نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في 28 أغسطس 2022، ما ذكرت أنه المسوّدة النهائية المُقترحة من جانب الاتحاد الأوروبي، لإعادة إحياء الاتفاق النووي، والتي تم تقديمها إلى الطرفين الإيراني والأمريكي، خلال شهر يوليو 2022.
ويأتي هذا في الوقت التي أصبحت فيه مسألة الملف النووي الإيراني تحتل أولوية لدى الرأي العام والحكومة الإسرائيلية، وصار الحديث الأبرز يدور حول خيارات تل أبيب للتعامل مع الأمر الواقع، وهو اقتراب عودة الاتفاق النووي الإيراني مرة أخرى، خاصةً مع تعقد الأمور في هذه المرحلة الزمنية تحديداً، بسبب الحسابات الانتخابية في كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
ففي إسرائيل، يخشى رئيس الوزراء الحالي، يائير لابيد، من أن إعادة إحياء الاتفاق النووي خلال هذه الأيام قد يُقوِّض فرصه في انتخابات الكنيست المُقررة في شهر نوفمبر 2022، وهو ما يحاول منافسه بنيامين نتنياهو استغلاله، تمهيداً لعودته مرة أخرى إلى المنصب. أما في الولايات المتحدة، فيخشى الرئيس جو بايدن أن يفقد حزبه الأغلبية في الكونجرس خلال انتخابات التجديد النصفي القادمة في شهر نوفمبر أيضاً، لتصبح مهمته في موافقة الكونجرس على العودة للاتفاق النووي صعبة.
مراحل الخطة:
وفقاً لصحيفة "هآرتس"، فإن مسوّدة الاتحاد الأوروبي المُقترحة لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وضعت إطاراً زمنياً مدته 165 يوماً من تاريخ التوقيع، وبعدها يدخل الاتفاق حيز التنفيذ الكامل. وخلال هذه الفترة، سيتوجب على الطرفين المرور بأربع جولات تهدف بالأساس إلى إرساء الثقة بينهما، وذلك على النحو التالي:
1- الجولة الأولى "اليوم صفر": ستنطلق هذه الجولة مباشرة بعد "اليوم صفر"، وهو اليوم الذي يتم فيه توقيع الاتفاق. وقبل يوم التوقيع، من المُفترض أن يتم الانتهاء من صفقة لإطلاق سراح سجناء غربيين من السجون الإيرانية، مقابل فك الحصار عن أموال إيرانية موجودة في حسابات بنكية دولية مختلفة، وتخفيف أوّلي للعقوبات. وفي الوقت نفسه، سيُطلَب من إيران تجميد جميع انتهاكاتها السابقة للاتفاق، لكنها ستكون قادرة على الاحتفاظ بمخزون اليورانيوم الذي تراكم لديها حتى الآن.
2- الجولة الثانية "موافقة الكونجرس الأمريكي": من المُفترض في هذه الجولة أن يُقدم الرئيس الأمريكي الاتفاق إلى مجلسي الشيوخ والنواب، خلال مدة أقصاها 5 أيام من تاريخ التوقيع، وذلك حتى يتم التصويت عليه خلال مدة أقصاها 30 يوماً من تلك اللحظة. وخلال هذه الفترة، لن تكون هناك إمكانية لتخفيف العقوبات الأمريكية على إيران، والتي أُقرت بتشريعات سابقة.
وعلى الرغم من وجود قانون "إينارا"، الذي تم إقراره في مايو 2015، والذي يُلزِم الإدارة الأمريكية بطرح أي اتفاق نووي جديد مع إيران للتصويت أمام الكونجرس، فإن بعض التقارير تتوقع أن يلتف بايدن على هذه الخطوة، ولا يقوم بعرض الاتفاق على الكونجرس من الأساس، بحجة أن هذا الاتفاق ليس جديداً، وإنما هو إعادة إحياء للاتفاق السابق. ولكن هذا يعني، أن الاتفاق – حال تمريره – من دون موافقة الكونجرس، يمكن الانسحاب منه مستقبلاً، مرة أخرى كما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب، إذا وصل إلى البيت الأبيض رئيس جمهوري في عام 2024.
3- الجولة الثالثة "إبلاغ المنظمات الدولية": في هذه الجولة، وبعد 60 يوماً من الموافقة على الاتفاق الإيراني في الكونجرس، يقوم ممثل وزارة الخارجية الأمريكية بإبلاغ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بشأن قرار العودة إلى الاتفاق.
4- الجولة الرابعة "التنفيذ الكامل للاتفاق": بعد 60 يوماً أخرى، يأتي التنفيذ الكامل للاتفاق، حيث تقوم الولايات المتحدة وإيران بإصدار إعلان مشترك بالتزامهم ببنود هذا الاتفاق، ثم تقوم واشنطن برفع العقوبات المُتبقية التي كانت مفروضة على طهران، ويُرفَع حظر التجارة معها، على أن تقوم إيران بالتخلص من البنية التحتية للتخصيب المُتفق على إزالتها.
خيارات إسرائيل:
وجدت الحكومة الإسرائيلية الحالية نفسها في معركة سياسية مزدوجة، فهي تحاول من جانب تقويض فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي، أو تفريغه من مضمونه بفرض شروطها عليه من خلال واشنطن، ومن ناحية أخرى، فهي مُكبَّلة بالحسابات الانتخابية التي تجعلها مُضطرة إلى وضع "الرأي العام الإسرائيلي" في تقييمها لكل خيار قد تُقدِم عليه. وبناءً عليه، قد تجد الحكومة الإسرائيلية الحالية نفسها أمام ثلاثة خيارات في مواجهة الاتفاق النووي الإيراني، وهي كالتالي:
1- ضغوط دبلوماسية بنهج مختلف عن نتنياهو: تُكثف إسرائيل جهودها الدبلوماسية من أجل منع الولايات المتحدة من إعادة إحياء الاتفاق النووي، أو فرض شروطها عليها، وهو ما اتضح من تصريحات لابيد تعليقاً على مسوّدة الاتحاد الأوروبي، حيث قال: "إن إسرائيل تُقاتل على عدة جبهات دبلوماسية بهدف وقف توقيع اتفاق نووي جديد".
ويأتي هذا بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيال حولاتا، لواشنطن، في الأسبوع الأخير من أغسطس 2022، والتي تركّزت حول الاتفاق النووي المرتقب، والتزام الولايات المتحدة بضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي. وكذلك، يزور رئيس الموساد، ديدي بارنيا، واشنطن، خلال الأسبوع الأول من سبتمبر الجاري، للغرض نفسه.
أما حول الاستراتيجية التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية في ممارسة ضغوطها على واشنطن، فيبدو أنها تختلف عن استراتيجية نتنياهو في السابق؛ حيث لم تعد إسرائيل تُركِّز على إبراز مخاطر القنبلة النووية الإيرانية، وإنما على الآثار الجانبية للاتفاق، والتي يمكن أن تكون ذات نتائج كارثية. وهنا تُركِّز الدعاية الإسرائيلية على تقديرات "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" FDD، التي تشير إلى أنه في حال توقيع الاتفاق النووي، وانفتاح إيران على الاقتصاد العالمي، سوف يتدفق إلى الاقتصاد الإيراني ما يقرب من تريليون دولار بحلول عام 2030. أي أن الاتفاق سوف يمنح إيران 100 مليار دولار سنوياً لاستخدامها في زعزعة الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط، عن طريق تمويل أنشطة الحرس الثوري وقوات "الباسيج" وحزب الله اللبناني والحوثيين وغيرهم من الميليشيات في الإقليم. كما تُحذِّر إسرائيل من أن إيران يمكن أن تتحول إلى منفذ لإنقاذ روسيا من العقوبات الغربية، عن طريق تأسيس شركات وهمية في طهران تكون وجهة لأنشطة موسكو الاقتصادية في العالم.
ويحاول لابيد تسويق هذه الاستراتيجية عن طريق مقارنتها بممارسات نتنياهو في عام 2015، والتي ركّزت على الاصطدام بإدارة باراك أوباما، وبالتالي لم تستطع إسرائيل حينئذ فرض شروطها على الاتفاق النووي. وحينما دفع نتنياهو الرئيس السابق ترامب للخروج من الاتفاق، فإنه لم يضع بديلاً. وبالتالي يرى لابيد أن الأزمة الراهنة إنما هي إرث سياسات نتنياهو الخاطئة.
كما يشير لابيد إلى أن استراتيجية حكومته المُتمثلة في تنشيط الحوار مع إدارة بايدن قد أسفرت عن "سلسلة من الإنجازات"؛ تمثلت في ترك الحرس الثوري الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية، من دون ربطه بالاتفاق الجديد، وتأجيل رفع العقوبات الكبرى إلى المرحلة الأخيرة من تطبيق الاتفاق.
2- التمسك بالخيار العسكري: في يونيو 2022، خرجت تسريبات حول ما سُمي بـ "استراتيجية الأخطبوط"؛ وهي استراتيجية عسكرية وضعتها حكومة نفتالي بينيت خلال عام 2021، لضرب إيران مباشرة (رأس الأخطبوط) وليس فقط وكلائها وأذرعها في المنطقة، وهي بذلك ترمي إلى ضرب البرنامج النووي الإيراني وتخريبه، فضلاً عن استهداف برامج طهران العسكرية، ما قد يُمهِّد إلى تقويض النظام برمته.
ومنذ بداية عام 2022، نُسِبَت العديد من الهجمات العسكرية المُوجهة ضد إيران إلى إسرائيل؛ ففي فبراير الماضي خرجت تقارير تُفيد بتدمير أسطول من الدرونز الإيرانية التي كانت متمركزة في قاعدة جوية بالقرب من كرمانشاه في غرب إيران، وذلك عن طريق 6 طائرات مُسيّرة إسرائيلية انطلقت من كردستان العراق. هذا علاوة على عمليات القبض على عملاء إسرائيليين داخل إيران، والتي كان آخرها في يوليو 2022.
وإلى جانب ما سبق، يبدو أن الخيار العسكري تتمسك به الأطراف الإسرائيلية كافة - على اختلاف وجهات نظرها - في مواجهة الاتفاق النووي؛ فقد ذكر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، في خطاب ألقاه في 17 يوليو 2022، أن الجيش الإسرائيلي يستعد لحملة عسكرية ضد إيران، سواء في حال فشل التوصل إلى اتفاق واستمرار البرنامج النووي الإيراني في التوسع، أو في حالة التوصل إلى اتفاق سيئ. وحتى لابيد، الذي يُشدد على أهمية الخيار الدبلوماسي، أوضح لمجلس الوزراء الإسرائيلي أن التفاوض مع الإيرانيين يجب أن يستند إلى تهديد عسكري إسرائيلي للإيرانيين "ذا مصداقية".
وقد تعزّزت فرضية أن حكومة لابيد لن تتخلى عن الخيار العسكري، حتى في ظل مفاوضاتها مع واشنطن، من تلك التسريبات التي خرجت في أغسطس الماضي، بشأن قيام طائرات مقاتلة متطورة من الجيل الخامس تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي من طراز "F-35" باختراق المجال الجوي الإيراني أكثر من مرة، خلال شهري يوليو وأغسطس 2022؛ وهو ما بدا وكأنه إعداد إسرائيلي، وكذلك تحذير، لسيناريو ضرب المنشآت النووية الإيرانية عن طريق طائرات "F-35"، خاصةً وأن إسرائيل أجرت مؤخراً تدريبات جوية ضخمة للتزود بالوقود فوق البحر المتوسط، وأضافت إلى طائرة "F-35" قنبلة جديدة تزن طناً واحداً.
كما يُذكر أنه في مايو 2022، أجرى سلاح الجو الإسرائيلي مناورات جوية فوق البحر الأبيض المتوسط لمحاكاة هجوم على المنشآت النووية الإيرانية كجزء من مناورة عسكرية واسعة النطاق سُميت "عربات النار".
3- محاولة إرجاء الاتفاق إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي الأمريكية: بالتزامن مع الخيارات السابقة، سيكون من مصلحة إسرائيل الضغط على الولايات المتحدة لإرجاء توقيع الاتفاق مع إيران، وتأخير بدء خطة الـ 165 يوماً إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، حيث يعني توقيع الاتفاق خلال هذه الفترة أن الكونجرس وفق تشكيله الحالي، لن يكون قادراً على عرقلته. فوفق قانون "إينارا"، تتطلب عرقلة الاتفاق من جانب مجلسي الكونجرس الحصول على ثُلثي الأصوات، وهذا العدد غير متوفر حالياً لمُعارِضي هذا الاتفاق، الذين ينتمون بالأساس إلى الحزب الجمهوري.
وعلى ذلك، قد تدفع إسرائيل في اتجاه إرجاء التوقيع على الاتفاق النووي، على أمل أن تأتي انتخابات التجديد النصفي الأمريكية بنتائج في صالح الحزب الجمهوري ومُعارِضي الاتفاق، وربما ينجح مجلسا الكونجرس حينها في حشد أغلبية الثُلثين القادرة على تقويض الاتفاق النووي من الأساس.
إجمالاً، وبعيداً عن عمليات التعبئة التي يقوم بها اليمين الإسرائيلي، بقيادة نتنياهو، لرفض الاتفاق الإيراني المُرتقب، والتمسك بالخيار العسكري؛ فإن عدداً من الدوائر الأكاديمية في إسرائيل ترى أن الخيار العسكري وحده حالياً غير قادر على إنهاء الخطر النووي الإيراني، وأن استمرار رفع حالة التأهب العسكري بمعدلات عالية ستكون مُرهِقة للاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعاني بالفعل جرّاء تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية. كما يرى هذا الاتجاه أن التوصل إلى اتفاق جيد، من المنظور الإسرائيلي، هو الخيار الأفضل، خاصةً أن الأنشطة النووية الإيرانية تضاعفت خلال السنوات التي قضتها خارج الاتفاق، حيث ارتفعت ميزانية الحرس الثوري بالفعل، وازداد إنتاج طهران لأجهزة الطرد المركزي، لتصل إلى معدل 500 جهاز سنوياً، بعد أن كان الاتفاق يُلزِمها بإنتاج 200 جهاز كحد أقصى.