أسفرت الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في 1 نوفمبر 2022 عن فوز كتلة الأحزاب التي يقودها بنيامين نتنياهو بـ 64 مقعداً من إجمالي 120 في الكنيست، مقابل 51 مقعداً للكتلة المناهضة له بقيادة رئيس الوزراء السابق، يائير لابيد، مع حصول "القائمة العربية الموحدة" على 5 مقاعد، وهي قائمة لا تمانع في الانضمام إلى أي من التكتلين السابقين عند تشكيل الحكومة. وبهذه النتائج، أصبح في حكم المؤكد أن يقود نتنياهو الحكومة المقبلة، سواء اقتصرت على أعضاء التكتل الذي يقوده، أو اتسعت لتشمل أحزاباً أو أعضاءً آخرين في الكنيست.
وتطرح هذه الانتخابات ونتائجها العديد من التساؤلات حول أسباب عودة نتنياهو إلى السلطة مجدداً بعد نحو 14 شهراً قضاها في مقعد زعيم المعارضة؟ وكيف تغلبت إسرائيل على الدائرة المفرغة التي أرغمتها على عقد أربعة انتخابات في غضون ثلاثة أعوام ونصف العام؟ وهل تعني عودة نتنياهو بائتلاف قوي أن إسرائيل قد أنهت فترة عدم الاستقرار السياسي؟
رسائل الانتخابات:
تعتقد إسرائيل أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، اعتماداً على أن نظامها السياسي يقوم على تعددية حزبية وتداول للسلطة عبر صناديق الانتخاب، ولكن نمط التفاعلات السياسية في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2015، كان في واقع الأمر يتناقض مع المفهوم السائد لمعنى النظم الديمقراطية. فقد أصبح التنافس بين القوى السياسية الإسرائيلية في الانتخابات العامة لا يدور حول برامج وسياسات وانحيازات أيدولوجية أو اجتماعية، بل حول شخص واحد وهو بنيامين نتنياهو الذي تمكن من أن يكون رئيساً للوزراء لمدة 15 عاماً (من 1996 إلى 1999، ومن 2009 إلى منتصف 2021)، وفاقت مدة حكمة المدة التي حكمها مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون.
لقد أخطأت المعارضة الإسرائيلية بكل أطيافها عندما ركزت حملاتها الانتخابية، منذ عام 2015، على هدف واحد وهو إزاحة نتنياهو من الحكم، إن لم يكن من الحياة السياسة برمتها، متجاهلة حقيقة أن المشكلات التي يعانيها المجتمع الإسرائيلي والتي يبحث الناخبون عن حلول لها لم تكن بسبب وجود نتنياهو في السلطة، بل نتجت عن تشوه النظام السياسي بأكمله بسبب جموده وضعف أحزابه ومؤسساته، إلى جانب افتقار المعارضة الإسرائيلية لبدائل يمكن تقديمها للجمهور في مواجهة سياسات اليمين الذي يقوده نتنياهو.
ورداً على "شخصنة" المعارضة للأزمة، عاقب الناخب الإسرائيلي في الانتخابات الأخيرة هذه الأحزاب بمنح جبهة نتنياهو أغلبية لم تتوقعها مراكز استطلاعات الرأي التي كانت قد تنبأت عشية الانتخابات بأن أفضل نتيجة يمكن أن يحققها معسكر نتنياهو لن تزيد عن 61 مقعداً.
وكأن الرسالة التي أراد الجمهور الإسرائيلي أن تصل بوضوح لأقطاب المعارضة، هي أن اختيار زعيم قوي قادر على اتخاذ القرارات أفضل من ديمقراطية شكلية قادت البلاد إلى عدم استقرار سياسي على مدى أربعة أعوام. وكانت هذه الرسالة واضحة قبل تبلورها من خلال ما أوضحته دراسة للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية بعد مراجعة نتائج استطلاعات الرأي خلال النصف الأول من هذا العام، والتي بينت أن الجمهور الإسرائيلي اتجه بشكل حاد نحو اليمين في فترة عدم الاستقرار السياسي، حيث عبّر قرابة 60% عن تفضيلهم سياسات اليمين، وارتفعت النسبة نفسها في أوساط الشباب (بين 18 إلى 24 عاماً) إلى نحو 70%، والتي أوضحت إجاباتهم أنهم يؤيدون المعالجة الأمنية لنتنياهو في الملف النووي الإيراني، وملف العلاقات مع الفلسطينيين، ويرفضون المواقف المعتدلة لأحزاب المعارضة في هذين الملفين تحديداً، على الرغم من أن شريحة الشباب تلك تميل بشكل كبير إلى مواقف اليسار المعتدلة فيما يتعلق بالحريات الاجتماعية.
ومما لا شك فيه أن نتنياهو نجح، من خلال زعامته المعارضة على مدار 14 شهراً، في وصم حكومتي نفتالي بينت ويائير لابيد السابقتين بالضعف في مواجهة الإدارة الأمريكية؛ بسبب عدم تحركهما بقوة في مواجهة سعي الولايات المتحدة لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وفي مواجهة رعاية واشنطن لاتفاق الغاز مع لبنان (غير المنصف لإسرائيل على حد زعم نتنياهو)، علاوة على تنامي الاختراقات الأمنية للداخل الإسرائيلي من جهة المنظمات الفلسطينية خلال الفترة نفسها.
تغيرات جذرية:
بمقارنة نتائج انتخابات الكنيست في مطلع نوفمبر 2022 مع نظيرتها السابقة التي جرت في مارس 2021، سنجد أن معسكر نتنياهو وحزب "يش عتيد" (هناك مستقبل) بزعامة رئيس الحكومة الانتقالية، لابيد، كانوا أكبر الفائزين في الانتخابات الأخيرة، حيث زاد تمثيل حزب "الليكود" برئاسة نتنياهو إلى 32 مقعداً (بدلاً من 30 في الكنيست السابق)، وزادت الأحزاب الدينية الثلاثة (الصهيونية الدينية بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وشاس، ويهودت هتوراه) تمثيلها من 22 إلى 32 مقعداً. فيما حصد "يش عتيد" 7 مقاعد إضافية، ليصبح 24 مقعداً مقارنة بـ 17 في الانتخابات السابقة. بينما كانت الخسارة الأكبر لحزبي اليسار (ميرتس والعمل) اللذين امتلكا في الكنيست السابق 13 مقعداً، وهبط تمثيل هذه الكتلة إلى 4 مقاعد فقط حصل عليها حزب "العمل" بصعوبة بالغة، فيما عجز حزب "ميرتس" عن تجاوز نسبة الحسم (3.25% من الأصوات الصحيحة).
وحصلت "القائمة العربية الموحدة" على 5 مقاعد، وتحالف "الجبهة والعربية للتغيير" برئاسة أيمن عودة وأحمد الطيبي على 5 مقاعد أيضاً. في حين فشل حزب "التجمع العربي الديمقراطي" في تجاوز نسبة الحسم لدخول الكنيست.
وإذا ما استبعدنا حزب "يش عتيد" المصنف كحزب وسط، فإن حزبين آخرين ينتميان للتصنيف نفسه وهما حزب "كاحول لافن" بزعامة بيني جانتس، وحزب "تكفاه حداشاه" بزعامة جدعون ساعر، كانا قد خاضا انتخابات 2021 منفصلين وحصل الأول على 8 مقاعد، والثاني 6 مقاعد، وهما قد خاضا الانتخابات الأخيرة بقائمة مشتركة تحت اسم "المعسكر الوطني" وحصدت 12 مقعداً فقط بخسارة مقعدين من تمثيلهما السابق في الكنيست. ولكن الحساب الإجمالي لأحزاب الوسط عند ضم "يش عتيد" يظهر أن هذه الكتلة زادت تمثيلها في الكنيست بخمسة مقاعد، مع ملاحظة أن ضم الأحزاب الثلاثة لكتلة الوسط كان مفيداً في حالة واحدة فقط عندما كان معسكر نتنياهو غير قادر على حصد أغلبية مطلقة. وفي الوضع الراهن، لا يبدو أن هذه الأحزاب الثلاثة ستكون راغبة في التعاون فيما بينها، خاصةً مع تقارير صحفية تشير إلى سعي نتنياهو لتوسيع ائتلافه المنتظر، بضم "المعسكر الوطني" وحتى حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان الذي يمتلك 6 مقاعد في الكنيست الجديد.
بمعنى آخر، يمكن القول إن الحكومة الإسرائيلية المقبلة ستستند إما إلى ائتلاف يميني قوي ومتماسك إلى حد كبير بعدد 64 مقعداً، لن يُمكن المعارضة من عرقلة خططه وقراراته السياسية والأمنية، وبذلك ستكون المعارضة في الكنيست القادم ضعيفة ولن يكون أمامها سوى الضغط على نتنياهو من خارج الكنيست بتحريض الشارع ضد سياساته من خلال مؤسسات المجتمع المدني (الجمعيات، والروابط الأهلية)، ومن خلال الحملات الإعلامية في الداخل والخارج. وإذا ما تمكن نتنياهو من توسيع ائتلافه بضم كل من "المعسكر الوطني" و"إسرائيل بيتنا"، فإن ضعف المعارضة وعجزها سيزداد بقوة، وربما لا تكون قادرة بحزب "يش عتيد" والأحزاب العربية وحدها، حتى على العمل في ساحة المجتمع المدني ضد نتنياهو.
توقعات متناقضة:
إذا كان السؤال الذي فرض نفسه على إسرائيل منذ 4 أعوام هو كيفية عودة الاستقرار السياسي بعد أربعة انتخابات فاشلة، فإن عودة نتنياهو مدعوماً بتمثيل متماسك لحزب "الليكود" والأحزاب الدينية في الكنيست، ربما يجيب على السؤال ولكن بشكل حذر. فثمة مخاوف عديدة من أن يكون التماسك والحرص على إبقاء الائتلاف حتى أربعة أعوام قادمة على حساب التماسك الاجتماعي بالدرجة الأولى، حيث لا تُخفي الأحزاب الدينية، سواء الصهيونية منها أو الحريدية، رغبتها في الدفع بسياسة تعضيد "يهودية الدولة" والتي تعني العديد من المحاور المحفوفة بالمخاطر، مثل الدخول في معارك مع التيارات العلمانية التي تحاول تقليص سلطة الدين في الدولة والمجتمع، ومع معسكر السلام الذي يريد حل الصراع مع الفلسطينيين وفقاً لمبدأ "حل الدولتين"، بينما تريد الأحزاب الدينية ضم الضفة الغربية ودعم سياسة الاستيطان بها والذي يقضي على مثل هذا الحل في الواقع العملي. أيضاً لا تأبه الأحزاب الدينية للتوتر المتزايد في العلاقات اليهودية - العربية في الداخل، وتسعى بقوة لتشديد قبضة أتباعها على القدس الشرقية، وهو ما تسبب في اندلاع مواجهات بين الجيش الإسرائيلي وأبناء عرب الداخل في العامين الأخيرين.
على الجانب الآخر، فإن خضوع نتنياهو للمحاكمة في أربع قضايا تتعلق بسوء استغلال النفوذ والفساد المالي، واحتمال إدانته في هذه القضايا أو بعضها، يثير قلق المجتمع الإسرائيلي لما يمكن أن يسببه هذا الاحتمال من نشوب مواجهات في الداخل بين خصوم نتنياهو وأتباعه، والأخيرون يؤمنون مثلما يؤمن أنصار الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بأن سيطرة اليسار على الإعلام والضغوط التي تتم ممارستها على الجهات القضائية تسعى لتحطيم أسس الدولة وأخلاقيات المجتمع. فإذا كانت تجربة ترامب قد بينت مدى إمكانية تحقق المخاوف من ظهور شروخ كبيرة في جدار الدولة والمجتمع قد تُنذر على المدى البعيد بما يشبه "حرباً أهلية"، فإن الوضع في إسرائيل أكثر هشاشة، وإذا ما حدثت المواجهات بين أنصار نتنياهو ومعسكر المعارضين لوجوده في أي لحظة، فإن الشارع الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية لن يكونا قادرين على احتواء الموقف الذي قد ينفجر فعلاً إذا ما تمت إدانة نتنياهو في القضاء.
وما يزيد الأمر سوءاً أن المعارضة في إسرائيل بعد أن فشلت في الإطاحة بنتنياهو عبر صناديق الانتخابات، لم يعد أمامها سوى الضغط على أجهزة القضاء للإسراع في محاكمته، والاستعانة بالشارع لتحقيق ذلك. وبالتالي إذا كانت عودة نتنياهو ذات آثر ايجابي على استقرار الائتلاف الحكومي، فإن المشكلات التي سيخلقها وجوده واستعداده للانحناء أمام مطالب شركائه من الأحزاب الدينية هي وصفة معاكسة لقلب هذا الاستقرار إلى وضع أكثر خطورة من وجود حكومات انتقالية كما حدث في السنوات الأخيرة.