لم تتوقف بعد الانفجارات التي تعرضت لها منشآت نووية وصاروخية في إيران، وكان آخرها الانفجار الذي وقع في 10 يوليو الجاري، في بلدة قدس غربى العاصمة طهران، بعد الانفجارين اللذين تعرض لهما مصنع "همت" للوقود الصاروخي في خجير بالقرب من قاعدة بارشين ومنشأة ناتانز، في 26 يونيو و2 يوليو على التوالي، إلى جانب بعض الانفجارات الأخرى التي وقعت في منشآت غير نووية أو صاروخية.
وقد تكون الانفجارات الأخرى التي ليست لها صلة مباشرة بتلك المنشآت متعمدة، لتشتيت جهود الأجهزة الأمنية الإيرانية ووضع أكثر من احتمال خاص بهوية الجهات التي قامت بتنفيذها.
ومن دون شك، فإن استمرار تلك الانفجارات، فضلاً عن توقيتها، إلى جانب أهدافها المنتقاة، كل ذلك يقلص من أهمية وزخم تصريحات بعض المسئولين الإيرانيين الذين حاولوا التهوين من خطورتها وتأثيرها، والترويج إلى أسباب لا تبدو مقنعة في تبريرها، على غرار حدوث ماس كهربائي أو وقوع انفجار في منشأة قيد البناء أو غيرها. إذ لا يمكن استبعاد أن تكون هناك جهات خارجية مسئولة عن بعض تلك الانفجارات.
دلالتان رئيسيتان:
يطرح استمرار تلك الانفجارات دلالتين رئيسيتين ترتبطان بحدود تأثير العقوبات الأمريكية على إيران والمسارات المحتملة للتصعيد بين طهران من جهة وكل من واشنطن وتل أبيب من جهة أخرى، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- حدود تأثير العقوبات الأمريكية: قد تكون تلك الانفجارات، في حالة ثبوت مسئولية أطراف خارجية عنها، على علاقة وثيقة بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018.
فقد أنتجت هذه العقوبات تداعيات غير مسبوقة على إيران بدت جلية في تراجع صادراتها النفطية إلى أقل من 200 ألف برميل يومياً بعد أن كانت تصل إلى أكثر من 2.5 مليون برميل يومياً قبل مايو 2018، بشكل دفع إيران إلى خفض إنتاجها النفطي إلى أدنى مستوياته في أربعة عقود، وزيادة مخزونها من الخام على البر إلى 66 مليون برميل نفط في يونيو الفائت.
ومع ذلك، فإن هذه العقوبات لم تفلح في تغيير سياسة إيران إزاء بعض الملفات، لاسيما الملف النووي، بل إنها على العكس من ذلك، بدأت في تصعيد إجراءاتها المضادة، من خلال إعادة تنشيط برنامجها النووي، عبر رفع مستويات تخصيب اليورانيوم وزيادة كميته وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل إلى جانب منشأة ناتانز مفاعل فوردو.
وهنا، فإن ثمة مخاوف تنتاب واشنطن وتل أبيب، حسب ما تشير إليه كتابات عديدة، من أن استمرار إيران في تنشيط برنامجها النووي من جديد قد يمكنها من الوصول إلى مرحلة متقدمة جداً، ربما تتيح لها امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
ولذا، فإن بعض الكتابات تشير إلى أن الجهة التي دبرت انفجار ناتانز سعت إلى تدمير الموقع الذي تنتج فيه إيران أجهزة الطرد المركزي من طراز "آى آر 2م" (IR-2m)، التي لديها القدرة على إنتاج ما يتراوح بين 3 و5 أضعاف كمية اليورانيوم المخصب التي تنتجها أجهزة الطرد المركزي الأولية من طراز "IR 1".
وكانت إيران قد وجهت، في 8 سبتمبر 2019، رسالة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفيد أنها ستعيد تركيب الأنابيب في خطى أبحاث وتطوير لاستيعاب سلسلة من 164 جهاز طرد مركزي من نوع "آى آر 2م".
2- تجنب المواجهة المباشرة: وفقاً للسيناريو الذي يفترض مسئولية جهة أو جهات خارجية عن بعض تلك الانفجارات، فإن الاتجاه إلى هذا الخيار يوحي بأن هناك حرصاً على عدم الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة، أو المغامرة بتعزيز فرص اندلاعها. إذ أن هذا الخيار، الذي لا يتم فيه عادة إعلان المسئولية، يفرض تكلفة أقل، ويدفع الدولة المستهدفة إلى التفكير أكثر من مرة قبل الرد.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الجهة، أو ربما الجهات، المسئولة عن تلك الانفجارات تسعى إلى تحقيق هدفين: الأول، هو إقناع إيران بأن قدراتها العسكرية لها حدود على الأرض، وأنه من الممكن الوصول إلى مواقعها الأمنية والنووية والعسكرية الحساسة، بشكل قد يدفعها إلى تغيير سياستها، وهو الهدف الذي لم يتحقق عن طريق فرض العقوبات.
والثاني، هو إبطاء حركة التقدم في البرنامج النووي من جديد، خاصة فيما يتعلق بإنتاج أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً، والتي يمكن أن تساعد إيران في الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
خيارات مؤجلة:
لم توجه إيران، حتى الآن، اتهامات مباشرة وواضحة لأى طرف بالمسئولية عن تدبير تلك الانفجارات. وقد يعود ذلك إلى أن توجيه الاتهام يستتبعه بالضرورة إعلان الالتزام بالرد. لكن الأهم، هو أن إيران، في مثل هذه الحالات، تتعمد عدم التسرع سواء في توجيه الاتهام أو في إعلان الرد.
وهنا، فإن ثمة متغيرين ربما يساهمان في تشكيل موقف إيران في النهاية: الأول، اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما يعني أن استهدف مصالح أمريكية أو إسرائيلية قد يكون، وفقاً لرؤية طهران، في صالح الإدارة الأمريكية الحالية ويعزز فرصها تجديد ولايتها الرئاسية.
والثاني، مدى الوصول إلى توافق داخلي بين دوائر صنع القرار الإيراني حول ضرورة الرد وتوقيته. فقد كان لافتاً أن طريقة معالجة إيران لإسقاط الطائرة الأوكرانية، في 8 يناير 2020، بعد ساعات من توجيه الضربات الصاروخية على القاعدتين العراقيتين اللتين تتواجد بهما قوات أمريكية، اتسمت بالارتباك.
ففي البداية تم إنكار إسقاط الطائرة بواسطة صاروخ، ثم اعترف الحرس الثوري بمسئوليته عن إسقاطها بعد ثبوت ضلوعه في ذلك. كما تعمدت إيران المماطلة في تسليم الصندوقين الأسودين للطائرة، حيث رفضت ذلك في البداية، قبل أن تعلن، في 22 يونيو 2020، إرسال الصندوقين إلى فرنسا، بعد أن طلبت من مكتب التحقيق والتحليل لسلامة الطيران المدني الفرنسي تقديم مساعدة فنية لفك شفرتهما.
وهنا، فإن هذا الارتباك يعود، في قسم منه وحسب ما كشفت تقارير عديدة، إلى الخلافات التي اندلعت بين المسئولين البارزين في النظام، لاسيما الرئيس حسن روحاني وقادة الحرس الثوري، حول الاعتراف بإسقاط الطائرة والتعاون مع الدول المعنية بها.
وختاماً، يمكن القول إن واشنطن وتل أبيب تسعيان إلى تحقيق الأهداف المبتغاة من العقوبات الأمريكية عبر آليات أخرى، وخاصة ما يتعلق بإلغاء الاتفاق النووي الحالي و"إبطاء" النشاط النووي الإيراني. ومن هنا، يبدو أن التصعيد سوف يتواصل بين الأطراف الثلاثة، خلال الفترة القادمة، بهدف توجيه رسائل متبادلة، قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي تراقبها طهران بكل اهتمام، لما سيترتب عليها، وفقاً لاتجاهات إيرانية عديدة، من نتائج سوف تفرض نفسها على المسارات المحتملة لهذا التصعيد في المرحلة المقبلة.