تستحوذ إفريقيا على 54 مقعدًا في الأمم المتحدة، وهو ما يمثل أكثر من ربع إجمالي عدد الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. كما أصبح الاتحاد الإفريقي يشكل منبرًا يتحدث الأفارقة من خلاله بصوت واحد حول العديد من القضايا الدولية الرئيسية، ومن بينها إصلاح الأمم المتحدة. وعليه فقد ازدادت اهمية صوت إفريقيا في الأمم المتحدة بشكل كبير. إذ يلاحظ أن أغلبية الثلثين مطلوبة لاتخاذ قرارات مهمة داخل الأمم المتحدة، لذلك سيكون من الصعب الموافقة على قرار للأمم المتحدة دون موافقة الدول الإفريقية.
وخلال السنوات الماضية شهدت إفريقيا عدة تحولات رئيسية، بما في ذلك التحولات الديموغرافية والاقتصادية والأمنية والسياسية. كل هذه التحولات مرتبطة ببعضها بعضًا وسوف تشكل في مجملها مستقبل القارة. وتُظهر ملامح الصورة العامة للمستقبل، ولا سيما بعد جائحة (كوفيد-19) توجهات غير حاسمة ويكتنفها الغموض. ربما تبقى الأمور على حالها أو تشهد تراجعًا في بعض الأماكن، بيد أنه ينبغي النظر إلى إفريقيا -في هذا السياق- على أنها قارة التعدد والتنوع في عوالم الأشياء والأفكار والأشخاص، ومن ثم لا يمكن الجزم بوجود اتجاهات عامة قابلة للتطبيق على جميع مناطق القارة.
لقد خضعت إفريقيا لأربعة قرون من العبودية وقرن آخر من الهيمنة الاستعمارية، ولم تنعم بحريتها سوى لفترة محدودة لا تتجاوز الستة عقود، وهو ما يجعل دراسة مستقبل رواية الصعود الإفريقي من منظور تاريخي أمرًا مفيدًا للغاية. في كثير من الحالات، لم يستفد من عوائد النمو الاقتصادي وثروة الموارد الطبيعية سوى الشرائح الصغيرة والأطراف المهيمنة، مثل النخبة السياسية المحلية والمستثمرين الأجانب. وعليه لم تكن قضايا التماسك الوطني، والعدالة الاجتماعية، والحرية السياسية، وحماية البيئة، ذات أهمية تذكر في عالم إحصاءات النمو المثيرة للإعجاب. لم تمنع صور صعود الطبقة الوسطى في إفريقيا التي يتم ترويجها إعلاميًّا في كل مكان من سماع القصص الأقل جاذبية والأكثر تعقيدًا حول النضالات اليومية للناس العاديين.
وعليه فإن دراسة هذه الأوضاع المعقدة يحتاج إلى نظرة ثاقبة حول إمكانية أن تتجاوز إفريقيا الاهتمام المحدود بالمكاسب الاقتصادية من أجل سد الفجوة بشكل أفضل بين "من يملكون" وهم قلة والأغلبية "الذين لا يملكون". في هذا السياق، سيكون من المهم بالنسبة للحكومات الإفريقية، وشركائها في التنمية، أن تأخذ في الاعتبار أن الحقائق المعيشية اليومية لمعظم الأفارقة قد تكون عكس ما توحي به الروايات الكبرى والأرقام الإحصائية الجذابة المرتبطة بحديث النهوض الإفريقي. وسوف يركز هذا المقال على أربعة اتجاهات حاكمة للمستقبل الإفريقي في عام 2035.
التحولات الديموغرافية:
يمكن القول من منظور عالمي مقارن، إن الإمكانات والقدرات الديموغرافية لإفريقيا لا مثيل لها في العالم، إذ يعد سكان إفريقيا الأسرع نموًّا في العالم، وسوف يشكلون ما يقرب من نصف النمو السكاني العالمي على مدى العقدين المقبلين. فمن المتوقع أن يرتفع السكان من حوالي 1.2 مليار شخص (2020) إلى أكثر من 1.8 مليار في عام 2035، بزيادة تقارب 50٪ على مدار الـ18 عامًا القادمة. أي إنه بحلول عام 2035، سيكون عدد سكان إفريقيا أكبر بكثير من عدد سكان الهند (1.6 مليار) أو الصين (1.4 مليار). ومن المتوقع أن تشهد إفريقيا أكبر نمو سكاني خلال الثمانين عامًا القادمة قد يصل إلى 4.3 مليارات نسمة بحلول عام 2100. وخلال هذا التاريخ،من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان أربعة بلدان إفريقية كبرى: سيزداد عدد سكان جمهورية الكونغو الديمقراطية الشعبية بنسبة 304٪ ليصل إلى 362 مليون نسمة، وإثيوبيا بنسبة 156٪ ليصل إلى 244 مليون نسمة، وتنزانيا بنسبة 378٪ ليصل إلى 286 مليون نسمة، ومصر بنسبة 120٪ ليصل إلى 225 مليون نسمة.
وعلى عكس أجزاء أخرى من العالم، ترتفع نسبة الشباب في البلدان الإفريقية التي تشهد معدلات خصوبة عالية (4.6 في إفريقيا جنوب الصحراء)، مما يشير إلى اتجاه عام يؤكد أنه بحلول عام 2100، سوف يكون 50٪ من المواليد في العالم في إفريقيا. ومع ذلك فإنه في ظل مسار التنمية الحالي، من المرجح أن يؤدي النمو السكاني السريع للغاية إلى تفاقم الفقر وانعدام الفرص الاقتصادية.
من المرجح أن تزداد قوة قارة إفريقيا على المسرح الجيوسياسي العالمي مع زيادة عدد سكانها. وعلى سبيل المثال، من المتوقّع أن تكون نيجيريا الدولة الوحيدة من بين الدول العشر الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم والتي شهدت نموًّا في عدد سكانها في سن العمل على مدار القرن الحالي (من 86 مليونًا في عام 2017 إلى 458 مليونًا في عام 2100)، مما يدعم النمو الاقتصادي السريع، وارتفاع تصنيف الناتج المحلي الإجمالي من المركز 23 في 2017 إلى المركز التاسع في 2100. أضف إلى ذلك أن هذا التحول الديموغرافي يرتبط باتجاهات الهجرة. إذ عادة ما تعاني البلدان الفتية من حيث عدد الشباب وذات الدخل المنخفض، أو التي تعاني من النزاعات المسلحة من الهجرة إلى الخارج. ومع ذلك فإن مستويات الهجرة إلى خارج القارة الإفريقية منخفضة بالمعايير الدولية، وإن كانت في ازدياد.
وتحدث الغالبية العظمى من موجات الهجرة، بما في ذلك النزوح القسري داخل القارة. تستضيف إفريقيا جنوب الصحراء اليوم أكثر من 27٪ من سكان العالم اللاجئين. ومن المرجح أن يستمر هذا التوجه في المستقبل، ومع ذلك من الممكن حدوث زيادة في الهجرة خارج القارة لأن ارتفاع الدخل في بعض البلدان سيسمح للناس باتخاذ المزيد من الخيارات المدروسة بشأن المكان الذي يذهبون إليه.
الاتجاهات الاقتصادية الكلية:
من غير المرجّح أن تنمو معظم اقتصادات إفريقيا بالسرعة الكافية لمواكبة النمو السكاني السريع للغاية من جهة، والضغوط المرتبطة بالطلب على التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية من جهة أخرى. على عكس الاتجاه العالمي، فإن عدد الأفارقة الذين يعيشون في فقر مدقع (أقل من 2 دولار تقريبًا في اليوم) سوف يستمر في الارتفاع، على الرغم من حقيقة أن النسبة المئوية للسكان الذين يعيشون في فقر مطلق من المرجح أن تنخفض.
وفي عام 2035، قد يكون هناك ما يصل إلى 170 مليون إفريقي يعيشون في ظل حالة من الفقر المدقع بصورة تجاوز ما يكون عليه الوضع في 2020. ويمكن أن نتصور ثلاثة اتجاهات اقتصادية كبرى في ظل جائحة (كوفيد-19):
1- "تراجع العولمة": وهو ما يؤثر على معدلات التبادل التجاري العالمية. وفي ظل حالة الاستقطاب التجاري الذي يستهدف الصين قد نشهد تآكلًا سريعًا لمبادئ التجارة الحرة، وهو ما يمكن أن يؤخر الانتعاش الاقتصادي العالمي. من جهة ثانية ربما تبرز آسيا ككتلة تجارية محورية في مركزها الصين نظرًا لارتفاع الطلب الصيني على السلع لدعم بنيتها التحتية، وهو الأمر الذي يحمل عواقب اقتصادية واستراتيجية على إفريقيا والبلدان النامية، التي تعتبر السلع الأولية صادراتها الرئيسية. ولا شك أن الاقتصادات الإفريقية، التي تلعب بالفعل دورًا ثانويًّا في شروط التجارة العالمية، معرضة لخطر المزيد من التهميش نتيجة لهذه الاتجاهات الكلية. لا يمكن للقارة أن تفعل شيئًا يذكر لمواجهة القوى العالمية التي تميل نحو تراجع العولمة، لكن يمكنها هي نفسها أن تتبنى النزعة الإقليمية الخاصة بالاعتماد على الذات من خلال تعزيز التجارة بين البلدان الإفريقية.
2- الديون والاستدامة المالية: لعل من بين أكبر الدائنين لإفريقيا ما يسمى بـ"بنوك السياسة" الصينية التي كانت مُقرضًا رئيسيًّا للبلدان الإفريقية على مدار العقد الماضي. ومن المتوقع أن تصبح ديون القارة مسيسة بشكل متزايد من قبل الدائنين الغربيين والصين. والأهم من ذلك، أنه لا يمكن للدول الإفريقية معالجة عبء الديون الذي يؤدي إلى تراجع النمو إلا من خلال تبني إصلاحات هيكلية حقيقية من أجل تعزيز قدرتها التنافسية على المدى الطويل. وفي نهاية المطاف يجب أن يصبح هذا هو الإرث الملموس لأزمة (كوفيد-19).
3- الرقمنة المتصاعدة: لقد أفضت أزمة (كوفيد-19) إلى تسريع تبني التقنيات الرقمية، حيث تسعى الشركات إلى تعزيز قدرتها التنافسية من خلال تقليل التكاليف في أعمالها. ومن المرجح أن يؤثر تبني العمل عن بعد على العديد من الاقتصادات غير المستعدة للتغير السريع الذي تحركه التكنولوجيا. قد يؤخر ذلك التحول الانتعاش الاقتصادي في العديد من الدول الإفريقية النامية. لكن هناك استثناءات بالطبع، حيث تسعى رواندا -على سبيل المثال- إلى تعزيز مكانتها كاقتصاد خدمات مدعوم بالتكنولوجيا قادر بشكل أفضل على الاستفادة من الابتكار والمعرفة في مرحلة ما بعد (كوفيد-19).
التحولات السياسية:
شهدت إفريقيا في مرحلة ما قبل جائحة (كوفيد-19) بسنوات معدودة تحولات سياسية كبرى هيمنت على المشهد السياسي، وهو ما دفع ببعض المحللين إلى القول بظهور موجة ديمقراطية جديدة في القارة. فقد حدث تغيير على مستوى رأس الدولة في أنجولا (2017) وإثيوبيا وجنوب إفريقيا وزيمبابوي (2018) والسودان والجزائر (2019)، وكان المأمول ألا يكون ذلك مجرد تبديل لجلد النخبة الحاكمة، ولكن يكون بداية لتبني توجهات سياسية واقتصادية جديدة. يُشير تقرير "برتلسمان" لمؤشر التحول في إفريقيا لعام 2020، المعنون: "تغيير الحراس أم تغيير الأنظمة؟" إلى ضرورة توخي الحذر بشأن احتمالات الإصلاح السياسي السريع. إذ من خلال مراجعة التطورات في 44 دولة خلال الفترة من عام 2017 إلى بداية عام 2019، وجد التقرير أن تغيير القيادة يؤدي إلى ثورة توقعات متزايدة سرعان ما تدفع بها التحديات والقيود السياسية المستمرة إلى إحباطات جماهيرية بسبب عدم حدوث أي تغيرات ذات قيمة. أحرزت بعض الدول تقدمًا ضئيلًا نحو الديمقراطية، بيد أنه في بعض الحالات ولا سيما مع تبنّي الاستجابات الأمنية لأزمة (كوفيد-19)، أصبحت البلدان أكثر قمعية بشكل تدريجي.
وفي الوقت نفسه، ظلت العديد من الدول الأكثر ديمقراطية في القارة، بما في ذلك بوتسوانا وغانا وموريشيوس والسنغال وجنوب إفريقيا، على حالها أو أنها تراجعت قليلًا. وهكذا، لم تشهد منطقة إفريقيا -ولا سيما جنوب الصحراء- أي تغييرات مهمة على المستوى العام للديمقراطية والإدارة الاقتصادية والحوكمة. على سبيل المثال، يُظهر المؤشر أنه بين عامي 2018 و2020، انخفض المستوى العام للديمقراطية بمقدار 0.09 فقط، وهو تحول طفيف على مقياس من 1 إلى 10. على أن استشراف آفاق المستقبل الإفريقي في مسألة التحول الديمقراطي يرتبط بالتباينات الإقليمية والخبرة التاريخية. إضافة إلى وجود بعض الدول ذات التجارب الديمقراطية الراسخة، مثل السنغال وموريشيوس وبوتسوانا، فإن هناك تباينًا حادًّا بين غرب وجنوب إفريقيا -والتي ظلت أكثر انفتاحًا وديمقراطية نسبيًّا- وبين إفريقيا الوسطى والشرقية، التي ظلت أكثر انغلاقًا واستبدادية. أدت تعقيدات النزاعات الممتدة وعدم الاستقرار السياسي كما هو الحال في جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى تقويض أداء الحكومة، وعجزها عن القيام بوظائفها الأساسية. وبالمثل فإن تجربة الشمال الإفريقي عانت من تداعيات الربيع العربي عام 2011، وهو ما أدى إلى انهيار الدولة الليبية.
تمدد بؤر التنظيمات الإرهابية:
أسهمت المشكلات المتراكمة التي واجهتها الدولة الإفريقية على مدى العشرين عامًا الماضية بدور كبير في نمو الظاهرة الإرهابية، ولا سيما في منطقة الساحل التي أضحت تشكل بؤرة جديدة للإرهاب وعدم الاستقرار. وعلى الرغم من ارتباط الإرهاب في إفريقيا، بالقاعدة والدولة الإسلامية، فإنه يختلف اختلافًا كبيرًا في طبيعته عن الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم. إذ يتم تجنيد 70٪ من جهاديي الساحل من المجتمعات المحلية للقيام بعمليات إرهابية ضد أهداف حكومية ومنشآت عسكرية، أو في بعض الأحيان ضد تنظيمات منافسة. وقد أدى تأثير الإرهاب في منطقة الساحل إلى تكريس بيئة من المعاناة الهائلة والتشرد والعنف. اعتبارًا من يونيو 2020، أُجبر ما يقرب من 920 ألف شخص على الفرار من بوركينافاسو، بزيادة قدرها 92٪ عن أرقام عام 2019. كما تعاني مالي بالمثل من مشكلة النازحين، حيث نزح 240 ألف شخص (54٪ منهم نساء). وفي أماكن أخرى، نزح 489 ألف شخص في النيجر، كما يحتاج 7.7 ملايين نيجيري إلى مساعدات طارئة.
يتوسّع إرهاب التنظيمات الإرهابية بالساحل ويتمدد بسبب عدم الاستقرار السياسي، وفساد الحكم، واتساع رقعة المناطق المهمشة والنائية التي تقع خارج نطاق السلطة المركزية، فضلًا عن هشاشة نظم تأمين الحدود التي يسهل اختراقها من خلال تدفقات الأسلحة والأفراد والبضائع المهربة بشكل غير شرعي بين البلدان. ونظرًا لتركيز الولايات المتحدة على سياسة احتواء الصين في ظل إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، وقرارها بخفض وجودها العسكري المخصص لمكافحة الإرهاب في الساحل؛ فإنه من المرجح أن تواجه الدول الفاشلة والضعيفة في المنطقة معضلة أمنية كبرى، مما يجعل منطقة الساحل وغرب إفريقيا ملاذًا آمنًا للتطرف الجهادي والتجنيد والتمويل في العمليات الإرهابية العالمية والمحلية.
ومن المعلوم أن الجهاد العنيف في الساحل يرتبط بالانقسامات العرقية على المستوى المحلي، وهو الأمر الذي يُعزز من الرواية الراديكالية في صفوف المجتمعات المحلية. وربما يرجع تنامي الظاهرة الإرهابية في الساحل كذلك إلى التنسيق بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى. في عام 2015، تم تشكيل ولاية الصحراء الكبرى بعد أن أعلن القائد البارز في (المرابطين) "أبو وليد الصحراوي" بيعته لأبي بكر البغدادي وتنظيم داعش في العراق وسوريا. وفي عام 2017 تشكلت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بعد اندماج مجموعات القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (فرع الصحراء الكبرى)، والمرابطين، وأنصار الدين، وكتيبة ماسينا.
ومن الملاحظ اختلاف طبيعة العمليات التي تقوم بها التنظيمات الجهادية العنيفة في المنطقة. تعتمد ولاية الصحراء الكبرى بشكل كبير على استخدام الدراجات النارية والتخريب الاستباقي لوسائل الاتصال قبل استهداف الأهداف والمنشآت العسكرية. وعلى الرغم من محدودية قوتهم النارية، فإن استخدام الدراجات النارية يسمح لـهم بإظهار القدرة على التكيف السريع من خلال نهج تكتيكات الصدمة وبث الرعب في صفوف الجماعات المستهدفة. من ناحية أخرى، انتهجت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين منهجًا يتسم بالسرية في عملياتها. إذ يتم دمج مقاتليها في المجتمعات المحلية لفهم واستغلال المظالم المحلية. بعد ذلك تستخدم الجماعة عوائد إيراداتها من التجارة غير المشروعة والسوق السوداء والأنشطة الإجرامية في مساعدة المجتمعات المحلية، كأن تساهم في تمويل المستشفيات وبناء المدارس. كما تخصص بعض الأموال أيضًا لتعويض المتضررين من ممارسات قوات الأمن الحكومية والجماعات الجهادية المتنافسة والعصابات المجاورة. وثمّة حالات كثيرة تزوج فيها مقاتلو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من داخل المجتمعات المحلية. علاوة على ذلك، يتعاون جهاديو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ويتفاوضون مع الزعماء الدينيين المحليين، لضمان تطبيق تفسيرهم للشريعة الإسلامية داخل المجتمعات مقابل توفير الحماية والمال والموارد الأخرى.
كان لجائحة (كوفيد-19) تأثير محدود للغاية على الأنشطة الإرهابية في منطقة الساحل، بل وبالعكس كانت هناك زيادة مطردة في الهجمات. إذ بالإضافة إلى الهجمات على الأهداف العسكرية، كانت بوكو حرام مثلًا تستهدف العاملين في مجال الرعاية الصحية. كما تقوم بتدمير المؤسسات الدينية والتعليمية على حد سواء. أصدرت بوكو حرام رسالة صوتية مدتها ساعة توضح بالتفصيل موقفها من (كوفيد-19)، حيث صوّر زعيمها "أبو بكر شيكاو" الفيروس كعقاب إلهي بسبب انغماس الناس في اللواط وعدم دفع الزكاة. كما زعم كذلك أن غير المسلمين والمنافقين كانوا يستخدمون تفشي المرض كذريعة لمنع المسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية، ووقف صلاة الجماعة والحج إلى مكة. وأدانت الجماعة التدابير الاحترازية التي اتخذتها السلطات، مثل سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي، باعتبارها شرًّا. كما استمرت الجماعة في الادعاء بأن غابات سامبيسا (المقر الحصين للجماعة في الشمال النيجيري) هي ملاذ آمن ضد الوباء، وهي بالطبع دعاية لغواية وتجنيد مزيد من الشباب النيجيريين.
ختاماً ينبغي أن تواصل الدول الإفريقية السعي وراء مبادرات مبتكرة وإصلاحات اقتصادية لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور التي تدعم الإرهاب والعنف. في عام 2019، أعلنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) عن اتفاق لتنفيذ خطة 2020-2024 لمكافحة الإرهاب في المنطقة. وطبقًا لهذه الخطة، من المتوقع أن يتم تخصيص 2.3 مليار دولار للحصول على المعدات العسكرية والتدريب، وتعزيز قدرات تبادل المعلومات الاستخباراتية لمعالجة ثغرات أمن الحدود وشبكات التجنيد للتنظيمات الجهادية. ومع ذلك ينبغي أن يكون مفهومًا أن الإرهابيين يسعون إلى استغلال نقص الطرق والمرافق الصحية والمؤسسات التعليمية والفرص والخدمات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي تعتبر حيوية لتحقيق الاستقرار والأمن في المجتمعات المحلية.
وثمة حلول قابلة للتطبيق على المستوى القاري لمعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الدافعة للإرهاب، ومن ذلك منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية التي تسعى إلى إدماج جميع دول القارة في سوق واحدة تضم 1.2 مليار شخص وناتج محلي إجمالي بقيمة 3.4 تريليونات دولار. وقد وقّعت جميع الدول باستثناء إريتريا على الوثائق القانونية الخاصة بالاتفاقية. وبمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، سوف تصبح إفريقيا أكبر منطقة تجارة حرة في العالم منذ تشكيل منظمة التجارة العالمية في عام 1995. وتتضمن بعض الفوائد الرئيسية زيادة التجارة البينية الإفريقية بنسبة 52.3٪ من خلال إلغاء رسوم الاستيراد، وكذلك خلق السبل نحو الاتحاد الجمركي الإفريقي. وبرؤية جيوسياسية أكثر شمولًا يمكن أن يُحدث ذلك تحولات فارقة في بنية النظام الدولي. قد يدفع ذلك إلى تراجع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لصالح قوى جديدة صاعدة على رأسها الصين وروسيا. ويمكن لإفريقيا من خلال السياسات الاقتصادية الجديدة والإصلاح الحكومي، أن تعيد بناء أسس العلاقات بين السلطة الحاكمة والمجتمعات القبلية والقادة المحليين للحد من تأثير وجاذبية الخطاب الراديكالي العنيف.