أعلنت تركيا وإسرائيل، في السابع عشر من أغسطس الجاري، عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بينهما، والتي كانت قد مرت بفترات توتر شديد منذ عام 2009، على خلفية توجيه أنقرة انتقادات شديدة للسياسة الإسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية، مروراً بأعنف أزماتها في مايو 2010 عقب مهاجمة إسرائيل السفينة التركية "مافي مرمرة"، التي حاولت الوصول إلى قطاع غزة والضغط على إسرائيل لرفع الحصار عن القطاع، وانتهاءً بتبادل البلدين سحب السفراء عقب اعتراف واشنطن في عام 2018 بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإعلان الأخيرة نيتها ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة.
تغيرات إقليمية:
على الرغم من الأسئلة العديدة التي يمكن أن تطرحها عودة العلاقات التركية – الإسرائيلية، مثل دوافع كل منهما لتحقيق هذه الخطوة ودلالة توقيتها، فإننا سنناقش قضية محددة وهي التداعيات الإقليمية لعودة هذه العلاقات، وكيفية تأثيرها على سياسات العديد من الفاعلين الإقليميين مُستقبلاً. وتبدو أهمية ذلك من الإقرار الإسرائيلي منذ سنوات بأن العلاقات مع تركيا، منذ نشأتها في عام 1949، لم تكن أبداً علاقات ثنائية، بل تداخلت فيها قوى دولية وإقليمية على الدوام لتضعها في سياق أوسع من مجرد علاقات عادية بين بلدين. فعلى سبيل المثال، كتب الخبير الإسرائيلي في الشأن التركي "عوديد عيران" في أعقاب حادث "مافي مرمرة"، قائلاً: "لا يمكن النظر إلى العلاقات الإسرائيلية - التركية بعيداً عن رؤية الولايات المتحدة لأهمية هذه العلاقات للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وهذا يعني ضرورة النظر إلى علاقة البلدين في إطار ثلاثي وليس ثنائي".
وتعقيباً على توتر العلاقات التركية – الإسرائيلية في تلك الفترة، صرّح إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، في مارس 2011، قائلاً: "لا يمكن لإسرائيل إلا أن تحظى بعلاقات قوية مع واحدة على الأقل من القوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة؛ مصر وإيران والسعودية وتركيا. وكما نرى بعد ثورات الربيع العربي وما أدّت إليه من تغيير في مصر، والتوجهات العدوانية الإيرانية المُتصاعدة ضد إسرائيل، وإحجام السعودية عن إقامة علاقات مع إسرائيل.. في ظل كل ذلك على إسرائيل أن تُولي اهتماماً أكبر لاستعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا".
ومع الأخذ في الاعتبار وقوع عدة تغيرات في الإقليم خلال السنوات العشر التي انقضت منذ إطلاق عيران وباراك تصريحاتهما سالفة الذكر، مثل عودة الاستقرار لمصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان الإرهابية في عام 2013، وتأسيس منتدى شرق المتوسط للطاقة، وانطلاق مسيرة السلام الإبراهيمي، وتأكيد إدارة بايدن استمرار اهتمامها بالشرق الأوسط ونفي بعض التقديرات التي كانت تذهب نحو العكس؛ يمكن القول إن تركيا، التي اتبعت سياسات عدائية ضد العديد من القوى الإقليمية خلال نفس الفترة (2011-2021)، قد أيقنت مؤخراً مدى الضرر الذي ألحقته هذه السياسات بمصالحها المباشرة، بسبب اصطدامها مع مصالح العديد من القوى الإقليمية المُهمة، وتحديداً مصر وإسرائيل وبعض دول الخليج.
ومن ثم لم تأت خطوة إعادة العلاقات التركية مع إسرائيل بعيداً عن سياق دولي وإقليمي أوسع، حيث تزامنت عودة هذه العلاقات مع تصريحات ودية تجاه مصر ودول الخليج من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى الكشف عن لقاء جمع وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، مع نظيره السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عُقد في أكتوبر الماضي، بالعاصمة الصربية بلجراد.
وتؤكد هذه التوجهات التركية أن أنقرة أرادت من جانب تأكيد أنها في سبيلها لتغيير نمط سياستها الخارجية على نحو يخدم الاستقرار الإقليمي، كما رغبت في تفادي الاعتراض المُحتمل للرأي العام التركي - الذي تُظهر استطلاعات الرأي غلبة النظرة السلبية من جانبه تجاه إسرائيل- على خطوة إعادة العلاقات مع تل أبيب، وذلك عبر جعل تلك الخطوة في سياق تغيير كلي في السياسة الخارجية التركية وليس حيال إسرائيل وحدها.
تداعيات ثلاثية:
يمكن تقسيم التداعيات الإقليمية المُحتملة لعودة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى طبيعتها، وفقاً لثلاث دوائر رئيسية، وهي كالتالي:
1- دائرة شرق المتوسط:
تسبب تدهور العلاقات التركية - الإسرائيلية على مدى العقد الماضي، في قيام تل أبيب بتقوية علاقاتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع كل من اليونان وقبرص، لتعويض خسارتها للعلاقات مع أنقرة. كما أدى تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط" في عام 2019، والذي يستبعد تركيا ويجمع كلاً من قبرص واليونان ومصر وإسرائيل والأردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، إلى شعور أنقرة بالعُزلة مع احتمال عدم تمكنها من التوصل لاتفاق مع بعض من هذه الدول لتمرير منتجها من الغاز عبر أنابيب تمر بتركيا وصولاً إلى أوروبا، وهو ما يشكل خسارة اقتصادية كبيرة لها في ظل المشكلات التي بدأت في الظهور في المشروعات التركية - الروسية المُماثلة، خاصةً مع نشوب الحرب الأوكرانية وتخطيط دول الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتمادها على واردات الغاز الروسي أو الاستغناء عنها كلية. أيضاً، تسبب عداء تركيا لمصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان، واتجاه أنقرة للضغط على القاهرة عبر التدخل العسكري في ليبيا ومحاولة ترسيم الحدود البحرية معها؛ في تزايد التوتر في العلاقات بين تركيا وكل من مصر واليونان وقبرص.
ومع إدراك تركيا محدودية قدرتها على مواجهة كل هذه القوى الإقليمية في آنٍ واحد، فإن الرئيس أردوغان يأمل، عبر استعادة علاقاته مع إسرائيل، في أن تلعب الأخيرة دوراً كبيراً في التوسط بينها وبين هذه الدول؛ سعياً لمنح تركيا نصيباً في ثروات الطاقة أو الفوائد اللوجستية المُترتبة على المشروعات المشتركة في قطاعي الغاز والطاقة عامةً بين هذه الدول. ولتحقيق ذلك، صرح الرئيس أردوغان بضرورة السعي إلى تخفيف التوتر مع مصر بالإعلان صراحةً أنه لا يريد مواجهه تركية - مصرية في ليبيا.
وتبقى عملية تحسين العلاقات مع اليونان وقبرص مُعضلة حقيقية بالنسبة لتركيا، في ظل تأكيد إسرائيل أن تحسن علاقتها بأنقرة لا يعني الإضرار بعلاقاتها مع كل من اليونان وقبرص. ومن ثم لن يكون بوسع أنقرة المراهنة على دور إسرائيلي كبير في تخفيض التوتر مع هاتين الدولتين، ولكن يبدو أن تركيا تحاول التغلب على أزمة علاقاتها مع اليونان وقبرص عبر الامتناع عن أنشطة التنقيب عن الغاز في المياه الدولية أو تلك المُتنازع عليها مع الدولتين، على أمل أن تُسهم عملية تحسن العلاقات مع إسرائيل حالياً ومع مصر مُستقبلاً في تهيئة الظروف للتوصل إلى صيغة جماعية تقبل بها اليونان وقبرص وتراعي المصالح التركية في هذا الجانب.
وتجدر الإشارة إلى تأكيد وزير الخارجية التركي، تشاوش أوغلو، أن استعادة العلاقات مع إسرائيل لا يعني التراجع عن دعم القضية الفلسطينية، وهو تصريح موجه للسلطة الفلسطينية والأردن تحديداً، لطمأنتهما بأن تركيا ما تزال تؤيد حل الدولتين، وأنها لا تؤيد سعي إسرائيل للتنصل من تطبيق هذا الحل.
2- الدائرة الإيرانية:
تسبب التوتر الشديد في العلاقات الإسرائيلية - التركية في اتجاه أنقرة لتدعيم علاقاتها مع إيران، ومن ثم يبدو مُتوقعاً أن تؤدي عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى شعور طهران بالقلق لأكثر من سبب، كالتالي:
أ- في ظل تعقيدات الأوضاع في سوريا خلال العقد الماضي، وجدت إسرائيل نفسها في موقف عُزلة إقليمية حرمها من التأثير في مجريات الوضع السوري بعد أن أصبحت إيران وتركيا وروسيا الأطراف المُتحكمة في الصراع، ولكل منها أدواته الأمنية والعسكرية للدفاع عن مصالحه. وتراهن إسرائيل على أن يؤدي تحسن علاقاتها مع تركيا إلى مزيد من الضغط على إيران داخل الجبهة السورية، كما يمكن لإسرائيل وتركيا أن تتوافقا على نوع من التعاون لأجل إخراج إيران وربما روسيا من المُعادلة السورية، وهو ما يُشكل تهديداً كبيراً للطموحات الإيرانية في تعزيز نفوذها الإقليمي.
ب- إن منطقة آسيا الوسطي ودولها، خصوصاً أذربيجان، كانت وماتزال محور صراع على النفوذ والمصالح بين كل من إسرائيل وتركيا وإيران، ومن شأن تحسن العلاقات التركية - الإسرائيلية أن يُقلل من عوائد الجهد الذي بذلته طهران للتقارب مع أنقرة خلال العقد الماضي فيما يتعلق بالاتفاق على إبعاد النفوذ الإسرائيلي عن منطقة وسط آسيا.
ج- مع تحسن العلاقات التركية - الإسرائيلية، تخشى إيران من زيادة التعاون العسكري والأمني بين أنقرة وتل أبيب كما كان الوضع عليه في تسعينيات القرن الماضي، بحيث تستعيد إسرائيل موقعاً مُتقدماً لمراقبة الأنشطة التسليحية لإيران، مع عدم استبعاد أن يؤدي هذا التقارب مُستقبلاً إلى انضمام تركيا - التي تسعي للاستفادة من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المُتطورة – إلى المعسكر المُنادي بوضع قيود مشدده على مشروع إيران النووي وعلى تجاربها لإنتاج الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية.
د- تخشى طهران من تأثير عودة العلاقات التركية - الإسرائيلية على التفاهمات التي توصلت إليها مع أنقرة في يوليو الماضي والتي تستهدف رفع التبادل التجاري بين البلدين من 7 مليارات دولار حالياً إلى 30 مليار دولار خلال العقد القادم. وتدرك إيران أن تركيا التي تمر بأزمة اقتصادية خانقة، تحتاج إلى إسرائيل لجذب الاستثمارات الأجنبية الضرورية لتخفيف حدة هذه الأزمة، ومن ثم قد تفضل أنقرة التراجع عن خططها الاقتصادية الطموحة مع طهران تجنباً لتأثر علاقتها بإسرائيل.
3- الدائرة الخليجية:
في عام 2020 بدأت مسيرة "السلام الإبراهيمي" التي أدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وعلى رأسها دولة الإمارات والبحرين. وفي حين رحبت دوائر عربية ودولية بهذا التطور باعتباره خطوة مهمة لاستعادة الاستقرار لإقليم الشرق الأوسط الغارق في الاضطرابات والحروب الأهلية والنزاعات البينية بين دوله، فإن تركيا اتخذت موقفاً عدائياً من تلك الاتفاقيات، وكان ذلك دافعاً إضافياً لكي تتقارب مع إيران التي كانت تنظر للاتفاقيات الإبراهيمية على أنها تستهدف عزلها وإقامة حلف شرق أوسطي في مواجهتها.
وعلى الرغم من أن التطورات اللاحقة قد برهنت على عدم صحة التقدير الإيراني في هذا الصدد، فإن عودة العلاقات التركية - الإسرائيلية لطبيعتها قد يؤدي إلى تزايد مخاوف طهران من احتمال انضمام أنقرة لهذه الاتفاقات لاحقاً، وهو ما تسعى إليه إسرائيل باعتبار أن الدائرة الأوسع لتلك الاتفاقيات ينبغي أن تشمل الدول الإسلامية غير العربية.
وقد يتسبب الخوف الإيراني من خروج تركيا من "جبهة العداء" للاتفاقيات الإبراهيمية، على الأقل، في توتر علاقاتها مع بعض الدول المُوقعة على الاتفاقيات، خصوصاً في ظل حرمان إيران من المنافع التي ستترتب على التعاون الاقتصادي والأمني والتكنولوجي بين دول هذه الاتفاقيات.
وعلى الجانب الآخر، ربما تستفيد إسرائيل من عودة علاقاتها مع تركيا في استغلال الأخيرة لإقناع دول أخرى بالمنطقة لتبني خطوات مُماثلة مع تل أبيب، وعلى نحو يؤدي في النهاية إلى استقرار السلام بين إسرائيل والدول العربية وتوسيع مداه عربياً وإسلامياً بمعاونة تركيا على وجه الخصوص.
قيّد الاختبار:
تظل كل الاحتمالات التي تم سردها سالفاً مجرد تصورات نظرية تحتاج إلى اختبار في الفترة القادمة؛ كون العلاقات التركية - الإسرائيلية محكومة بأهداف متعارضة لكلا الطرفين تحد من إمكانية المراهنة على استمرارها وتطويرها مُستقبلاً، خصوصاً أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي "حكومة تصريف أعمال" ومن السابق لأوانه معرفة نوع السياسات التي ستتبناها الحكومة المُنتخبة القادمة (تجري الانتخابات العامة في إسرائيل في نوفمبر المقبل) في ظل التوقعات القوية باحتمال عودة بنيامين نتنياهو للحكم مرة أخرى، والذي تجمعه علاقات عدائية مع الرئيس أردوغان.
على الجانب الآخر، قد يعاني أردوغان من تراجع شعبيته حالياً بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تركيا، ويعتقد خبراء أن أردوغان ربما يناور باستعادة علاقته مع إسرائيل قبل أشهر قليلة من الانتخابات العامة في تركيا والمُقررة العام القادم؛ لكي تساعده في جذب الاستثمارات الخارجية، على أمل أن يتمكن من البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. لكن وفقاً لهؤلاء الخبراء، لا يمكن الثقة في استمرار توجهات أردوغان بعد الانتخابات، وقد تتغير حساباته مرة أخرى ويعود للسياسات التي اتبعها في العقد الماضي والقائمة على ابتزاز القوى الإقليمية والدولية لتحقيق المصالح التركية، وليس على قناعة حقيقية بضرورة التوافق حول سياسات تحقق مصالح كل الأطراف في آنٍ واحد.