شهدت الشهور الأخيرة تفاقماً كبيراً في الأزمة المالية في لبنان، الأمر الذي وضع اقتصادها على شفا الانهيار. ولقد تسبب القصور المالي الذي تعانيه الدولة في إعلانها التخلف عن سداد ديوناً كانت مستحقة في نهايات شهر مارس الماضي. ومازالت ملامح الأزمة قاتمة ومعقدة إلى حد بعيد. وقد أقدمت الحكومة على عدة إجراءات خلال الفترة الماضية من أجل معالجة تلك الأزمة، لكن مازالت هناك حاجة ماسة إلى المزيد من الإجراءات، وإلى المزيد من الوقت.
ملامح عديدة:
هناك ملامح عدة للأزمة المالية اللبنانية الحالية، منها ما يرتبط بضعف الإيرادات الحكومية، ومنها ما يتعلق بتدهور قيمة العملة، وشح النقد الأجنبي، إلى غير ذلك من ملامح سيتم تناولها فيما يلي:
1- عدم كفاءة النظام الضريبي: تعاني الموازنة العامة اللبنانية من ضعف شديد في الإيرادات، وهو ناتج في الأساس عن ضعف الإيرادات الضريبية. وقد أظهرت بيانات وزارة المالية المعلنة مؤخراً تراجع حصيلة الضرائب في البلاد بنحو 12.5% في الربع الأول من عام 2020، مقارنة بها قبل عام. كما كشفت البيانات أن معظم التراجع في حصيلة الضرائب حدث في شهر مارس، الذي بلغت نسبته 24.3%، مقارنة بالشهر نفسه من عام 2019، وهو أمر منطقي في ظل التبعات الاقتصادية السلبية لأزمة "كورونا"، التي زادت من معاناة الاقتصاد. كما أن البيانات المذكورة لا تغطي إلا بدايات إجراءات الإغلاق الشامل بسبب الفيروس، والتي بدأت في منتصف مارس.
وإلى جانب ضعف الإيرادات، فإن النظام الضريبي في لبنان يعاني خلالاً هيكلياً واضحاً. ففي الوقت الذي تشير البيانات إلى أن أشد الانخفاضات في الضرائب كانت في كل من حصيلة الضرائب الجمركية وضريبة القيمة المضافة، اللتين تراجعتا بنسب 51.5% و42.3% على الترتيب، فإن ضريبة الدخل كانت هى الوحيدة التي شهدت زيادة خلال الربع الأول، كما أن 72.5% من تلك الضرائب جاء من الضرائب المفروضة على مدفوعات الفائدة.
ويشير ذلك إلى خلل اقتصادي متزايد، لاسيما أنه يكشف في بادئ الأمر عن هبوط حاد في الإنفاق الاستهلاكي، وكذلك ضعف في حركة التجارة، ويسلط الضوء كذلك على اعتماد الحكومة غير المتناسب على ضريبة دخل الفائدة لتمويل أعمالها. كما أنه وفي الوقت ذاته، يشير إلى أن لبنان تعاني أزمة تهرب ضريبي كبير، وقد يكون هذا التهرب مقصود من قبل دافعي الضرائب من قطاع الأعمال، أو ناتج عن تضخم في الاقتصاد غير الرسمي على حساب الاقتصاد الرسمي، وكل ذلك يحد من الوعاء الضريبي للدولة.
2- سياسة نقدية غير فعّالة: تعاني الليرة حالة من الضعف الشديد في الوقت الراهن، وإذا كان هذا الضعف له جذور تاريخية تعود إلى عقود، لكنه في الوقت ذاته ناتج عن عدم كفاءة نظام سعر الصرف المتبع في لبنان، وهذا النظام لم يتمكن من ضمان استقرار الليرة ولم يوفر لها الأسباب الضامنة لذلك. كما أنه لا يساعد الاقتصاد على تأمين احتياجاته من النقد اللازم لتغطية الواردات، وكذلك ضمان استقرار سعر صرف الليرة. وقد فقدت الليرة نحو 70% من قيمتها منذ أكتوبر الماضي، ذلك التاريخ الذي شهد بداية ظهور أعراض الأزمة المالية الراهنة، والتي باتت تعتبر الآن بمثابة التهديد المالي الأكبر لاستقرارها منذ سنوات الحرب الأهلية.
ولا تتوقف أزمة الليرة عند تدهور قيمتها المستمر، لكن هناك مظهراً آخر للأزمة، يتعلق بوجود سوقين للصرف في لبنان، وهناك فجوة ضخمة بين سعرى الليرة فيهما. ففي الوقت الذي تُبقي فيه الحكومة على ربط الليرة بالدولار بسعر صرف يبلغ 1507.5 ليرة للدولار، فإن سعر الصرف في السوق الموازية يدور حول 5000 ليرة للدولار، وهذا يعني أن سعر الصرف الرسمي يعادل نحو 30% من سعر السوق الموازية.
ولا تنبع العوامل الدافعة لتدهور الليرة من الداخل فقط، بل إن تزايد الطلب على الدولار في سوريا خلال الشهور الأخيرة، في ظل الأزمة التي تمر بها الليرة السورية أيضاً، كان سبباً في تفاقم أزمة الليرة اللبنانية، إذ نتيجة للقرب الجغرافي والتشابك الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين، فإن نسبة كبيرة من الطلب على الدولار في سوريا تم تغطيتها من السوق اللبنانية.
3- تفاقم الدين الحكومي: تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الاجمالي في لبنان تبلغ 170%. وتعتبر أزمة الدين المتفاقم على هذا النحو عامل استنزاف لمواردها من العملات الأجنبية، عبر تسديد أقساط الدين وفوائده، كما أن هذا الدين المتضخم أيضاً يقلص من قدرة الحكومة اللبنانية على الحصول على قروض جديدة، لتأمين احتياجاتها من النقد الأجنبي اللازم للمحافظة على الاستقرار النقدي والمالي.
ما المخرج؟:
تعبر المعضلة المالية والنقدية التي يعيشها الاقتصاد اللبناني عن حالة معقدة من التأزم والخلل الهيكلي الشديد، وإذا بدت مظاهر الأزمة جلية في سوق صرف غير كفء وعملة محلية ضعيفة وحجم دين حكومي متضخم، فإن جذور الأزمة تكمن في ضعف الاقتصاد الحقيقي وعدم قدرته على تأمين احتياجاته من النقد الأجنبي من مصادر آمنة ومستقرة. كما لا يتمتع الاقتصاد اللبناني بالتنوع اللازم والكافي لمصادر الدخل، وكذلك الإيرادات الحكومية، وهو أيضاً يعتمد في تأمين احتياجاته من النقد الأجنبي على السياحة وتحويلات العاملين في الخارج، وهى عوامل تعاني الهشاشة وعدم القدرة على الصمود في ظل الأزمة العالمية، كالأزمة التي يمر بها العالم الآن، جراء تفشي فيروس "كورونا"، والتبعات الاقتصادية السلبية الناتجة عنه.
وفي مواجهة هذه المعضلة، يتعين على الحكومة الحالية، والحكومات المستقبلية أيضاً، أن تبحث عن حلول جوهرية وقابلة للاستدامة، للمشكلات الحقيقية التي يعانيها الاقتصاد، بداية من إيجاد قاعدة متينة له، وتخفيف وطأة اعتماد البلاد على إيرادات السياحة وتحويلات العاملين في الخارج، وإعادة النظر في سياسة سعر الصرف المتبعة، وغير ذلك من السياسات اللازمة للوصول إلى الاستقرار الاقتصادي والمحافظة عليه.