لا تزال الاشتباكات متواصلة بين القوات الإثيوبية المدعومة من ميليشيات الأمهرة وقوات إريترية من ناحية، وقوات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي من ناحية أخرى، منذ تجدد الصراع مرة أخرى في 24 أغسطس الماضي، وسط تصاعد القلق الدولي والإقليمي من إطالة أمد الحرب.
تطورات المشهد العملياتي:
شهدت الأيام الأخيرة تطورات مهمة على صعيد المشهد العملياتي لهذه المواجهات المستمرة حتى الآن، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تصاعد الاشتباكات في غرب تيجراي: شهدت الأيام الماضية تصاعداً حاداً في وتيرة الاشتباكات بين القوات الإثيوبية وجبهة تيجراي، خاصة عند منطقة الحمرة، حيث تسعى الجبهة للسيطرة على هذه المنطقة، لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لهم، كونها ستشكل منفذاً مهماً للإمدادات من الخارج، فيما تستهدف القوات الإثيوبية والإريترية تكثيف تعبئتها العسكرية هناك للحيلولة دون حصول تيجراي على هذا المنفذ.
وأشارت تقارير إلى مشاركة بعض قوات تيجراي التي كانت متمركزة داخل الأراضي السودانية، وذلك بالتوازي مع التقارير التي صدرت هذا الأسبوع عن الأمم المتحدة، والتي تفيد بوجود عمليات تجنيد إجباري داخل مخيمات اللاجئين الإثيوبيين في شرق السودان.
ومن ناحية أخرى، سعت جبهة تيجراي للتقدم على طريق "عدي أركاي - جوندر" للالتفاف من خلاله وشن هجمات على القوات الحكومية في غرب تيجراي، إلا أن هذه التقارير رصدت تعرض الطريق لقصف جوي مكثف من قبل القوات الإثيوبية والإريترية، لمحاولة وقف تقدم قوات التيجراي من خلال هذا الطريق.
وعلى الجانب الآخر، أعلن المتحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، غيتاتشو رضا، في 7 سبتمبر الجاري، أن القوات الإريترية تستعد حالياً لشن هجمات في عدة جبهات، على غرار راما وتسيرونا وزالامبيسا ودلول.
2- ضبابية المشهد في الجبهة الجنوبية: يتسم الموقف في الجبهة الجنوبية، وتحديداً تقدم جبهة تيجراي داخل إقليمي الأمهرة والعفر بالضبابية، فقد أشارت تقارير محلية إلى تغلغل تيجراي بعمق 50 كيلومتراً داخل إقليم الأمهرة، وسيطرتها على ثماني بلدات هناك، بالإضافة إلى سيطرتها على بعض المناطق داخل إقليم العفر، على غرار منطقة يالو، لكن يبدو أن تقدم الجبهة قد تعطل بعد سيطرتها على منطقة كوبو، لاسيما بعدما قامت القوات الإثيوبية باستهداف جسر هواها ملاش، لعرقلة تقدم قوات التيجراي داخل إقليم الأمهرة.
ومع ذلك تضاربت الأنباء بشأن تمكن الجبهة من السيطرة على منطقة سقوطا، حيث أشارت بعض التقديرات غير المؤكدة إلى تمكن قوات تيجراي من التقدم من منطقة كوريم باتجاه سقوطا داخل الأمهرة، بهدف قطع الإمدادات للقوات الإثيوبية عبر طريق لابيدا – سقوطا. وكذلك الحال بالنسبة لمنطقة ويلديا، حيث لا تزال التصريحات متضاربة بشأن تمكن الجبهة من السيطرة عليها من عدمه.
3- استمرار الاتهامات المتبادلة: وجهت الحكومة الإثيوبية اتهامات لجبهة تيجراي بالقيام بقتل المدنيين وتدمير الممتلكات في ولايتي الأمهرة والعفر، فيما أعلن غيتاتشو رضا قيام الحكومة الإثيوبية بشن معارك عنيفة في عدة مناطق داخل إقليم تيجراي والمناطق المتاخمة لها.
موقف داخلي مأزوم:
يمكن رصد جملة من الارتدادات المحتملة للتطورات العسكرية الأخيرة على المشهد الداخلي، وذلك على النحو التالي:
1- تفاقم الحصار على تيجراي: من المرجح أن تفضي عودة الاشتباكات إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في منطقة تيجراي وتوقف المساعدات الإنسانية كافة، وهو الأمر الذي أكدته الأمم المتحدة بالفعل، في 8 سبتمبر الجاري، وانعكس كذلك في تصريحات زعيم جبهة تيجراي، والذي أكد أن قواته ستكافح لرفع الحصار المفروض عليها.
ورجحت تقديرات وجود تحديات كثيرة ربما تحول دون تمكن قوات تيجراي من تخفيف الحصار المفروض عليها على المدى القصير، حتى مع القدرات العسكرية التي تمتلكها الجبهة، في ظل صعوبة اختراق القوات المشتركة من الحكومة الفيدرالية وقوات الأمهرة والقوات الإريترية.
وأصدرت نحو 35 منظمة مجتمع مدني في الداخل الإثيوبي تحذيرات من التداعيات الكارثية المترتبة على الصراع الراهن في منطقة تيجراي وعدة مناطق أخرى، ملوحة إلى أن هذه الصراعات باتت تهدد بقاء الدولة الإثيوبية.
2- زيادة العزلة الدولية لإثيوبيا: أشارت عدة تقارير إلى وقوع تجاوزات وانتهاكات من جانب القوات الإثيوبية والإريترية في منطقة تيجراي، وهو ما سيزيد الضغوط الغربية على أديس أبابا، لا سيما مع الانتقادات الأمريكية الأخيرة لانخراط أسمرة مرة أخرى في الصراع، الأمر الذي قد يفاقم من حالة العزلة على الحكومة الإثيوبية، في ظل تحديات اقتصادية حادة تعانيها الأخيرة.
وفي هذا السياق، دعا تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية، في 7 سبتمبر الجاري، الأمم المتحدة والمانحين الغربيين إلى ضرورة تعزيز التعاون مع الحكومة المحلية في منطقة تيجراي والاعتماد على ميناء جيبوتي كبديل عن أديس أبابا في الاتصال المباشر مع تيجراي، وتمرير السلع والمساعدات بغية تفعيل جهود إعادة الإعمار، كما دعا التقرير الشركاء الدوليين للضغط على الحكومة الإثيوبية للتوقف عن إعاقة هذه الجهود.
وفي هذا الإطار، ربطت بعض التقديرات بين الضغوط الغربية وبين الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، إلى الجزائر، نهاية أغسطس الماضي، حيث رجحت بعض التقديرات محاولة أديس أبابا الحصول على دعم الجزائر في هذا الشأن، بيد أنه، حتى الآن، لايزال موقف الجزائر غامضاً.
3- استنزاف القوات الإثيوبية: أشارت العديد من التقديرات إلى أن قوات الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا لا تزال غير قادرة على تحقيق انتصار حاسم في تيجراي، فضلاً عن غياب استراتيجية عسكرية واضحة لحكومة آبي أحمد، الأمر الذي يجعل سيناريو إطالة أمد الحرب قائماً بقوة، مما قد يزيد من استنزاف القوات الحكومية، خاصة أن غالبية التقديرات، حتى الآن، تذهب في اتجاه أن الصراع هذه المرة يرتكز في منطقة تيجراي ومحيطها، مع تجنب الجبهة التوجه لتوسيع هجماتها نحو العاصمة الإثيوبية، لتجنب إثارة غضب الشركاء الدوليين.
ارتدادات إقليمية محتملة:
يمكن رصد جملة من الارتدادات الإقليمية المحتملة لتجدد الصراع الداخلي في إثيوبيا، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تخوفات من تمدد الصراع للسودان: شهدت الأيام الأخيرة مواجهات مكثفة بين طرفي الصراع الإثيوبي في المناطق المتاخمة للحدود السودانية، حتى أن بعض التقارير المحلية غير المؤكدة أشارت إلى عبور بعض القوات الإثيوبية للحدود السودانية وتسليم نفسها إلى الخرطوم، في 4 سبتمبر الجاري. وثمة تخوفات متزايدة من احتمالية تصاعد وتيرة الاشتباكات في هذه المنطقة، أو حتى امتداداتها إلى داخل الحدود السودانية، الأمر الذي قد يسفر عن انخراط الخرطوم في الأزمة، خاصةً في ظل اتهامات أديس أبابا للأخيرة بدعم جبهة تيجراي، إضافة إلى الأزمة القائمة بين البلدين بشأن المناطق الحدودية المتنازع عليها بينهما.
2- انخراط متنامٍ للقوات الإريترية: تبدو فكرة تجدد الصراع في منطقة تيجراي أكثر قبولاً بالنسبة للرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، نظراً لمعارضته أي تقارب بين أديس أبابا وجبهة تيجراي، حتى لا يتجدد نفوذها على الحكومة الإثيوبية، فثمة عداء تاريخي بين الجبهة والنظام الحالي في أسمرة، ويخشى الرئيس أفورقي من استعادة جبهة تيجراي لقوتها ومحاولتها توسيع تمددها نحو الأراضي الإريترية، بما يهدد نظامه القائم هناك منذ التسعينيات.
ولعل هذا ما يفسر احتفاظ إريتريا ببعض قواتها في المناطق الغربية والشمالية الشرقية لتيجراي، وبالتالي، فحتى وإن لم تنجح هذه الاشتباكات في القضاء على جبهة تيجراي تماماً، يسعى الرئيس الإريتري إلى استنزاف قوة الجبهة، فضلاً عما تمثله فكرة استنزاف القوات الإثيوبية ذاتها من مكاسب استراتيجية بالنسبة للجانب الإريتري، لضمان استمرارية نفوذ أسمرة وتعزيز تحالفاتها مع أديس أبابا.
3- نشاط متنامٍ لحركة الشباب الصومالية: تشهد الصومال تزايداً مضطرداً للنشاط الإرهابي لحركة الشباب، والتي بدأت تكثف من هجماتها ضد مقديشو، فضلاً عن محاولاتها الراهنة للتمدد إقليمياً، وهو ما انعكس في الهجمات التي شنتها الحركة داخل الأراضي الإثيوبية مطلع أغسطس 2022، وبالتالي ثمة تخوفات من احتمالية استغلال الحركة للأوضاع الأمنية الهشة في الوقت الراهن وتكرار هجماتها ضد أهداف إثيوبية، أو محاولة السيطرة على بعض المناطق الاستراتيجية داخل الأراضي الإثيوبية، ناهيك عن القلق الراهن من تصعيد وتيرة الهجمات الإرهابية لحركة الشباب داخل الصومال، مستغلة في ذلك انشغال القوات الإثيوبية بالمشاركة في القتال ضد تيجراي.
4- تكثيف الجهود الدولية: يرجح أن تشهد الفترة المقبلة تكثيف الانخراط الدولي في الملف الإثيوبي، وهو ما انعكس في الزيارة العاجلة التي قام بها المبعوث الأمريكي إلى منطقة القرن الأفريقي، مايك هامر، إلى أديس أبابا مطلع سبتمبر، وذلك لمحاولة إيجاد تسوية تحول دون استمرار الاشتباكات في منطقة تيجراي، كما التقى هامر بالمبعوثة الأممية لمنطقة القرن الأفريقي، هنا سيروا، حيث تكثف القوى الدولية والأممية من جهودها حالياً للتوصل إلى توافقات جديدة لوقف القتال، بعد تراجع فاعلية هذا الدور خلال الفترة الماضية.
وفي الختام، قد تمثل الحرب الراهنة بين جبهة تيجراي والحكومة الإثيوبية حرباً استباقية خاطفة من قبل طرفي الصراع، في محاولة من جانبهما لتعزيز وضعهما العسكري قبل العودة لمائدة المفاوضات مجدداً، حيث تسعى الجبهة للضغط على الحكومة الإثيوبية لإجبارها على التفاوض، ولكنها بعد تحقيق مكسب عملياتي يعزز من موقفها التفاوضي، وربما هذا ما يفسر تركز الاشتباكات على المناطق المتاخمة للحدود السودانية، ومحاولة الحصول على منفذ مهم للإمدادات من الخارج، فيما تسعى الحكومة الإثيوبية للضغط على تيجراي لإجبارهم على التفاوض غير المشروط، غير أن المشهد العملياتي الراهن ربما ينذر بانزلاق الطرفين إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.