا المعيار لا يُعد كافياً للحكم على مدى فاعلية أي قوة بحرية. حيث ما زالت واشنطن تحتفظ بتفوق كبير على بكين في العديد من القدرات البحرية، كما أنها من المتوقع أن تتجه نحو زيادة حجم قواتها البحرية بشكل كبير. وهو ما يفرض على الصين ضرورة العمل على تعزيز قوتها البحرية، إذا رغبت في إثبات مكانتها كقوة بحرية حديثة ومتطورة، يمكنها الوصول إلى أعالي البحار، ومنافسة أو إزاحة واشنطن عن مكانتها البحرية المهيمنة.
وفي التقدير، يمكن القول إن توجه الصين نحو تطوير دور ومكانة قواتها البحرية، لتصبح قوة رائدة على المستوى العالمي، يثير المخاوف والقلق لدى الغرب، لارتباط تزايد دور البحرية الصينية في منطقة الإندوباسيفيك بالعديد من الدوافع المرتبطة بالمصالح الغربية في المنطقة، ولاسيما أزمة تايوان، ومحاولة الصين الخروج بقواتها البحرية فيما وراء البحار، عبر العديد من الآليات والتحركات، منها التدريبات البحرية المشتركة مع الدول الصديقة، وتدشين ثالث حاملة طائرات صينية محلية الصنع في المستقبل القريب، وهو ما سيترتب عليه العديد من التداعيات الجيوسياسية والعسكرية في منطقة الإندوباسيفيك، يأتي على رأسها تزايد الانتشار البحري الصيني في المياه الزرقاء، واحتدام التنافس البحري في المنطقة، ما سيزيد من عوامل عدم الاستقرار الإقليمي والعالمي، وهذا ما سيجعل تلك المنطقة مرشحة لمزيد من التوترات والخلافات في المستقبل.