أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، في 15 فبراير 2022، أن إصدار مجلس النواب قراراً بتكليف رئيس جديد للحكومة، قبل أن يتم عقد جلسة رسمية لمجلس الدولة للبت في الأمر، يعد إجراءً غير سليم، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان المشري دعمه قرار مجلس النواب بتكليف فتحي باشاغا لتشكيل حكومة ليبية جديدة، مشيراً إلى أن هذا الاختيار جاء بناء على توافق بين مجلس الدولة والنواب، وهو ما عكس مؤشرات مهمة بشأن وجود حالة من الانقسام الحاد داخل مجلس الدولة.
موقف متأرجح
شهدت الأيام الأخيرة مواقف متناقضة من قبل مجلس الدولة الليبي إزاء الخريطة الجديدة التي أقرها مجلس النواب، ويمكن عرض هذ التناقض على النحو التالي:
1- تضارب تصريحات المشري: أعلن رئيس مجلس الدولة الليبي، خالد المشري، عن دعمه لقرار مجلس النوب الليبي بتعيين، فتحي باشاغا، رئيساً جديداً للحكومة في ليبيا، مشيراً إلى أن المادة الثانية من النص المصاحب لعملية التصويت على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس 2021، قد نصت على أن انتهاء مدة هذه الحكومة في 24 ديسمبر الماضي، ملمحاً إلى أن قرار مجلس النواب بتشكيل حكومة جديدة يستند إلى هذا النص، وأنه جاء بالتوافق بين مجلسي الدولة والنواب.
ولكن، بعد أيام قليلة، أعلن المشري بأن إصدار مجلس النواب الليبي قراراً بتكليف رئيس جديد للحكومة قبل انعقاد جلسة رسمية لمجلس الدولة للبت في هذا الأمر يعد إجراءً غير سليم، وأنه لا يساعد في بناء جسور الثقة بين المجلسين.
2- امتداد الانقسامات لمجلس الدولة: ففي الوقت الذي أبدى المشري دعمه لقرار تكليف باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، صدر بيان عن المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الليبي، الأسبوع الماضي، أعلن أن التعديل الدستوري الصادر عن مجلس النواب، وكذا تغيير رئيس الحكومة عليهما ملاحظات عديدة، ومن ثم فهما غير نهائيين.
وأعقب ذلك إعلان 54 من أعضاء المجلس الأعلى للدولة (150 عضواً)، في بيان مشترك، عن رفضهم لهذه الخطوة وللتعديلات الدستورية، مشيرين إلى أن هذه التعديلات جاءت مخالفة للمادة 12 من الاتفاق السياسي والمادة 36 من الإعلان الدستوري والتي تقضي بضرورة التصويت بثلثي أعضاء البرلمان وليس بالأغلبية.
وفي المقابل، صدر بيان آخر حمل توقيع نحو 75 عضواً من مجلس الدولة، أعلنوا خلاله دعمهم لخريطة الطريق الجديدة التي أقرها مجلس النواب، مشيرين إلى أن هذه الخريطة جاءت بناء على توافقات رسمية تمت مناقشتها داخل مجلس الدولة، وأن التعديل الدستوري المقترح تم بالتزامن مع عملية اختيار رئيس حكومة جديدة، وهو ما كانت قد توصلت إليه التفاهمات المبدئية بين الفريقين المنبثقين عن مجلسي النواب والدولة، كما ألمحوا إلى أن فتحي باشاغا قد حصل على التزكية المطلوبة من أعضاء مجلس الدولة، وهو ما يعني أن دور مجلس الدولة قد انتهى بشأن تغيير السلطة التنفيذية.
تفسيرات متعددة
يمكن تفسير المواقف المتضاربة لمجلس الدولة الليبي بالرجوع إلى العوامل التالية:
1- ضغوط داخلية: يتعرض مجلس الدولة في المنطقة الغربية إلى ضغوط من قبل الميليشيات المسلحة، بسبب التفاهمات التي أبداها المجلس خلال الفترة الأخيرة مع مجلس النواب.
ولعل هذا ما انعكس في التظاهرات التي شهدتها الأيام الأخيرة أمام مقر مجلس الدولة احتجاجاً على قرار تكليف باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، فضلاً عن قيام عدد من المتظاهرين في ميدان الاحتفال بمدينة الزاوية، في ذكرى ثورة فبراير الليبية، بطرد المشري، اعتراضاً على الاتفاق الأخير بين مجلسي الدولة والنواب، كما أبدت بعض الميليشيات اعتراضها على هذا الاتفاق.
2- تحركات الدبيبة: يقوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، بتحركات مكثفة من أجل التأثير على موقف بعض أعضاء مجلس الدولة لخلخلة التوافقات الأخيرة بين المجلس والبرلمان الليبي، وتفكيك الموقف الراهن الداعم لتولي باشاغا رئاسة الحكومة، كما يلاحظ أن التظاهرات التي شهدها محيط مجلس الدولة جاء بإيعاز من قبل الدبيبة.
ارتدادات داخلية للأزمة
تشير المتغيرات الراهنة التي يشهدها موقف مجلس الدولة إزاء خريطة الطريق الجديدة عن جملة من الانعكاسات المحتملة على المشهد الليبي، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- استمرار جهود الدبيبة بالبقاء في السلطة: اتجه الدبيبة إلى تبني خطابات شعبوية لضمان شعبيته، وذلك عبر التأكيد على وجود مؤامرة لاختراق تماسك مدينة مصراتة والثورة الليبية، بالإضافة إلى محاولته في تقديم أموال لقطاعات من الشعب الليبي.
كما عمد الدبيبة، في 21 فبراير الجاري، للإعلان عن ملامح خريطة طريق بديلة، في محاولة لخلط الأوراق والتي تضمنت إجراء الانتخابات برلمانية قبل 24 يونيو المقبل، بالإضافة إلى إجراء الاستفتاء على الدستور بالتزامن مع هذه الانتخابات.
وتشير بعض التقديرات إلى أن الدبيبة سوف يتجه للتنحي، كملاذ أخير، في ظل المعطيات الداخلية والخارجية التي باتت ضاغطة عليه، ولكن مقابل ضمان خروج آمن له من الملاحقة بتهم الفساد، بالإضافة إلى ضمان حظوظه للترشح لأي انتخابات مقبلة.
2- ترقب مجلس الدولة: يتجه مجلس الدولة إلى تأجيل عقد جلسته العامة انتظاراً لحين تقديم باشاغا بتشكيل حكومته إلى مجلس النواب وإقرارها نهائياً، ووضوح موقف القوى الدولية والإقليمية منها، قبل أن يصدر المجلس قراراً رسمياً نهائياً يتعلق بدعم أي طرف في مقابل الآخر، غير أنه يلاحظ وجود أغلبية داخله داعمة لتولي باشاغا رئاسة الحكومة.
3- محاولة استقطاب محافظ البنك المركزي: قد يلعب المصرف المركزي الليبي دوراً في حسم الصراع الراهن في ليبيا بين الدبيبة وباشاغا، نظراً لما يحتويه المصرف من مليارات الدولارات من عوائد النفط، والتي تمثل المصدر المالي الرئيسي للحكومة الليبي. وألمح تقرير إلى أن الأيام الأخيرة شهدت محاولة كل طرف تعزيز تقاربه مع المصرف المركزي، ورئيسه الصادق الكبير، الذي يحظى بسلطة كبيرة بالإضافة إلى عدم خضوعه لمساءلة أي طرف.
4- تراجع سيناريو الحكومة الموازية: تحذر تقارير من تكرار سيناريو الحكومة الموازية فترة تولي حكومة الوفاق الحكم، بيد أنه في حالة حكومة الوفاق، برئاسة فايز السراج، كان رئيس المجلس الرئاسي هو ذاته رئيس الحكومة، وهو ما عزز من سلطة السراج وقتها في مواجهة البرلمان.
كما أن مجلس الدولة كان أحد الداعمين الرئيسيين لبقاء حكومة الوفاق، بخلاف المشهد الراهن الذي يتسم بحالة من الانقسام داخل مجلس الدولة إزاء حكومة الدبيبة، في ظل تفاهمات بعض أعضائه مع مجلس النواب الليبي ودعمهم لباشاغا، وفي مقدمتهم رئيس المجلس نفسه. ويمثل موقف المجلس الرئاسي ومجلس الدولة محدداً هاماً في ترجيح كفة فتحي باشاغا، مما يجعل تكرار سيناريو الحكومتين المتوازيتين غير مرجح.
إعادة تشكيل الموقف الدولي
على الرغم من الموقف الدولي والأممي الذي كان داعماً لاستمرار حكومة الدبيبة، بيد أن المعطيات الأخيرة عكست مؤشرات مهمة بشأن تغيير هذه الموقف، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تغير موقف البعثة الأممية: أشارت بعض التقديرات الليبية إلى أن البعثة الأممية ربما تعلن دعمها بشكل صريح لباشاغا بعد انتهائه من تشكيل حكومته وحصولها على ثقة البرلمان. وربما يدعم هذا الطرح الانتقادات التي وجهتها حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، للمستشارة الأممية، ستيفاني ويليامز، في 17 فبراير الجاري، بدعوى انحيازها لباشاغا.
وعقدت المستشارة الأممية خلال الأيام الأخيرة عدداً من اللقاءات المنفصلة مع كل من الدبيبة وباشاغا، كما أنها عمدت خلال لقائها بالأخير لتقديمه بأنه رئيس الحكومة المكلف، فضلاً عن اللقاء الذي عقدته ستيفاني ويليامز مع رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، وعكست التغريدات التي أصدرتها ويليامز بعد عقد هذا الاجتماع عن دعمها ضمنياً لتكليف مجلس النواب لباشاغا بتشكيل حكومة جديدة، بالإضافة إلى ترحيبها بالتفاهمات الراهنة بين مجلسي النواب والدولة.
2- دعم أمريكي وبريطاني ضمني: عكس البيان الأخير الصادر عن السفارة الأمريكية في طرابلس عن دعم واشنطن الضمني لتولي باشاغا رئاسة الحكومة. فقد عبرت السفارة الأمريكية عن أسفها للاتهامات التي وجهتها حكومة الدبيبة للمستشارة الأممية بالانحياز، داعيةً إلى ضرورة حل الخلافات بطرق سلمية.
كذلك، أعلن السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، إلى ضرورة أن يضع القادة الليبيين مصالح ليبيا أولاً، مشيراً إلى أنه ليس من شأن الولايات المتحدة أن تقرر لليبيين ما يجب فعله، لكنه أكد على أن واشنطن ستدعم كافة الجهود التي تسهم في التوصل إلى حلول وسط.
ولفتت تصريحات السفيرة البريطانية لدى ليبيا، كارولين هرندل، إلى تغيرات نسبية في الموقف البريطاني الذي كان داعماً لاستمرار حكومة الدبيبة، حيث اقتصر بيان السفيرة البريطانية على دعوة القادة الليبيين لتحمل مسؤوليتهم في الحفاظ على الاستقرار، مشيدة بالتقدم المحرز في المشهد الليبي على الرغم من التحديات، في إشارة محتملة للتفاهمات بين النواب والدولة.
3- وساطة تركية محتملة: على الرغم من إعلان الرئيس التركي، رجب أردوغان، عن رفضه لتعيين حكومة ليبية مؤقتة، باعتبار أن هذه الخطوة لا تخدم الليبيين، بيد أن الموقف التركي عمد إلى تبني موقفاً حيادياً إزاء التنافس الحاد الراهن بين الدبيبة وباشاغا على رئاسة الحكومة الليبية، نظراً لكون الرجلان يعدان من حلفاء أنقرة، وبالتالي لا تريد تركيا خسارة أي طرف على حساب الآخر.
وتسعى أنقرة لحلحلة الأزمة بين الدبيبة وباشاغا، وألمحت تقديرات باحتمالية عقد تركيا لاجتماع ثلاثي خلال الأيام المقبلة بين باشاغا والدبيبة والمشري، في أنقرة، لبحث الخروج من الأزمة الحالية التي تهدد باندلاع مواجهات بين حلفاء تركيا في ليبيا.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من اتساع نطاق الدعم الداخلي لباشاغا، بيد أن الدبيبة لا يزال يسعى للتمسك بالبقاء لأطول فترة ممكنة، ومحاولة خلخلة التوافقات بين مجلس النواب والدولة، بيد أن التغيرات الراهنة في الموقف الدولي والأممي ربما تمثل عاملاً حاسماً في تحديد مستقبل الصراع الراهن على رأس السلطة التنفيذية.