عرض: هبة محيي
يُعد نظام الطاقة من أكثر النُظم تعقيداً على مستوى العالم، حيث إنه يؤثر ويتأثر بالعديد من العوامل السياسية والاقتصادية والبيئية. فعلى سبيل المثال، تسبب الصراع الروسي الأوكراني الأخير في أزمة طاقة عالمية؛ مما كان سبباً ملحاً لدفع الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا إلى أهمية التحول لاستخدام الطاقة المتجددة التي تُعد أيضاً طاقة صديقة للبيئة.
في هذا الإطار، أصدرت وزارة الاقتصاد وحماية المناخ الألمانية تقريراً بعنوان "تمويل بحوث تحول الطاقة" في يونيو 2023، يتناول استراتيجية التحول الطاقوي في هذا البلد، من خلال تحديد أسباب ذلك التحول، والمصادر الجديدة للتحول الطاقوي، فضلاً عن الجهود المبذولة في هذا المجال، مع ذكر أمثلة تطبيقية على هذا التحول.
أهداف أساسية:
يطرح التقرير أهداف الوزارة في تشجيع وتمويل الأبحاث والمشروعات التي تؤدي إلى التحول إلى الطاقة النظيفة، من أجل تقليل الانبعاثات والحفاظ على الموارد والتنوع البيولوجي. وفي ظل التحديات العالمية التي تؤثر في إمدادات الطاقة غير المتجددة المحلية، حدد التقرير أهم القطاعات التي تُسهم بنصيب أكبر في استهلاك الطاقة غير المتجددة، والمتمثلة في:
1) قطاع الإسكان: يُعد هذا القطاع مسؤولاً عن حوالي 40% من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في ألمانيا، إذ تستهلك نُظم التدفئة والتبريد حوالي 52% من الطاقة في البلاد، وغالباً ما يتم إنتاج هذه الطاقة بواسطة الوقود الأحفوري، وهو ما يتسبب في ظهور الانبعاثات الملوثة للبيئة. جدير بالذكر أن حوالي نصف المنازل في ألمانيا تقع في مبانٍ سكنية متعددة الشقق، والعديد منها تم بناؤها قبل أول لائحة للحماية الحرارية الصادرة عام 1979، فلم يكن هناك تخطيط لترشيد استهلاك الوقود الأحفوري المطلوب لتوفير معدلات التدفئة المطلوبة.
من هنا، ظهرت فكرة مبادرة ترشيد استهلاك الطاقة المستخدمة في قطاع الإسكان، واستحداث أساليب طاقوية جديدة صديقة للبيئة، وفي هذا الصدد ظهرت مبادرة (نظام لو إكس) مستهدفة استحداث أساليب جديدة في مجال الطاقة النظيفة خلال الفترة الزمنية (2016-2022) وبميزانية قدرها 4.5 مليون يورو. وتعاونت الوزارة في هذه المبادرة مع منظمات بحثية وشركات عديدة لتوفير بدائل آمنة وصديقة للبيئة عند توليد الطاقة، إذ يتم العمل على إدخال نظام المضخات الحرارية لتوفير التدفئة للمباني، والتي تسهم بتقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون إلى ما يقرب من 50%.
2) قطاعات التجارة والصناعة والخدمات: تستهلك تلك القطاعات قرابة 45% من الطاقة في ألمانيا، ويمكن اعتبار الحاجة للتدفئة أو التبريد في العمليات الصناعية وتوليد الكهرباء، الأكثر استهلاكاً للطاقة في تلك القطاعات. وأدى تزامن التقدم التكنولوجي مع التوسع في قطاعات التجارة والصناعة والخدمات في الآونة الأخيرة إلى الاستخدام الفعَّال لمصادر الطاقة، إلا أنه أيضاً لم يحقق النتائج المرجوة من الناحية البيئية من حيث تقليل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون؛ وذلك لأنه يتم الاعتماد بشكلٍ كبير على الغاز الطبيعي، كمصدر للطاقة ولاسيما في قطاع الصناعة. ولكي يتم تقليل هذه الانبعاثات، يجب التحول سريعاً إلى الاستخدام المكثف للطاقات النظيفة، ومثال لذلك، استخدام الهيدروجين الأخضر في توليد الطاقة.
ومن أهم المبادرات التي تم إطلاقها لتحقيق الأهداف الطاقوية في هذا المجال هو (مشروع كوبر نيكوس)، والذي يهدف إلى مزامنة احتياجات الطاقة للصناعة الألمانية بشكلٍ فعَّال مع العرض الطاقوي الذي يتغير بشكل متقلب، وهو ما يعرف بـ"مرونة الطاقة"، والتي من سبل الوصول إليها إطلاق شراكات بين العديد من ممثلي القطاعات الاقتصادية والعلمية والمجتمع المدني لتوضيح معنى مرونة الطاقة وتسويقها وكيفية استخدامها من خلال توفير استراتيجيات ودراسات تدير وتراقب توزيع الطاقة في مجال الصناعة، ومن ثم تطوير هذه الدراسات للوصول إلى استراتيجيات توضِّح الاستخدام الأمثل وتقليل إهدار الموارد الطاقوية المستخدمة في هذه المجالات. ومن أبرز الصناعات ذات الاستهلاك العالي للطاقة التي اهتم بها المشروع، الزجاج والورق والمعادن.
استراتيجيات الطاقة:
اعتمدت وزارة الاقتصاد وحماية المناخ الألمانية على استراتيجيتين متكاملتين لتوفير الطاقة المطلوبة في جميع القطاعات، وهما:
1) الاستراتيجية الأولى: استخدام أساليب جديدة لتوليد الطاقة النظيفة، وقد ضمت عدة مجالات أساسية، من أهمها:
- الطاقة الشمسية: نشرت الوزارة الألمانية مسودة في إبريل 2022 تناقش أهمية وسبل التوسع في إنتاج الطاقة الكهربائية عن طريق استخدام الطاقة النظيفة تدريجياً، إلى أن يتم الاعتماد شبه الكامل على تلك الطاقة بحلول عام 2035. ومن أهم المصادر التي تؤدي دوراً محورياً في المسودة هي الطاقة الشمسية، ويتم استخدام الشمس في توليد الطاقة عن طريق وضع ألواح كهروضوئية في المناطق المُعرَّضة لأشعة الشمس ومن ثم تحويل هذه الطاقة الممتصة إلى طاقة كهربائية. وذكر تقرير الوزارة أن التحول إلى هذا الأمر سيأتي عن طريق الاهتمام بإتاحة واستخدام عدد أكبر من الألواح الكهروضوئية ودمجها في واجهات المباني، واستخدامها في المساحات الزراعية والمائية المناسبة، وتوفير الدعم للدراسات والأبحاث التي تسهم في تطبيق هذه الاستراتيجية. وفي هذا الصدد قامت وزارتا الاقتصاد وحماية المناخ، والتعليم والبحث الألمانيتين في عام 2022 بتمويل 478 مشروعاً جارياً في مجال الطاقة الشمسية بما يقدر بحوالي 70.14 مليون يورو، كما تمت الموافقة في عام 2022 على 105 مشروعات بحثية جديدة من قبل الوزارتين.
- طاقة الرياح، وهي من أهم مصادر الطاقة المتجددة المستخدمة بالفعل لتوليد الكهرباء حيث يتم استخدام توربينات الرياح الموجودة على اليابسة أو البحر لتوليد الطاقة الكهربائية. وتُمثل الرياح المصدر الرئيسي لإنتاج الكهرباء في ألمانيا الآن، بل إنها تفوقت على استخدام الفحم، حيث تسهم بما يقارب من 25.9% من إنتاج الكهرباء، وهو ما يزيد عن 125 مليار كيلو وات/ ساعة من الكهرباء في العام الماضي، وتشهد هذه النسبة ازدياداً بقيمة 10% عن العام الماضي.
وبالرغم من الاستغلال الفعلي لطاقة الرياح في ألمانيا فإنه توجد العديد من الجهود والدراسات المبذولة للوصول إلى الاستغلال الأمثل لهذه الطاقة، عن طريق العمل على زيادة الطاقة الإنتاجية للمحطات القائمة، والتوسع في إنتاج محطات جديدة وتحسين جودة المولدات والتوربينات المستخدمة، والجدير بالذكر أنه طبقاً للدراسات، فإن استخدام طاقة الرياح يحظى بقبولٍ شعبي من السكان عند الحديث عن التحول النظيف في استخدام الطاقة.
- الطاقة الحيوية: وهي تُمثل حالياً مصدر ثُلثي إنتاج الطاقة المتجددة في ألمانيا، وترمز إلى استخدام مجموعة متنوعة من المواد العضوية أو الكتل الحيوية مثل: الخشب والسماد والروث والمخلفات الزراعية لإنتاج الكهرباء والحرارة، والجدير بالذكر أن استخدام هذه الطاقة قد يؤدي إلى انبعاثات ضارة بالبيئة، لكنها ليست بمقدار ضرر مصادر الطاقة غير المتجددة، لذلك يتم بذل الجهود للاهتمام بالدراسات التي من شأنها زيادة كفاءة استخدام هذه المواد وتقليل الانبعاثات الضارة منها.
- الطاقة الحرارية الأرضية: وهي تُعد مصدراً مهماً ونظيفاً لتوفير الطاقة اللازمة لنُظم التدفئة والتبريد في المباني السكنية والمنشآت الصناعية، حيث يتم استخدام هذه الطاقة عن طريق إنشاء آبار طاقة حرارية أرضية لجمع الطاقة ومن ثم استخدامها في نظم التدفئة عن طريق مضخات حرارية مصممة خصيصاً لهذا النوع. وتركز أهم الجهود المبذولة حالياً على تعزيز استخدام هذه الطاقة واستخدام التقنيات الجديدة التي تقلل التكاليف المصاحبة والعمل على زيادة وعي السكان وقبولهم لاستخدام هذه الطاقة.
2) الاستراتيجية الثانية: إصلاح القصور والاستخدام الكفء لمصادر الطاقة غير المتجددة: حيث أعلنت وزارة الاقتصاد أنه لا غنى عن إصلاح البنية التحتية لشبكات الكهرباء وإعادة هيكلتها. ففي الماضي كان يتم نقل الكهرباء في مسارات قصيرة من محطات توليد الكهرباء إلى المنشآت الصناعية والمباني المحيطة. أما في الوقت الراهن فصارت المسارات أكثر طولاً وتعقيداً، فعلى سبيل المثال، يجب نقل الكهرباء من توربينات الرياح في المناطق الشمالية إلى مناطق التجمع السكانية الكثيفة في الجنوب والغرب؛ لذلك يتم العمل على إصلاح البنية التحتية وتوفير التكنولوجيا اللازمة لتحقيق الاستفادة الأمثل من هذه الشبكات وتجنب الهدر.
التعاون الدولي:
أوضح تقرير وزارة الاقتصاد الألمانية حرصها على التعاون الأوروبي والعالمي في مجال التحول الطاقوي، للاستفادة من جميع الخبرات والتجارب الممكنة، ومن أهم تلك المبادرات:
- الصعيد الأوروبي: تُعد ألمانيا مشاركاً فعالاً في المبادرات الهادفة لتطوير أنظمة البحث والعلوم الأوروبية منذ 20 عاماً، وتبلور هذا الدور عندما تولت ألمانيا رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي عام 2020، فظهرت مبادرة "أفق أوروبا" "horizon Europa" عام 2021، والتي تهدف بشكلٍ عام لزيادة أوجه الإنفاق على أوجه البحث العلمي والتطوير في أوروبا وبشكلٍ خاص في مجال الطاقة. فوفقاً للبند الخامس في المبادرة تم توفير ميزانية قدرها 15 مليون يورو بهدف تسهيل وتسريع الاستخدام النظيف للطاقة والتحول الرقمي، وما يرتبط بذلك من إحداث تغييرات على صعيد الاقتصاد والمجتمع.
وشاركت ألمانيا في 97 مشروعاً من مشاريع المبادرة، كما مثلت الجهات الألمانية الفاعلة 70.8% من جميع مشروعات التعاون في قطاع الطاقة في مبادرة "أفق أوروبا"، وتولت دور التنسيق في 11 مشروعاً. ويمكن القول إن إسهام ألمانيا في تلك المبادرة يأتي بالمرتبة الثانية بعد إسبانيا، وقد اهتمت هذه المشروعات بالبحث التجريبي والتطبيقي في الطاقة المتجددة، كطاقة الرياح وطاقة حرارة الأرض والطاقة الشمسية والطاقة الحيوية والتركيز على صيانة وإصلاح الشبكات والبنى التحتية المسؤولة عن إمداد الطاقة.
- الصعيد العالمي: عقدت ألمانيا العديد من الشراكات مع دول العالم المختلفة، ومن هذه الدول ناميبيا لأنها من أكثر الدول ذات المستقبل الواعد في استخدام الهيدروجين الأخضر عن طريق إنتاج الهيدروجين ومشتقاته مثل الميثان والأمونيا والميثانول، ويُعد الهيدروجين ومشتقاته من أهم مصادر الطاقات النظيفة المستدامة والصديقة للبيئة في وقتنا الحالي. وتسعى ناميبيا في ذلك الصدد إلى البدء بتصدير الهيدروجين الأخضر قبل عام 2025، وتقوم ألمانيا بمساعدتها في هذا الأمر عن طريق توفير المنح والمشروعات التجريبية في ذلك المجال، وتم عقد شراكة طويلة الأجل بين المفوضية الأوروبية وقارة إفريقيا عام 2021 في مجال البحث والابتكار الخاص بالطاقة المتجددة، وتشارك ألمانيا في تمويل ثمانية مشروعات من مشاريع المبادرة.
ختاماً، ترى وزارة الاقتصاد وحماية المناخ أهمية الاستمرار في الجهود المبذولة للتحول السريع في استخدام الطاقة النظيفة لما له أهمية في حماية النظام البيئي وباعتباره مورداً لا ينضب للطاقة.
المصدر:
Bundesministerium für Wirtschaft und Klimaschutz, Forschungsförderung für die Energiewende, Bundesministerium für Wirtschaft und Klimaschutz, June, 2023.