دخلت الليرة التركية في سلسلة طويلة من التراجعات المتوالية خلال الأيام الأخيرة، في مؤشر جديد على المشكلات المالية والنقدية التي يمر بها الاقتصاد التركي في الوقت الراهن، والتي يبدو أنها لا تقتصر على الصعوبات والتحديات الناتجة عن أزمة كورونا، وإن كانت تركيا تشترك فيها مع باقي دول العالم، لكنها تعاني صعوبات استثنائية، لاسيما أن الأزمة حرمت تركيا من إيرادات قطاع السياحة، الذي يمثل أحد مصادر الدخل الرئيسي للبلاد.
لكن الصعوبات الاقتصادية الداخلية التي تعانيها تركيا تمثل العامل الرئيسي في دفع الليرة إلى المنحى السلبي الذي تتبناه على مدار الأيام الماضية، والذي دفعها إلى تسجيل أدنى مستوى لها على الإطلاق. كما أن السياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها الحكومة تلعب دوراً كبيراً في أزمة الليرة في الوقت الراهن، ولاسيما فيما يتعلق بالعلاقة، التي تبدو متوترة، بين البنك المركزي من ناحية، والرئيس رجب طيب أردوغان من ناحية أخرى. هذا بجانب عوامل أخرى تزيد من تعقد الأزمة التي تعيشها الليرة.
تراجع عميق:
تراجعت الليرة أمام الدولار في التعاملات المبكرة من صباح يوم الاثنين 2 نوفمبر الجاري، إلى مستوى قياسي منخفض جديد. وقد سجل سعر الصرف 8.3850 ليرة مقابل الدولار. وخسرت الليرة نحو 30% من قيمتها أمام العملة الأمريكية منذ بداية العام الجاري. وكانت وكالة بلومبيرج عقبت في مطلع أكتوبر الماضي على أداء الليرة، وقالت بأنها تخالف باقي عملات الدول الناشئة الأخرى. وقد صنفت الوكالة العملة التركية بأنها صاحبة ثاني أسوأ العملات أداءً في الأسواق الناشئة بعد الريال البرازيلي.
أسباب متشابكة:
ويعود الأداء السلبي لليرة إلى أسباب عديدة، يأتي على رأسها التراجع الكبير في حجم تدفق العملات الأجنبية إلى الاقتصاد، والناتج في الأساس عن معاناته من تراجع في إيرادات قطاع السياحة، وقد أظهرت بيانات صادرة عن معهد الإحصاء التركي أن إيرادات القطاع انخفضت بنسبة 71.2% في الربع الثالث من العام الجاري، لتصل إلى 4.04 مليار دولار، مقارنة بنحو 14.1 مليار دولار في الربع المقابل من العام الماضي، وهو ما يشير إلى حجم الفجوة الكبيرة في الإيرادات السياحية لتركيا في ظل كورونا مقارنة بها في الظروف الطبيعية قبل الأزمة.
ووفق بيانات المعهد، فقد تسببت الأزمة في انخفاض عدد السائحين الأجانب الوافدين إلى تركيا بنسبة 74% في الشهور التسعة الأولى من العام الحالي، ليصل إلى 9.46 مليون سائح فقط، بدلاً من 36.4 مليون سائح قبل عام.
وقد عاني الاقتصاد من أزمة أخرى نتيجة أزمة كورونا، متمثلة في الارتفاع غير المسبوق في عجز الميزان التجاري في الشهور التسعة الأولى من العام الجاري، ليصل إلى نحو 37.9 مليار دولار، بزيادة تبلغ 79.5% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. ويعتبر هذا الارتفاع في عجز الميزان التجاري أحد مسببات أزمة العملة في الوقت الراهن، كونها تزيد من نزيف النقد الأجنبي في الدورة الاقتصادية، وهو ما يزيد من الضغط على قيمة العملة مقابل العملات الأخرى.
كما أن العلاقة التي تبدو متوترة بين الرئيس أردوغان من ناحية والبنك المركزي من ناحية أخرى تلقي بظلالها على قيمة العملة، ففي الوقت الذي يسعى البنك المركزي إلى الدفاع عن قيمة العملة، من خلال الإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة، فإن أردوغان يضغط من أجل خفض الفائدة. وقد قام البنك المركزي برفع سعر الفائدة الرئيسي خلال اجتماعه في سبتمبر الماضي، لمواجهة معدل تضخم في خانة العشرات. كما أبقى البنك سعر الفائدة عند مستوى 10.25% في اجتماعه الخاص بشهر أكتوبر الفائت. وفي المقابل، علق الرئيس أردوغان قائلاً إن بلاده تخوض حرباً اقتصادية على ما أسماه "المثلث الشيطاني لأسعار الفائدة وأسعار الصرف والتضخم".
ويعود الخلاف بين البنك المركزي والرئيس أردوغان إلى أن الأخير يفضل أسعار الفائدة المنخفضة، ويرى أنها تمثل أفضل وسيلة لدعم الاقتصاد، من خلال خفض تكلفة التمويل بالنسبة للشركات والمستثمرين، بينما يسعى الأول إلى رفع أسعار الفائدة من أجل محاصرة التضخم الذي تظل معدلاته تدور في الوقت الراهن عند 11.75%، لاسيما أنه مع هذا التضخم المرتفع فإن المستثمرين يتحملون عائداً سلبياً على استثماراتهم في الأصول المقومة بالليرة بنسبة تصل إلى 1.5%، في ظل بلوغ أسعار الفائدة 10.25% كما سبق الذكر.
ويظهر استطلاع للرأى أجرته وكالة بلومبيرج مؤخراً تطلعات المستثمرين، الذين توقعوا قيام البنك المركزي خلال اجتماعه الأخير برفع سعر الفائدة بمقدار 175 نقطة أساس، أى أنهم توقعوا ارتفاع سعر الفائدة إلى 12%، وهو ما كان سيعني أن العائد على استثماراتهم في الأصول المقومة بالليرة سيكون ذا قيمة إيجابية تصل إلى 0.25% على الأقل. ويمثل التضارب في وجهات النظر بين الرئيس التركي والبنك المركزي عامل ضغط على الليرة بدوره، لاسيما أنه يعطي انطباعاً بعدم استقلالية السياسة النقدية التركية، وهو ما يفقد الليرة ومختلف الأصول ثقة المستثمرين الأجانب.
كما تواجه الليرة ضغوطاً إضافية نتيجة الاضطرابات الجيوسياسية الناتجة عن توتر العلاقات بين تركيا والدول المجاورة في منطقة شرق المتوسط، في ظل المساعي التركية للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة، تزامناً مع احتمال إقدامها على اختبار منظومة صواريخ "إس 400" الروسية، وهو ما تعارضه الولايات المتحدة، هذا بخلاف التوترات العسكرية والسياسية في منطقة القوقاز والتي تمس تركيا بشكل أو بآخر. وتمثل هذه العوامل الجيوسياسية المجتمعة عامل ضغط على الليرة، لاسيما أنها تعتبر متغيراً سلبياً يضغط على المستثمرين، ويزيد من عزوفهم عن التعامل أو الاستثمار فيها.
وفي مواجهة جميع هذه الظروف السلبية، التي تجعل آفاق الليرة ذات ضبابية شديدة، فإن الحكومة تسعى من أجل إنقاذ قيمة العملة، ويبدو ذلك جلياً في حرص البنك المركزي على إبقاء أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة، هذا بجانب قيام الحكومة ببيع السندات في الأسوق الدولية، وقد أقدمت على بيع سندات بقيمة تبلغ 2.5 مليار دولار، منذ شهر فبراير الماضي. لكن يبدو أن الإجراءات التي تتخذها تركيا للدفاع عن عملتها غير كافية، ويمثل التراجع المستمر في قيمة الليرة دليلاً قاطعاً على ذلك.