من الظواهر الجديدة نسبياً في عالمنا العربي ظاهرة أطلق عليها البعض "الانفصال القسري"، وهي ظاهرة قديمة ارتبطت بمفهوم شديد الخصوصية، وهو "الصوملة"، نسبة إلى تفكك الدولة في الصومال خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وانتشار الجماعات المسلحة وأمراء الحرب واقتطاع كل واحد منهم لجزء من البلاد وإعلان انفصاله قسرياً عن الدولة المركزية، وما تبع ذلك من حدوث حكم شبه ذاتي في هذه المناطق واستغلال أهلها وثرواتها لتحقيق مكاسب على الأرض ضد الأطراف الأخرى.
نفس الظاهرة بات نموها ملحوظاً في بعض الدول العربية وبعض الدول الأفريقية، مصحوبة ببزوغ نزعات دينية وقبلية متطرفة تعمل على تقويض مفهوم الدولة المركزية التي اعتدنا عليه لعقود ما بعد الاستقلال.
واللافت أن ظاهرة "الانفصال القسري" التي تحدث في العالم العربي اليوم إنما تحدث في بعض الدول المركزية مثل سوريا وليبيا، اللتان اعتادتا على نظامٍ مغالٍ في المركزية؛ ما قد يفضي مستقبلا إلى تقويض مفهوم الدولة المركزية في العالم العربي؛ وهو ما يشكل تحدياً استراتيجياً وأمنياً هائلاً قد يضع العديد من البلدان العربية أمام تحدٍ يصعب معالجته.
وقد ولدت ظاهرة "الانفصال القسري" مع أولى أيام الثورة الليبية عندما بدت بنغازي كمدينة تتحدى السلطة المركزية في طرابلس، ثم سمعنا بعدها بمدينة درعا مع بداية الثورة السورية، وكذا مدينة الرقة التي أخذت طابع "الانفصال القسري" المشوب بطابع جديد أتى به تنظيم "داعش"، وهو طابع يرتبط بمفهوم الخلافة الإسلامية وبالتطبيق المتشدد والخاطئ لمقتضيات الشريعة الإسلامية.
في غمرة هذه الأحداث وجدت حركة إسلامية متضامنة مع حركة علمانية تعيش في مالي، استولت على شمال البلاد، وأطلقت عليه اسم "أزواد"، وأعلنت استقلالها عن مالي. هذا علاوة عن انفصال جنوب السودان عن شماله سابقاً عبر صناديق استفتائية ومباركة دولية.
"السيبة" و"الانفصال القسري"
"الانفصال القسري" ظاهرة ضاربة القدم في التاريخ العربي والإسلامي، تبزغ غالباً عند ضعف الدولة المركزية وتغلب أمير أو استيلاءه على السلطة في بقعة جغرافية صغيرة أو كبيرة وفرض سيطرته العسكرية عليها واتخاذها قاعدة لشن هجومات جديدة تقوض المزيد من أركان الدولة المركزية.
ففي المغرب على سبيل المثال، وقبل الاستعمار الفرنسي، عرفت البلاد مناطق سميت بمناطق "السيبة"، وهي مناطق كانت خارجة عن نطاق السلطة المركزية لسلطان المغرب، وقد كان لهذه المناطق قائداً أو حاكماً يجبي الضرائب ويحكم بقوانين قد تختلف عن قوانين السلطة المركزية. وكانت معظم الدول العربية التي عاشت بعض الوقت في هذه الحالة هاجساً كبيراً لاسترداد هذه المناطق وبسط سيطرتها عليها مرة أخرى، وخاضت في سبيل ذلك العديد من المعارك السياسية والعسكرية.
يبقى الخلاف اليوم بين "حالة السيبة" و"الانفصال القسري" الذي يتناوله هذا التحليل أمران مهمان، الأول، هو الخلفية الأيديولوجية الذي تتلفح بها كل الحركات المسؤولة عن ممارسة الانفصال، وهي العباءة "الإسلامية الجهادية" المنحرفة والمتطرفة. والأمر الثاني، هو الامتداد الجغرافي والانصهار الثقافي واللغوي الذي يميز معظم حركات الانفصال القسري اليوم، والتي لا تنتمي بعضها للبقعة الجغرافية التي تحاول استقطاعها من الدولة المركزية.
إن كافة الحركات الإسلامية التي تقاتل على الأرض اليوم، وتهدد مفهوم الدولة المركزية في أكثر من بلد عربي، لا تقف عند حدود معينة، فغالبية أفرداها أتوا من بلاد مختلفة وجنسيات متعددة، ويتحدثون لغات عدة، ولديهم خلفيات ثقافية متنوعة من داخل وخارج الوطن العربي، وصولاً إلى المقاتلين من جنسيات غربية مثل كندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، إضافة إلى التنوع الجنسي، فالمرأة أيضاً أصبحت حاضرة في تأسيس هذا الانفصال القسري وإنهاك الدولة المركزية.
ومع أن غياب العدالة الاجتماعية والتهميش كانا من أحد أسباب محاولات الانفصال التي عرفتها وتعرفها العديد من الدول العربية، لكن الاختلافات الثقافية واللغوية أيضاً كانت وراء محاولات ومطالبات بالانفصال عن الدولة المركزية مثل الحركات الأمازيغية في المغرب والجزائر؛ فإن الحركات المسلحة التي تقود "الانفصال القسري" اليوم، وان كانت دوافعها تتشابه مع الأسباب المذكورة، إلا أنها تتميز بكونها تطمح إلى إقامة كيان كبير يتعدى حدود الدولة المركزية، وتنصهر فيها الشعوب إلى شعب واحد غالبيته من المسلمين الذين يُحكَمون بالشريعة الاسلامية.
تصاعد "الانفصال القسري" في شمال أفريقيا
سوف يتم التركيز هنا على منطقة المغرب العربي وأفريقيا لما لهما من خصوصية ترتبط عضوياً بظاهرة "الانفصال القسري"، ففي ظل انشغال العالم بما يحدث في سوريا والعراق، وفي ظل الحرب التي يقودها التحالف الدولي بقيادة أمريكية بهدف إنهاء وجود "داعش" فيهما؛ تنمو حركات وأفكار جديدة/قديمة في منطقة غير بعيدة من الشرق الأوسط، قد تمثل خطراً قادماً على القارة الأفريقية التي أنهكتها الحروب الأهلية على مدى عقود، وباتت تعيش منذ عام 2011 على وقع تحديات أمنية قد تضع مستقبل القارة على المحك، في ظل تنامي ظواهر التطرف والانفلات الأمني وتكاثر الحركات المسلحة التي تتخذ من العنف أسلوباً للتغيير؛ وهو ما تتبدى ملامحه من خلال عمليات التجنيد "الإرهابي" من شمال أفريقيا وانتقاله إلى بلدان أخرى أبرزها سوريا.
لقد باتت مناطق عديدة في شمال أفريقيا والساحل وجنوب الصحراء مرشحة بقوة لعمليات "انفصال قسري" مشابه لذلك الحاصل في سوريا بسبب توفر نفس الظروف المصاحبة لضعف الدولة المركزية، وانتشار الحركات المسلحة العابرة للحدود والمشبعة بالأيديولوجيا الدينية، وتنامي الجريمة والتهريب، وتعاظم نفوذ هذه الحركات وقدرتها على تحدي وإحراج الدول المركزية بعمليات إرهابية نوعية.
من جهة أخرى، وبسبب تفكك الدولة في ليبيا واندلاع بعض النزاعات المسلحة القبلية، برز تحديان اثنان: الأول، هو رغبة بعض المجتمعات المحلية التي كانت مضطهدة في السابق في التمرد على الأيديولوجية القائمة. والتحدي الثاني، هو خلق بيئة محتضنة لنمو الجريمة والإرهاب تهدد استقرار المنطقة.
ومن أبرز صور التحديات الأمنية التي تواجه منطقة المغرب العربي والساحل الأفريقي تنامي الإرهاب المتمثل في تدبير عمليات إرهابية ضد مصالح الدول التي يُعتقَد أنها تنسق أمنياً مع الدول الغربية مثل فرنسا والولايات المتحدة. هذا علاوة على تنامي التهريب بكافة أشكاله، البشر والمخدرات والأسلحة، فكلها أنشطة تدر ربحاً على الجماعات المسلحة التي تتخذ من هذه المنطقة الممتدة شرقاً من ليبيا إلى الجزائر والمغرب غرباً، وإلى مالي وتشاد جنوباً قاعدة لها.
أسباب ودوافع "الانفصال القسري"
وفقاً لما سبق، يمكن بشكل موجز تناول بعض الأسباب الحديثة التي قد تدفع إلى الاعتقاد بأن منطقة شمال أفريقيا وجنوب الصحراء مرشحة بقوة لأن تعرف عمليات جديدة للانفصال القسري، ومن أبرزها:
1 ـ انتشار الجماعات المسلحة وتكاثرها ونشوء علاقات عابرة للحدود فيما بينها، ومن أبرز هذه الجماعات "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ويقوده عبد المالك درودكال الموالي لأيمن الظواهري، ويهدف التنظيم إلى محاربة التدخل الأمريكي- الفرنسي في المنطقة، وإقامة دولة إسلامية كبرى في منطقة المغرب العربي.
وكان من أبرز وجوه هذا التنظيم، مختار بلمختار، الذي انشق عنه في عام 2012، ليؤسس "حركة الموقعون بالدماء"، وهي تنشط على الجبهة الجنوبية بكل من مالي والنيجر، وله علاقات قوية مع جماعة "أنصار الدين" في شمال مالي، والتي يقودها "إياد أغ غالي"، والمتهمة بتصفية أكثر من 100 جندي مالي في عام 2012. كما يرتبط التنظيم بعلاقات قوية بجماعة "بو حرام" في نيجيريا، ويتخذ كلا التنظيمين من الجزائر والصحراء الكبرى قاعدة لانطلاق عملياتهما في أمكن متفرقة بالمنطقة.
وفي ليبيا تبرز "الجماعة الإسلامية المقاتلة" كأبرز التنظيمات التي تحدت نظام القذافي لأكثر من عقدين من الزمن إلى أن شاركت في الثورة الأخيرة التي أدت إلى سقوط نظامه بقيادة عبد الحكيم بلحاج، وهي تقود جماعات متعددة اليوم فيما يسمى تحالف عملية "فجر ليبيا".
كما يعد تنظيم القاعدة وواجهته "أنصار الشريعة" بقيادة محمد علي الزهاوي من أبرز التنظيمات المقاتلة في ليبيا، والتي أعلنت بنغازي إمارة إسلامية، في مثال صارخ على "الانفصال القسري" الذي بدأ يتغلغل في منطقة شمال أفريقيا، بل إن مدينة درنة أيضاً من المدن التي تحولت لإمارة بقيادة تنظيم أنصار الشريعة، والذي أعلن مبايعته لتنظيم "داعش".
وهنا تقدم حالة "أزواد" في مالي مثالاً صارخاً على حالات "الانفصال القسري" المتزايدة في منطقة المغرب العربي وجنوب الصحراء، والتي قد يصعب على هذه الدول مواجهتها في المستقبل نظراً لتشعبها وترابطها من جانب، والحاجة للتدخل العسكري الخارجي، كما حدث في مالي من جانب آخر.
لقد اجتمعت في مالي مختلف العوامل التي قادت لمثل هذا الانفصال، عندما تحالف عدد من الجماعات الإسلامية كالقاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، وأنصار الشريعة، وأنصار الدين مع الطوارق الأفارقة والليبيين الذين عادوا من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، وقاموا بانقلاب ضد الحكومة وسيطروا على مناطق عديدة في شمال مالي، وأعلنوها منطقة محررة تسمى "أزواد"، وهي منطقة بحجم ولاية تكساس الأمريكية.
ولا يقتصر الأمر على تلك التنظيمات الإرهابية المعروفة، فثمة بعض الحركات الأخرى التي تنشط في محيط مخيمات تندوف التابعة لجبهة البوليساريو المعارضة للحكومة المغربية والراغبة هي الأخرى في انفصال قسري للصحراء.
إذن كل هذه الجماعات المعروفة وغيرها مما يعتبر "خلايا نائمة" داخل دول المغرب العربي وأفريقيا شكلت خلال السنوات الأخيرة الأداة والنواة الرئيسية لفكرة "الانفصال القسري" عن الدول المركزية، وبدأوا تطبيقها في ليبيا ومالي، كما أنها منتشرة في الجزائر، وفي تندوف بالنسبة للمغرب، ولها امتدادات في أفريقيا لدى جماعة "بوكوحرام".
2 ـ الارتباط بين جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة، وهي ظاهرة تصاعدت منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، فمن ليبيا وحدودها الجنوبية الممتدة، تكونت وانتشرت الجماعات المسلحة والمليشيات، وانتقلت الأسلحة من تلك الجماعات التي استولت عليها من مخازن القذافي، وسط حدود مفتوحة خالية من الحراسة، لتصبح المنطقة بأكملها مرتعاً للخطف والاتجار في السلاح والمخدرات والبشر، وقاعدة انطلاق للمسلحين للقيام بعمليات كبيرة في بلاد أخرى.
وبالتالي فإن المميز في هذه الجماعات هو الامتداد العابر للحدود، والمهدد لفكرة الدولة المركزية ذات السيادة، لأنها تتمتع بالقدرة على التواصل والتنسيق، كما ظهر جلياً من خلال العمليات الميدانية التي قاموا بتنفيذها في مختلف دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
3 ـ السياسة الأمريكية في شمال إفريقيا، فقد ساهمت التدخلات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة في إذكاء ظاهرة "الانفصال القسري" المصاحبة لضعف الدولة المركزية من جراء هذه التدخلات. حدث ذلك في العراق، وكانت الفلوجة أولى الأمثلة على ذلك. وفي ليبيا وبعد الإجهاز على نظام القذافي بفضل ضربات الناتو، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام حالات انفصال قسري في ليبيا تهدد مصالحها النفطية ومصالحها في منطقة شمال أفريقيا كافة.
وهنا يلاحظ المتتبع للسياسة الأمريكية في محاولاتها لتحجيم تداعيات "الانفصال القسري" الآخذ في التصاعد في دول عربية وأفريقية، استعمالها للقوة العسكرية دون غيرها بدءاً من اليمن من خلال غاراتها المتتالية، وصولاً إلى حربها المعلنة ضد "داعش"، وهو ما يبدو مختلفاً عن الوضع في شمال أفريقيا، إذ رغم مقتل سفيرها في ليبيا ورغم تعدد العمليات في منطقة الساحل والصحراء وليبيا، فإن السياسة الأمريكية في المنطقة ترتكز فقط على التنسيق الأمني والتبادل المعلوماتي المخابراتي والحرب بالوكالة مثلما حدث في مالي.
وتتسم السياسة الأمريكية بالضبابية في الكثير من الأحيان، وظهر ذلك جلياً في عملية عين أميناس بالجزائر، والتي نفذتها مجموعت تابعة ل "مختار بلمختار" في يناير 2013، حيث بعض الأطراف داخل الادارة الأمريكية الحكومة الجزائرية على التدخل العسكري الذي أودى بحياة العشرات من الرهائن.
وما يجعل التدخل العسكري المباشر في المنطقة صعباً هو اتساع الرقعة الجغرافية التي تتحرك فيها الجماعات المسلحة من سيناء بمصر إلى منطقة غرب أفريقيا، كما أن الحكومات الهشة في تونس وليبيا - وحتى الجزائر في ظل مرض الرئيس بوتفليقة - يجعل من السهولة تعرض دول المنطقة لمزيد من انفلات وتصدع الدولة المركزية.
كما أن عودة المقاتلين من شمال أفريقيا إلى بلدانهم بعد مشاركتهم في سوريا والعراق، وتحولهم ضد حكومات هذه البلاد، سوف يصعب المهمة على حكوماتها وعلى الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها وعلى أمن هذه الدول.
تداعيات تنامي فكرة "الانفصال القسري"
تكمن مشكلة تصاعد ظاهرة "الانفصال القسري" كفكرة ومفهوم، في أنها أنتجت إلى غاية اليوم ما عجزت عنه العديد من الدول المركزية في العالم العربي، وهو التكتل عبر الحدود، والقدرة على تشكيل جبهات متعددة - طاردة أو مستقبلة أو صاهرة - للعديد من الثقافات والأعراق واللغات وربما حتى الأديان.
إن هذه الظاهرة التي إن ثبت صحتها في المنطقة، وتمادت على أرض الواقع، سيكون لها آثار وخيمة على منطقة شمال أفريقيا في المستقبل القريب، وكذلك على منطقة الشرق الأوسط؛ فالمناطق البي باتت خارج سيطرة الدول المركزية في تزايد، وكان آخرها العديد من المناطق باليمن التي سقطت في يد الحوثيين.
لذلك فإن اتساع رقعة "دويلات الانفصال القسري" جغرافياً وتزايد التنسيق بينهم، سوف يزيد من هشاشة الدولة المركزية، وقد يدخل المنطقة ككل في صراعات لا محدودة، قد تنتهي بزوال بعض الحدود التقليدية أو تعيد رسم بعضها على الأقل في المستقبل.
ومما لا شك فيه أن من أهم تداعيات تنامي هذه الظاهرة على دول شمال أفريقيا والساحل الأفريقي تفكك الدول المركزية، وشيوع الانفلات الأمني، وتنامي الإرهاب وجماعاته، وتكوين بيئات حاضنة للحركات المسلحة الباحثة عن قواعد للتدريب لانطلاق عملياتها في دول أخرى، وما يرتبط بكل ذلك من ظواهر الجريمة كتجارة المخدرات وتهريب السلاح والبشر، علاوة على تهديد الاستقرار بالمنطقة.