إعداد: باسم راشد
كان ضم الرئيس الروسي "بوتين" لشبة جزيرة القرم في مارس 2014 بمثابة صدمة للأوروبيين؛ إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة حقيقة أن حدود الدول يمكن تغييرها بالقوة، وأن المؤسسات الدولية منزوعة القوة، وأن التكامل الاقتصادي ليس إلا مصدراً لعدم الأمان، بل أكثر من ذلك أن الاتحاد الأوروبي أدرك أن نظامه ونموذجه الذي كانه يسعى لتصديره للعالم، لم يعد قادراً على السيطرة على القارة الأوروبية، وأن أزمة القرم تُنذِر بتراجع أو بالأحرى انهيار هذا النموذج.
وعلى الرغم من أن دول الاتحاد الأوروبي قد استطاعت الوقوف سوياً وبقوة في وجه التوجه الروسي إزاء الأزمة الأوكرانية، بيد أنهم لم يتِّحدوا لوضع استراتيجية لما بعد الوضع الحالي، بما يراعي التغيرات الجيوبوليتكية التي حدثت داخل القارة من ناحية، ويحافظ على استمرارية النموذج الأوروبي من ناحية أخرى، خاصةً في ظل إيمان الأوروبيين بسمو نموذجهم وصعوبة تقبلهم للنماذج الأخرى البديلة، فضلاً عن عدم قدرتهم على نشره وتطبيقه في الدول المجاورة، وهو ما أثبتته أزمة القرم.
في هذا الإطار، نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) دراسة تحت عنوان: "الاضطراب الأوروبي الجديد" لكل من مارك ليونارد Mark Leonard مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وإيفان كراستيف Ivan Krastev عضو مجلس إدارة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، حيث يناقش الكاتبان الأزمة الأوكرانية وتأثيراتها على الاتحاد الأوروبي، وما يجب على الأخير فعله من أجل الحفاظ على النظام الأوروبي من الانهيار.
الفهم الخاطئ لروسيا
يشير الكاتبان إلى أن العواصم الغربية أثناء الحرب الباردة كانت تهتم بتحليل كل معلومة تخرج من الكرملين بهدف معرفة كيفية عمل "العقل السوفييتي"، أما بعد عام 1989، ونتيجةً لانغماسهم في نظامهم الخاص، فَقَد الأوروبيون فضولهم حول معرفة رؤية روسيا للعالم وطبيعة مكانتها فيه، وفشلوا في فهم استياء روسيا من النظام الجديد الذي تقوده أوروبا؛ حيث كانوا ينظرون إلى العلاقات الروسية - الأوروبية كونها علاقات الكل فيها فائز، ولم يدركوا أن ما يرون أنه "أفضل نظام ممكن"، كان يبدو لكثير من الروس أنه "نظام مضطرب وغير مستقر".
لقد أقنع القادة الأوربيون أنفسهم أن المخاوف الحقيقية لروسيا تكمن في الصين وانتشار "الإسلام الراديكالي"، بالإضافة إلى الشكاوى التي لا تنتهِ بشأن توسيع "الناتو" ونظم الدفاع الصاروخية الأمريكية التي يستخدمها القادة الروس للاستهلاك المحلي، إلا أن أزمة القرم الأخيرة أثبتت أن الغرب قد فهم روسيا بشكل خاطئ تماماً، في عدد من النقاط؛ كالتالي:
1 ـ حينما اعتبر الغرب أن فشل روسيا في مواجهة نظام ما بعد الحرب الباردة بمثابة موافقة عليه، فقد كان الاتحاد السوفييتي - وليس روسيا - هو من احتضن النموذج الأوروبي، وذلك لأنه كان الخيار الوحيد الذي يحمي الإمبراطورية السوفييتية من التفكك بداعي الاستقلال لدوله. لكن بمرور الوقت لم تستطع العقلية الروسية التكيف مع أفكار النموذج الأوروبي بما تشمله من تكامل اقتصادي وسيادة ناعمة، حيث كان يؤمن الروس دوماً أن "السيادة هي المرادف السياسي للتنافسية" بما في ذلك الاستقلال الاقتصادي، والقوة المسلحة، والهُوية الثقافية، بما جعلهم يميلون إلى العزلة والتركيز على التنمية الداخلية كوسيلة للبقاء، فلم تكن موسكو مهمتمة بمحاكاة القيم الغربية، بل كانت أكثر رغبةً وحماسةً في تقليد السلوك الدولي للولايات المتحدة.
2 ـ عندما افترض الأوروبيون أن اندماج روسيا في الاقتصاد العالمي سينتج سياسة خارجية أكثر محافظةً، فإن ذلك لم يكن صحيحاً، خاصةً أن بعضاً من النخبة الروسية كان يحلم بعودة روسيا لدورها على الساحة الدولية، فيما كانت الغالبية تريدها قوة عظمى كما كان الاتحاد السوفييتي سابقاً، وهو ما يتسق مع رؤية "بوتين" نفسه، والذي يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن ضرورة تاريخية فرضتها الأوضاع، بل إنه نتج عن فشل القادة السوفييت في ذلك الوقت.
3 ـ فشل الغرب في تقدير التأثير النفسي للثورات المُلوَّنة colour revolutions والأزمة المالية العالمية على روسيا، حيث اعتبر "بوتين" أن تلك الثورات تمثل تهديداً مباشراً لروسيا، فضلاً عن أنها - من وجهة نظره- مُصممَة ومُمولة من جانب واشنطن. وربما يعيد التدخل الروسي في أوكرانيا إلى الأذهان سياسات روسيا الإمبريالية في القرن التاسع عشر، إلا أنها تمثل فعلياً جزءاً من التمرد ضد عولمة القرن الواحد والعشرين، وبالتالي ليس مفاجئاً أن تعتبر موسكو أن الاتحاد الأوروبي يمثل تهديداً لا يقل في خطورته عن محاولات توسيع الناتو.
4 ـ أخطأت أوروبا في حساب ميزة "القوة"، فجميع التحليلات الغربية المقارنة بين الغرب وروسيا كانت مليئة بالأرقام والرسوم البيانية التي تؤكد تفوق الجانب الغربي على روسيا من الناحية الاقتصادية أو من حيث التنمية التكنولوجية أو حتى الإنفاق العسكري. وبرغم صحة ذلك الأمر، فإن الأوروبيين أهملوا ما أسماه السياسي الأمريكي "ديفيد بروكس" بـ (تمرد الضعيف)، وهو ما يعني أن الجانب الضعيف لا يريد هزيمة أو تحطيم العدو، وإنما يريد فقط إحراجه على أرضه، وهو ما فعلته روسيا من خلال ضم شبه جزيرة القرم.
لذلك، يرى الكاتبان أن انتهاك الكرملين لسيادة الدولة الأوكرانية لا يعد بداية أزمة نظام ما بعد الحرب الباردة الأوروبي، بل المرحلة الأخيرة في أزمة طويلة المدى، والسؤال الآن كما يطرحه الكاتبان: ماذا يجب أن تفعل أوروبا حيال هذا الأمر؟ وكيف سترد على ذلك الهجوم على مبادئها ونموذجها؟
فخ العقوبات الأوروبية
لم يكن أمام الغرب لمواجهة الانتهاك الروسي لأوكرانيا، سوى الرد بأقصى قوة، لأن الاستجابة الضعيفة ستؤدي إلى مزيد من العدوان من جانب موسكو، ومزيد من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي. ورغم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استشعرا أن فرض عقوبات مشتركة على روسيا سيكون أفضل قرار، بيد أنهما تشتتا في معرفة ما يصبون إليه؛ هل ستكون العقوبات وسيلة للضغط على روسيا للتخلي عن دعمها للمتمردين في شرق أوكرانيا؟ أم لكي تسحب قواتها من القرم؟ أم تسعى لتغيير النظام؟ وهل ستصبح روسيا "الضعيفة" أقل عدوانية؟.
حتى هذه اللحظة لا يبدو أن العقوبات نجحت في تغيير السلوك الروسي في شرق أوكرانيا، وسيكون من الخطأ أن يعتقد القادة الأوروبيين أنهم يمكنهم التعامل مع روسيا كما تعاملوا مع صربيا في التسعينيات؛ لا لكون روسيا، ببساطة، قوة نووية، بل أيضاً لأن غالبية المجتمع الروسي لا يرون مستقبلهم كجزء من المشروع الأوروبي.
ويؤكد الكاتبان أن الاتحاد الأوروبي كان مُحقاً في فرض عقوبات صارمة على روسيا، إلا أن خطورة نظام العقوبات الأوروبية ليس في أنها قد لا تعمل، بل في أنها قد تعمل بشكل جيد جداً، وهذا هو أساس "الفخ" الذي سيقع فيه الاتحاد الأوروبي؛ لأنه كلما كانت العقوبات أكثر فعَّالية، كلما قلَّلت من أهداف الاتحاد الأوروبي طويلة المدى"، لأنها أولاً ستُسهّل من خطط "بوتين" فيما يتعلق بعزل روسيا عن الغرب، كما أن التكلفة الاقتصادية الناتجة عنها ستكون مبرراً جيداً أمام الرأي العام الروسي الداخلي لفشل سياسات الكرملين الاقتصادية.
وثانياً، لأن العقوبات ستشجع روسيا على التنافس مع الغرب من الناحية العسكرية وليس الاقتصادية، وهو ما سيؤدي إلى فشل خطط الاتحاد الأوروبي، والتي أعادت تشكيل طبيعة التنافس الجيوسياسي في أوروبا الشرقية وجعلته يدور في الإطار الاقتصادي والاجتماعي، وأجبرت روسيا على اتباع نفس النهج في سياستها الخارجية، وبالتالي فالعقوبات ستفسد تلك السياسة على المدى الطويل.
وأخيراً، فقد تؤدي العقوبات إلى تسريع انهيار النظام العالمي الذي تسعى أوروبا لدعمه. فعلى مدار العقدين الماضيين، استغلت الدول الأوروبية نفوذها السياسي وهددت الدول بإخراجها من الاقتصاد العالمي من خلال العقوبات التي أعاقت اقتصادات دول مثل إيران وصربيا وبورما، ومن ناحية أخرى فإن المستعمرات الغربية السابقة كالهند والصين والبرازيل ليست راضية عن الطريقة التي يستخدم بها الاتحاد الأوروبي المؤسسات الدولية لتحقيق مصالحه، وبالتالي فإن استمرار استخدام نفس نهج العقوبات مع روسيا قد يدفع تلك الدول للاتحاد مع بعضها ضد هذا الأمر، بما يُسَّرِع من انهيار النظام الأوروبي المنشود.
إعادة التفكير في النظام الأوروبي
إن أزمة النظام الأوروبي في كل جوانبها أزمة "خيال سياسي"؛ حيث يرى الأوروبيون أن أي دولة تحلم بالانضمام للاتحاد الأوروبي والاستفادة من مزاياه، وهذه ليست حقيقة مطلقة.
ولكي تستطيع بروكسل مواجهة الأزمة الحالية، فهي تحتاج لأن تتخيل سياسة أو استراتيجية تجاه روسيا لا تهدف لتحويلها إلى دولة كدول أوروبا بل إلى "دولة يمكن التعايش معها".
ويقترح الكاتبان في هذا الصدد أن تستفيد أوروبا مما فعلته الولايات المتحدة في علاقتها مع الصين مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف في الحالتين، بحيث يمكنها تبني مفهوم التطور المشترك Co-Evolution"" والذي من شأنه أن يحافظ على النظام الأوروبي الحالي، وفي نفس الوقت يتيح لروسيا فرصة تطوير نظامها الخاص، كأن يتم الاشتراك فيما بينهما في بعض الترتيبات المؤسسية من خلال منظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين على سبيل المثال.
كذلك، يجب أن تضمن تلك الاستراتيجية المحتملة تقوية والحفاظ على نظام ما بعد الحداثة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، بحيث يتم تقوية وتعزيز المؤسسات المحورية التي تُعبر عن قيم ذلك النظام مثل الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، وجعل المؤسسات الأخرى مثل الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية أكثر مرونة لإشراك الدول الأخرى التي لا تتشارك نفس القيم مثل روسيا.
أما على صعيد العلاقات طويلة المدى مع الجانب الروسي، فأفضل السبًل التي يمكن اتباعها لتنفيذ تلك الاستراتيجية - كما يقترح الكاتبان- هو أن يبدي الاتحاد الأوروبي احتمالية الاشتراك مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي "EEU"، لأن ذلك شأنه أن يبعث برسالة إلى روسيا مفادها أن الاتحاد الأوروبي يعترف بحق موسكو في أن يكون لديها عملية اقتصادية تكاملية خاصة بها، بحيث تصبح العلاقة في النظام الأوروبي الجديد علاقة تعاون وتنافس بين مشروعين ذو فلسفتين مختلفتين، ولكنه مفتوح للعضوية المزدوجة وللأشكال المختلفة والمتعددة من التعاون. وبالطبع ليس التعاون مع ذلك الاتحاد الأوراسي هو الحل لكل شيء، لكنه يمكن أن يكون بداية للتفاوض حول النظام الأوروبي المؤسسي الجديد من أجل ملء الفراغ الذي تركته المؤسسات المرفوضة من جانب موسكو.
* عرض موجز لدراسة تحت عنوان: "الاضطراب الأوروبي الجديد"، والصادرة في نوفمبر 2014 عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو أحد مراكز الفكر الأوروبية الهامة.
المصدر:
Ivan Krastav and Mark Leonard, The New European Disorder, (London, European Council on Foreign Relations "ECFR", November 2014(.