عرض: عدنان موسى
بات ملف البيئة أحد أبرز الملفات المطروحة على الأجندة الدولية الراهنة، حيث تستقطب هذه القضية وتداعياتها المحتملة انتباه الفواعل الدولية والإقليمية كافة؛ نظراً للانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن تتمخض عن التهديدات الإيكولوجية أو البيئية على المجالات كافة، بما في ذلك المجال الأمني، حيث أضحت هذه التهديدات ترتبط بمستويات عالية من العنف. ولعل هذا ما دفع برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الأغذية والزراعة لإطلاق مبادرة "عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظام الإيكولوجي"؛ في محاولة لوقف تدهور النظم البيئية واستعادتها من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتجنب إثارة مزيد من النزاعات.
في هذا السياق، نشر معهد الاقتصاد والسلام Institute for Economics & Peace بأستراليا الطبعة الثانية من تقرير التهديد الإيكولوجي ETR في أكتوبر 2021، والذي تناول تحليل نحو 178 دولة ومنطقة مستقلة، بما يغطي أكثر من 2500 وحدة إدارية دون الوطنية (بما يعني حوالي 99.9% من سكان العالم). ويستهدف التقرير تقييم التهديدات المتعلقة بمخاطر الغذاء، والمياه، والنمو السكاني المتسارع، فضلاً عن التقلبات في درجات الحرارة، والكوارث الطبيعية.
وما يميز هذا التقرير هو دمجه لهذه التقييمات السابقة مع المقاييس الوطنية الخاصة بالمرونة الاجتماعية والاقتصادية؛ وذلك لتحديد الدول التي لديها أشد التهديدات خطورة مع تدني قدرتها على المواجهة، ومن ثم تتزايد احتمالات تعرض هذه الدول للصراعات الناجمة عن التهديدات البيئية، حيث يعتمد التقرير في ذلك على النموذج الإحصائي الخاص بالسلام الإيجابي IEP. كما يطرح نظرة استشرافية بشأن مسارات هذه التهديدات حتى عام 2050م.
قياس التهديد البيئي:
اعتمد هذا التقرير في تحليله لمستوى التهديد البيئي على منهجين تحليليين، يتمثل الأول في درجة التهديدات الكارثية (يُعبّر عنها بــ ETR)، والتي تعكس متوسط خمسة أنواع من التهديدات (النمو السكاني المتسارع، ومخاطر المياه، ومخاطر الغذاء، وتقلبات درجة الحرارة، والكوارث الطبيعية)، حيث تم وضع عدد من المؤشرات التي تستهدف الوصول إلى المستوى العام للتهديد الذي تواجهه كل دولة.
وقد تم تقسيم درجة التهديدات الكارثية إلى فئتين رئيسيتين، تشير الأولى إلى ندرة الموارد (تتضمن أزمة نقص المياه، والغذاء، والنمو السكاني المتصاعد)، بينما تنطوي الثانية على الكوارث الطبيعية على غرار زيادة درجات الحرارة والجفاف وارتفاع مستويات مياه البحار وغيرها، وقد تم الاعتماد على هذا التصنيف لتقسيم البلدان الأكثر تهديداً إلى دول تعاني تهديدات تتعلق بندرة الموارد وأخرى تتعلق بالكوارث الطبيعية وثالثة تعاني كليهما.
بيد أن الاعتماد على هذا الاقتراب لحساب معدل التهديدات عبر حساب متوسط التهديدات الخمسة يعني أن الدول التي تواجه أحداثاً كارثية قد لا يتم تحديد أولوياتها بشكل صحيح، ومن ثم تمت إضافة الاقتراب الثاني كمنهج مكمل يعالج هذه الفجوة، حيث ينظر الاقتراب الثاني إلى أخطر التهديدات التي تواجهها دولة ما، والتي تفرز درجة التهديد الكارثي.
بالتالي، عمد تقرير الـتهديد الإيكولوجي إلى الجمع بين درجة التهديد الكارثي، ومرونة الدولة من أجل تحديد مدى قدرتها على الاستجابة للتهديدات البيئية من عدمها، وبناء عليها توصل التقرير إلى أن ثمة دولاً تتمتع بهذه المرونة الكافية للتعامل مع التهديدات المختلفة، فيما تفتقر دول أخرى إلى هذه المرونة بالتوازي مع مواجهتها لتهديدات كارثية، وهي مجموعة الدول التي وصفها التقرير بالمناطق البيئية الساخنة.
إذ إن هناك نحو 1.2 مليار شخص يعيشون حالياً في حوالي 30 دولة غير قادرة على تحمل تداعيات التهديدات البيئية، هذه البلدان من المرجح أن تشهد مستويات متصاعدة من التوترات والصراعات الناجمة عن البيئة المتدهورة. ويحدد التقرير ثلاث مجموعات من المناطق الجغرافية المهمة التي ربما تكون مهددة بالانهيار، تتمثل هذه المناطق في الساحل والقرن الافريقي (من موريتانيا الى الصومال)، ومنطقة حزام الجنوب الأفريقي (من أنغولا إلى مدغشقر)، وأخيراً حزام الشرق الاوسط وآسيا الوسطى (من سوريا إلى باكستان).
صراعات متفاقمة:
يتمثل أحد أبرز المخاطر المتعلقة بالتهديدات البيئية في زيادة احتمالات نشوب صراعات واسعة وتهديد حالة السلم والاستقرار، فقد مثَّل النمو السكاني المتصاعد وانعدام الأمن الغذائي في بعض المناطق مثل، أفريقيا جنوب الصحراء وبعض مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محدداً رئيسياً في تغذية حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي خلال الخمسين عاماً الماضية. كما أن ندرة المياه في الشرق الأوسط قد أفرزت حالة من عدم الاستقرار بين بعض الفواعل، ولعل المثال الأبرز في هذا الشأن يتمثل في التوترات المتعلقة بمياه دجلة والفرات بين تركيا وكل من سوريا والعراق، فضلاً عن التوترات الراهنة المتعلقة بمياه نهر النيل.
أيضاً، ثمة تهديدات أيكولوجية أخرى تتعلق بفكرة التوازن بين النشاط البشري من ناحية وبيئة الكوكب من ناحية أخرى، حيث أضحى هذا التوازن يعاني اختلالات متفاقمة، على سبيل المثال، أصبحت المياه العذبة المتاحة للاستهلاك أكثر ندرة، حيث يعيش نحو 2.6 مليار شخص في بلدان معرضة لمستويات حادة من الإجهاد المائي، وبحلول عام 2040 قد يرتفع هذا العدد إلى 5.4 مليار نسمة.
كذلك، أصبح انعدام الأمن أكثر انتشاراً، حيث أصبح واحد من كل ثلاثة على مستوى العالم لا يتمتع حالياً بالشعور بالأمان، ويرجح التقرير أن عدد سكان العالم قد يتزايد بمقدار الربع خلال الثلاثين سنة المقبلة، وهو ما سيتمخض عنه تفاقم أزمة الأمن الغذائي، ونقص المياه، وكذلك الكوارث الطبيعية، فقد تضاعف عدد الكوارث الطبيعية ثلاث مرات خلال العقود الأربعة الماضية، كما أن تغيير المناخ ربما يمثل عاملاً مضاعفاً للتهديدات، الأمر الذي قد يدفع إلى تأجيج مزيد من الصراعات والتوترات بين البلدان ذات الموارد المنخفضة ومحدودة القدرة على الصمود.
وفي ظل متوالية التصاعد في أعداد سكان العالم، من المفترض أن تنعكس هذه الزيادات على معدلات الاستهلاك، وهو ما سيعني أن تداعيات التهديدات البيئية ستتضاعف، مما سينعكس بالضرورة على الهياكل السياسية والاجتماعية القائمة، ولعل هذا ما تجسد بوضوح في معدلات الهجرة الجماعية القسرية والتي تمثل مؤشراً مهماً لتأثير هذه التهديدات، ففي عام 2020 نزح حوالي 30.7 مليون شخص من 145 دولة وإقليم.
شدة التهديدات:
في إطار محاولة التقرير الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، تقييم مدى خطورة التهديدات البيئية الخمسة التي تم الإشارة إليها سابقاً، توصل التقرير إلى أن هناك 13 دولة من بين إجمالي عدد الدول التي يتضمنها التقرير (178 دولة ومنطقة) تواجه تهديدات بيئية شديدة الخطورة، بالإضافة إلى حوالي 34 دولة تواجه تهديدات كبيرة، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المناطق تعد أيضاً من أقل المناطق استقراراً وسلماً، وفقاً لمؤشر السلام العالمي GPI. بالتالي، هناك حوالي 3.3 مليار نسمة يعيشون في هذه الدول الـ 47 التي تواجه تهديدات بيئية شديدة (أو شديدة الخطورة)، وهو ما يمثل حوالي 42.7% من إجمالي سكان العالم، وهذا العدد من المتوقع أن يصل إلى حوالي 4.7 مليار نسمة (بما يمثل 48.7% من إجمالي السكان) في عام 2050.
وفي حين أن تأثير التهديدات ربما لن يشمل سكان هذه الدول كافة، بيد أن التداعيات غير المباشرة سوف تنتشر على نطاق أوسع، بما يتجاوز حتى الحدود الوطنية وكذلك القارية. في المقابل، يشير التقرير إلى أن هناك 46 دولة تواجه تهديدات بيئية منخفضة، بالإضافة إلى حوالي 35 دولة تواجه تهديدات منخفضة للغاية، بإجمالي عدد سكان يصل إلى حوالي 1.96 مليار شخص، ومن المرجح أن يبلغ هذا الرقم حوالي 2.18 مليار شخص بحلول عام 2050.
خريطة متباينة:
تجدر الإشارة إلى أن ثمة تباينات كبيرة في مستوى التهديدات البيئية في المناطق الجغرافية المختلفة، ففي حين تمثل أمريكا الشمالية وأوروبا المنطقتين اللتين تتمتعان بأدنى متوسط للتهديدات البيئية، في المقابل، ترتكز أعلى مستويات هذه التهديدات في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي الوقت الذي تعد فيه منطقة جنوب آسيا هي الأسوأ من حيث التهديدات المتعلقة بالكوارث الطبيعية والتي تنجم عنها خسائر فادحة، تتمثل المعضلة الأخطر بالنسبة لأفريقيا جنوب الصحراء في المستويات المرتفعة للغاية في النمو السكاني الذي يزيد من الضغط على الغذاء وكذلك ندرة المياه، حيث بات اثنان من كل ثلاثة في أفريقيا جنوب الصحراء يعانون مستويات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي. وفي الواقع يرتبط النمو السكاني وندرة الموارد في هذه المنطقة بالصراعات المنتشرة هناك، وبحلول عام 2050 من المتوقع أن يصل عدد سكان إفريقيا جنوب الصحراء إلى حوالي 2.1 مليار نسمة (بزيادة تصل إلى حوالي 90% عن العدد الحالي)، وهو ما يزيد من الضغط على الموارد.
ووفقاً للتقرير، لا يوجد دولة تحصل على درجة منخفضة للتهديدات البيئية في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في المقابل فـ90% من الدول الأوروبية تواجه تهديدات منخفضة أو منخفضة جداً (تعد أيسلندا هي أقل درجة من حيث التهديدات البيئية في أوروبا)، ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأمريكا الشمالية، بيد أنه من المتوقع أن تتأثر كندا بدرجة أكبر بارتفاع درجات الحرارة وهو ما يمكن أن يتمخض عنه جفاف ومخاطر اندلاع حرائق الغابات.
في المقابل، من بين الدول الـ 15 التي حصلت على أعلى درجات التهديد البيئي، هناك 9 دول في إفريقيا جنوب الصحراء، وثلاث دول في جنوب آسيا، ودولة في كل من أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا والمحيط الهادي. ومن بين الدول الـ 15 هناك 11 منهم تعد دول هشة، كما أن هناك الكثير من هذه الدول تم تصنيفهم باعتبارهم الأقل سلماً وفقاً لمؤشر السلام العالمي GPI في 2021، وجاءت أفغانستان واليمن في نهاية التصنيف، وربما تزداد خطورة الأوضاع في هذه الدول الـ 15 نظراً لانخفاض معدل الصمود والتكيف فيها.
السلام الإيجابي:
في إطار تنامي حجم وتأثير التهديدات الإيكولوجية، باتت الحاجة ملحة إلى دراسة مدى المرونة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتمتع بها الدول المختلفة في مواجهة الصدمات البيئية المتلاحقة، مع بحث سبل تعزيز مستويات الصمود لدى الدول الأكثر ضعفاً. في هذا الصدد يشير تقرير معهد السلام والاقتصاد بشكل إحصائي كيف يمكن للمجتمعات أن تزيد من مرونتها من خلال بناء السلام الإيجابي؟
إذ تتمتع الدول بمستويات مختلفة من القدرة على الاستجابة والصمود في مواجهة التهديدات البيئية المختلفة، وفي هذا الإطار فإن البلدان التي تمتلك مستويات مرتفعة من السلام الإيجابي تكون مستعدة بشكل أفضل للتعامل مع التهديدات المستقبلية، وتشير فكرة السلام الإيجابي (التي بدأت في فترة الستينيات من خلال عالم الاجتماع يوهان جالتونج) إلى المواقف والمؤسسات والهياكل التي تخلق مجتمعات مسالمة وتدعمها.
وترتبط المستويات الأعلى من السلام الإيجابي إحصائياً بنمو أعلى للناتج المحلي الإجمالي، ومقاييس أعلى للرفاهية، ونتائج بيئية وإنمائية أفضل، ومعدلات مرونة أعلى، حيث يتكون مؤشر السلام الإيجابي PPI من مصفوفة تتكون من ثمانية أعمدة يتضمن كل منها ثلاثة مؤشرات إحصائية، يتم من خلالها قياس فاعلية قدرات الدولة في بناء السلام والحفاظ عليه، وقدرة الدولة على مواجهة التهديدات والتكيف معها والتعافي منها، كما يُمكن الاعتماد على هذا المؤشر في قياس درجة هشاشة الدولة والتنبؤ باحتمالية نشوب الصراعات وحالات عدم الاستقرار.
ووفقاً للدراسة الإحصائية التي تضمنها التقرير، فثمة علاقة ذات دلالة بين التهديدات البيئية ومستويات السلام الإيجابي، حيث أشارت نتائج هذه الدراسة إلى أن البلدان ذات التعرض المرتفع للتهديدات البيئية تعد هي الأقل قدرة على المرونة والتعامل مع هذه الصدمات؛ بما يعني أن الدول الأكثر تعرضاً للتهديدات البيئية تعد هي أيضاً تلك التي تمتلك مستويات منخفضة من السلام الإيجابي.
في المقابل، تعد دول السلام الإيجابي المرتفع مستعدة بشكل أفضل للتعامل مع الصدمات البيئية، وذلك من خلال البنية التحتية المادية والأطر التنظيمية والقوة الاقتصادية والتنويع والتأهب لحالات الطوارئ وأنظمة الاستجابة، كما أن هذه الدول لديها القدرة على إعادة بناء أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية في أعقاب الصدمات. وتعد الدول الأوروبية أحد أكثر المناطق التي لديها القدرة على مواجهة التهديدات، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن أوروبا لديها دولة واحدة فقط، هي تركيا، معرضة لخطر التراجع في قدرتها على الصمود بسبب الدرجة العالية لمستوى التهديدات البيئية التي تواجهها.
وفيما يتعلق بمستويات الأمن الغذائي، أشار التقرير إلى أن ثمة تصاعداً واضحاً في نسبة الأشخاص الذين يعانون هذا الأمر منذ عام 2014 وحتى عام 2020، حيث ارتفعت هذه النسبة بنحو 44% خلال هذه الفترة، إذ وصل تعداد هؤلاء الأشخاص إلى حوالي 2.4 مليار فرد، حيث سجل عام 2020 أكبر زيادة منذ 2014. ومن المتوقع أن يزداد هذا الرقم في عام 2050 بحوالي 43% ليصل إلى 3.4 مليار شخص، وتعد أفريقيا جنوب الصحراء هي أعلى المناطق في العالم التي تعاني هذه المعضلة (حوالي ثلثي السكان)، في المقابل تعد أوروبا هي أدنى معدل لانتشار أزمة الأمن الغذائي.
في النهاية، ثمة علاقة ارتباط بين التدهور البيئي ونشوب الصراعات، حيث باتت هذه المعادلة تمثل حلقة مفرغة، فيؤدي تدهور البيئة إلى تأجيج العنف والنزاعات، بينما يتمخض عن هذه الصراعات الناتجة عن ذلك إلى مزيد من تدهور الموارد والبيئة، وتطلب عملية كسر هذه الحلقة إضفاء مزيد من التطورات في إدارة الموارد البيئية، فضلاً عن تعزيز مرونة النظم الاجتماعية والاقتصادية ودعم قدرتها على التكيف من خلال تحسين مستويات السلام الايجابي.
المصدر:
Ecological Threat Report 2021, Understanding Ecological Threats, Resilience and Peace, Institute for Economic and Peace, Oct, 2021.