يُحدثنا الروائي البرتغالي المرموق جوزيه ساراماغو (José Saramago)، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1998، أن "القوة الاقتصادية هي التي تحدد القوة السياسية، وتصبح الحكومات بمثابة السلطة التنفيذية للقوة الاقتصادية". وفي ظل التحولات الأخيرة التي يشهدها النظام العالمي، تصبو الصين والهند لتأكيد تفوقهما الاقتصادي والتكنولوجي، على أمل تعزيز ثقلهما السياسي ونفوذهما في النظام السياسي الدولي. ويُثار هنا تساؤل جوهري بشأن من سيكون له السبق بحلول عام 2030؟ وستحدد ذلك عدة عوامل، أبرزها رأس المال المادي والبشري، وجودة التصنيع، وتدويل العملات الوطنية، بالإضافة إلى استدامة التنافسية.
تقليص الفجوة:
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، في 12 يناير 2023، مقالاً لمدير تحريرها رافي أجراوال (Ravi Agrawal)، بعنوان "لماذا يشعر العالم باختلاف في 2023: من مفاوضات التغير المناخي إلى الرياضة إلى الدبلوماسية؛ أصبح جنوب العالم أكثر قوة"، في إشارة إلى أن هيمنة الغرب على السردية الاقتصادية والجيوسياسية العالمية -التي دامت لعقود طويلة– توشك على الأفول، مع بزوغ نظام عالمي جديد يتسم بالتعددية القطبية، يقع مركز ثقله في آسيا.
ولا عجب أن الهند والصين ستبرزان كأكبر قوتين اقتصاديتين في العالم خلال السنوات المقبلة. والحديث هنا عن اقتصادين تقارب حجمهما في ثمانينيات القرن العشرين، ثم اتسعت الفجوة بينهما بمرور الزمن، حتى أضحى الاقتصاد الصيني يُعادل تقريباً خمسة أمثال الاقتصاد الهندي في عام 2022.
ومستقبلاً، كما يُوضح الشكل (1)، ستضيق الفجوة بين الاقتصادين، حيث يشير تقرير لشركة "غولدمان ساكس" الأمريكية (Goldman Sachs) صدر في ديسمبر 2022 إلى أنه:
- بحلول عام 2035 سيصبح الاقتصاد الصيني الأكبر حجماً، وستأتي الهند في المرتبة الرابعة وفقاً لمعيار الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2021) بقيمة 30.6 و10.3 تريليون دولار أمريكي على التوالي.
- في عام 2075، ستظل الصدارة للاقتصاد الصيني، ويحل الاقتصاد الهندي في المرتبة الثانية (57.0 و52.5 تريليون دولار على التوالي).
وتتوافق هذه النتائج مع تقديرات مؤسسة "فيتش سوليوشنز"، التي تشير إلى تسجيل الاقتصاد الهندي معدلات نمو أعلى مقارنة بالصيني حتى 2030، بواقع 6.7% و5.15% في المتوسط على التوالي، بيد أن أثر حجم الاقتصاد الصيني يُعوِّض تراجع معدلات نموه. وبطبيعة الحال، ينعكس ذلك على متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فمن المُرجح أن يتضاعف من 11800 إلى 22 ألف دولار في الصين، ومن 2400 إلى 4200 دولار في الهند خلال نفس الفترة، ما يُبقي فارق مستوى المعيشة في البلدين كبيراً.
كما أشارت دراسة "مستقبل القوة الاقتصادية العالمية"، الصادرة في نوفمبر 2022 عن "المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية" الأمريكي (National Bureau of Economic Research, NBER)، إلى ريادة الاقتصادين الصيني والهندي، وارتفاع نصيبهما النسبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 23% إلى 43.2% خلال الفترة 2017–2100 (الصين 27% والهند 16.2%)، مقابل تراجع المكانة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، وانخفاض مساهمتهما في الناتج العالمي مجتمعين من 33% إلى 24%. كما انتهت الدراسة إلى أن نمو الإنتاجية والتركيبة الديموغرافية للسكان سيكونان المُحركين الرئيسين لاكتساب القوة الاقتصادية في المستقبل.
معايير أساسية:
يقودنا الاستعراض السابق إلى تأكيد أهمية مقياس الحجم ضمن نسق الاقتصاد السياسي الدولي، إلا أنه غير كافٍ للدلالة على القوة الاقتصادية للأمم؛ كونها تنطوي على أبعاد أخرى في مقدمتها، إمكانات النفاذ إلى الثروة والموارد الطبيعية الاستراتيجية، والتفوق التكنولوجي، وقدرة الدولة على الارتقاء بمستوى معيشة مواطنيها، ودرء أي تأثيرات خارجية قد تحد من سيادتها. الأمر الذي يُثير تساؤلاً بشأن المكانة الاقتصادية المُتوقعة للاقتصادين الصيني والهندي بنهاية هذا العقد. ولتوضيح ذلك، سيُركز التحليل على تناول الاعتبارات التالية:
1- رأس المال المادي: تُلقي كتابات عِدة الضوء على التأثير السياسي لتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة الصينية الخارجية؛ ومنها دراسة "راندال ستون وآخرون" المنشورة بمجلة "المنظمات الدولية"، الصادرة عن جامعة كامبردج البريطانية، في أغسطس 2021، والمُعنونة "القوة الصينية والشركات المملوكة للدولة". واستندت الدراسة لبيانات الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة للشركات الصينية خلال الفترة 2000–2013، لتخلص إلى أن استثمارات الشركات المملوكة للدولة المتنوعة في الخارج تتوافق بدرجة كبيرة مع التوجهات الحكومية الرسمية، والتي تستخدمها لتعزيز سياستها الخارجية.
اللافت للانتباه أن العديد من الشركات الصينية المملوكة للدولة أضحت عابرة القومية، وضمن كبرى الشركات العالمية، ما يُعزز تأثيرها في الساحة الدولية. وتأكيداً لذلك، باتت الصين الأكثر تمثيلاً ضمن "قائمة فورتشن غلوبال 500" لعام 2022، بواقع 136 شركة غالبيتها مملوكة للدولة، مقابل 124 شركة أمريكية. وفي حين غابت الهند عن قائمة أكبر ثلاثين شركة ضمن "فوربس غلوبال 2000" الصادرة في مايو 2022، كانت الصين حاضرة بواقع 9 شركات سيطرت على 56.8% من إجمالي قيمة أصول القائمة.
هذا وتُعد الصين رابع أكبر مستثمر أجنبي بالخارج بإجمالي تدفقات خارجية بلغ نحو 145 مليار دولار أمريكي عام 2021، لتحتل المرتبة الرابعة عالمياً، وفقاً لتقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد". كما يوضح مؤشر "متعقب الاستثمارات الصينية العالمية" (China Global Investment Tracker)، أن القيمة التراكمية لمشروعات التشييد واستثمارات الصين خارج حدودها تزيد على 2.26 تريليون دولار أمريكي خلال الفترة 2005–2022. ولا شك أن "مبادرة الحزام والطريق" –التي تأتي ضمن الاستراتيجية التنموية للحكومة الصينية- تُعزز قوتها الاقتصادية ومكانتها الدولية، حيث تنطوي على تعاون اقتصادي مع 152 دولة ومنظمة دولية عبر أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
وفي ذات السياق، تحتل الصين المرتبة الثانية عالمياً في جذب الاستثمارات الأجنبية الوافدة –بعد الولايات المتحدة الأمريكية– بقيمة 181 مليار دولار عام 2021، بينما جذبت الهند استثمارات مباشرة تُقدر بنحو 45 مليار دولار لتحتل المركز السابع عالمياً. ويواكب ذلك تفوُّق أداء التصنيف الائتماني السيادي للصين على الهند، الصادر عن وكالة "موديز لخدمات المستثمرين"؛ حيث تنتمي الأولى للفئة (A1) لتعكس البيئة الاستثمارية الآمنة بدرجة متوسطة إلى مرتفعة، في حين حققت الهند التصنيف (Baa3)، في إشارة إلى أن بيئة الاستثمار تنطوي على مخاطر متوسطة.
وبينما اكتسبت استراتيجية "الصين زائد واحد" (China Plus One) والمدعومة من الولايات المتحدة –التي تصبو إلى تنويع مواقع التصنيع والإنتاج القاطنة في الصين بنقل جزء من عملياتها لدولة أخرى– زخماً متنامياً في ظل جائحة "كوفيد19"، فإن الهند تسعى لأن تكون البديل المُفضل لدى الشركات الباحثة عن وجهة ثانية، كذلك فإنها تتطلع لأن تكون طرفاً رئيساً لاستراتيجية "الاتحاد الأوروبي زائد واحد" (EU Plus One).
2- رأس المال البشري: يُمكن القول إن الهند تُعد بديلاً محتملاً للاقتصاد الصيني، خاصة مع تفوق تركيبتها السكانية. ففي 18 يناير 2023، أعلنت تقديرات مؤسسة (World Population Review)، أن عدد سكان الهند قد تجاوز 1.4276 مليار نسمة، لتحتل المرتبة الأولى عالمياً وتتخطى الصين (1.4256 مليار نسمة) المُتأثرة حتماً بسياسة "الطفل الواحد" التي انتهجتها الدولة منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولم يمنع هجرها مؤخراً تعرض الصين لكل من:
أ- ظاهرة النمو السكاني السالب، فمن المرجح أن ينخفض عدد سكان الصين بحلول عام 2050 عما هو عليه الآن بحوالي 8%، ما يعني انخفاض الاستهلاك المحلي، ومن ثم تباطؤ أكثر لمعدلات النمو الاقتصادي.
ب- ظاهرة شيخوخة السكان، حيث يُقوِّض التحول في التركيبة السكانية لصالح كبار السن دور الصين كمصنع العالم مع تراجع أعداد العمالة المتوفرة مُنخفضة التكلفة.
ج- ظاهرة 1-2-4، في إشارة إلى تنامي معدل الإعالة؛ حيث إن كل طفل سيكون مسؤولاً عن إعالة والديه وأجداده الأربعة. تلك المسؤولية التي لا يستطيع الشباب تحملها، وستُرهق نظام التقاعد العام.
في غضون ذلك، سيستمر عدد سكان الهند في التنامي ليبلغ ذروته عند 1.7 مليار نسمة عام 2064، ومع تركيبة سكانية نصفها دون الثلاثين عاماً. ويتطلب ذلك تحقيق أقصى استفادة منهم من خلال تحسين الخدمات التعليمية والتدريبية للنشء، وتهيئة بيئة أعمال بإمكانها خلق فرص عمل لملايين الأشخاص الوافدين الجدد لسوق العمل سنوياً بالتركيز على الوظائف ذات الإنتاجية المرتفعة.
وقد جاءت الهند في صدارة العالم فيما يخص رأسمالها البشري خارج أراضيها؛ فلديها أكبر جالية مُنتشرة في جميع أنحاء العالم، بواقع 25 مليون شخص. واللافت للانتباه أنها أدركت أهمية سكانها المُقيمين في الخارج، بوصفهم قوة اقتصادية وبشرية هائلة للدول المُضيفة لهم، كما تؤدي تحويلاتهم النقدية -الأكبر عالمياً- دوراً رئيساً في مكافحة الفقر، فقامت بتطوير إطار مؤسسي فعَّال للتواصل المستدام معهم، وتبني تدخلات ملائمة لبناء قدرات مواطنيها على نحو يضمن إدارة هجرة الراغبين منهم وفق نهج أفضل.
3- جودة التصنيع: لما كانت الإنتاجية تُمثل المُحدد الثالث الأكثر أهمية لتعزيز قوة الاقتصاد عالمياً، فإن ذلك يتطلب إحداث تحولات جوهرية تجاه إنتاج صناعي مرتفع القيمة وعالي التقنية، ما يعزز التفوق التكنولوجي ويزيد من الإنتاجية والرفاه الاجتماعي. هنا، تخلص مؤشرات "منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية" (اليونيدو) إلى تفوق الصين على الهند في الوقت الراهن، كما يوضح الشكل (2).
ومثالاً على ذلك، سجلت الصين ضِعف الأداء الهندي تقريباً على مؤشر القيمة المُضافة لقطاع التصنيع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (0.87 و0.44 درجة على التوالي من إجمالي درجة واحدة). ووفقاً للمنظمة، يُعزز الأداء الصيني بلوغ مستهدفات 2030، بينما تحتاج الهند خُطى حثيثة للحاق بمستهدفاتها. ولذا، أطلقت الحكومة الهندية في عام 2014 برنامج (Make in India)، وهو هو برنامج يهدف تسهيل الاستثمار، وتعزيز الابتكار، وجذب الاستثمارات الأجنبية في مجال الصناعة.
4- أداء العملة الوطنية: يلاحظ تنامي دور العملة الصينية "اليوان" على الساحة العالمية إذا ما قورن بـ"الروبية" الهندية. ففي سبتمبر 2016، انضم اليوان رسمياً للدولار الأمريكي واليورو الأوروبي والين الياباني والجنيه الإسترليني، في سلة عملات حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، ما يُمثِّل علامة فارقة لمسار اندماج الاقتصاد الصيني في النظام المالي العالمي. وفي مايو 2022، قرر الصندوق زيادة نسبة اليوان في سلة العملات من 10.92% إلى 12.28%، انعكاساً لتنامي دور الصين في تدفقات التجارة العالمية والاستخدام العالمي لعملتها.
وقد أصبح اليوان خامس أكثر العملات تداولاً في العالم، مُتخطياً العملات الأسترالية والكندية والسويسرية، وفقاً لنتائج استبيان بنك التسويات الدولية لعام 2022 الصادر في أكتوبر 2022. وكما يوضح الشكل (3)، بلغت قيمة تداولاته في العالم نحو 526.23 مليار دولار أمريكي، ليرتفع نصيبه من إجمالي التداولات العالمية من 4% قبل ثلاث سنوات إلى 7% في 2022. بينما سجلت الروبية الهندية 122.33 مليار دولار أمريكي خلال العام الماضي. وكلا العملتان من المتوقع أن يزداد حضورهما في أسواق المعاملات الدولية، مع تقدم موقع البلدين في النظام الاقتصادي الدولي.
5- استدامة التنافسية: يُعد الحفاظ على التنافسية العالمية للدولة وفق نهج مُستدام، أحد المقومات الرئيسة لتعزيز القوة الاقتصادية. ووفقاً لمؤشر التنافسية العالمية المستدامة (The Global Sustainable Competitiveness Index) لعام 2022، تقع الصين في مرتبة أفضل مُقارنة بالهند (في المرتبة 31 و120 على التوالي من إجمالي 180 دولة) كما يوضح الشكل (4). وإن كانت كل منهما تُعاني من مخاطر بيئية قد تنعكس سلباً على أدائهما التنافسي المستدام. كذلك فإن الهند تحتل المرتبة السابعة بين 181 دولة على مؤشر مخاطر التغيُّر المناخي العالمي 2021، وأكثر من 75% من مقاطعاتها مُعرضة لأحداث الطقس المتطرف.
ختاماً، يمكن القول إنه مع إرهاصات نظام عالمي متعدد الأقطاب، تبرز الصين ثم الهند كقوى اقتصادية رئيسية، لدى كل منهما مواطن قوة وفرص سانحة ينبغي العمل على استثمارها، ومخاطر وتهديدات داخلية وخارجية تحتاج إلى ابتكار أدوات استراتيجية للتعاطي معها، حفاظاً على المكتسبات المتحققة والإضافة إليها. ويأتي في مقدمة القضايا ذات الأولوية الحفاظ على استدامة التنافسية العالمية للدولة حتى لا تنتقص من قدراتها المستقبلية على توليد الثروة والحفاظ على مواردها.