على النقيض من المتوقع تمكنت اليونان من احتواء انتشار فيروس "كورونا" إلى حد كبير وهو ما انعكس في قلة أعداد الإصابات ومحدودية الوفيات بالرغم من تهالك النظام الصحي، وتزايد نسبة كبار السن من إجمالي السكان، حيث تميزت مواجهة اليونان لفيروس كوفيد–19 بالاستجابة الحكومية المبكرة، والإجراءات الصارمة والشفافية في التواصل مع المواطنين الذين أبدوا التزامًا ملحوظًا بالإجراءات الاحترازية. وقد أفرز ذلك الترابط نموذجًا فريدًا في احتواء انتشار الفيروس.
ثغرات العدوي المتوقعة:
كان من المتوقع أن يكون تفشي فيروس كوفيد–19 في اليونان كارثة بكل المقاييس وبشكل ربما يفوق إيطاليا؛ وذلك لعدة أسباب؛ لعلَّ أبرزها ما يلي:
1- ارتفاع عدد السياح: تعد اليونان وجهة سياحية شهيرة عالميًّا، وقد استقبلت في أول تسعة أشهر من عام 2019 وحده، ما يقرب من 19.5 مليون زائر من مختلف دول العالم وفقاً لبيانات الهيئة الإحصائية اليونانية، ويمكنهم بسهولة نقل الفيروس إلى المواطنين. وبالإضافة إلى ذلك، يعتمد الاقتصاد اليوناني المتضرر في الأساس من جرَّاء أزمة الديون، على قطاعي السياحة والشحن الدولي، وهما القطاعان الأكثر تضررًا من الوباء بطبيعة الحال.
2- تصاعد نسبة كبار السن: تصل نسبة كبار السن (الأشخاص فوق 65 عامًا) من إجمالي السكان في اليونان إلى 21.3% (أي نحو مليونين و343 ألف مواطن)؛ ما يضعها في المرتبة الثانية في الاتحاد الأوروبي بعد إيطاليا، وذلك وفقاً للبيانات الإحصائية الجمعية اليونانية لأمراض الشيخوخة وطب الشيخوخة، ومن المعروف أن الفئة الأكثر تضررًا من فيروس كوفيد–19 هم كبار السن.
3- تردي النظام الصحي: وينعكس ذلك في عدة مظاهر، منها أن إجمالي عدد المستشفيات في اليونان بلغ 277 مستشفى في عام 2017 وفقًا لأحدث الإحصائيات الصادرة عن Statista، وهو عدد محدود مقارنةً بإجمالي عدد السكان، فضلًا عن أنه لم يكن هناك 560 سريرًا في وحدات العناية المركزة في البلد بأكمله (أي 5.2 سرير لكل 100 ألف شخص). وبالإضافة إلى ذلك فإن سياسات التقشف أضعفت النظام الصحي من حيث البنية التحتية والقوى العاملة والخدمات الصحية؛ فلا توجد مراقبة وبائية، وقد تم إضعاف المركز اليوناني لمكافحة الأمراض (CDC)، وتخفيض تمويله وتقويض حريته في البحث العلمي.
كل الأسباب السابقة مجتمعةً كان من شأنها أن تؤدي إلى سيناريوهات كارثية في حال انتشار فيروس كوفيد–19 بكثافة في اليونان، إلا أن الأخيرة تحدَّت كل التوقعات، واستطاعت تجنُّب هذه السناريوهات، بل أضحت قصة نجاح في أوروبا في احتواء الفيروس وتسطيح منحنى الإصابات والوفيات.
مؤشرات فعالية الإجراءات:
ثمة مؤشرات عدة تعكس نجاح النموذج اليوناني؛ يمكن إبرازها على النحو التالي:
1– انخفاض عدد الإصابات: فقد وصل إجمالي عدد المصابين في اليونان منذ بدء انتشار الفيروس إلى 2967 شخصًا، كما لم يتجاوز متوسط معدلات الإصابة في الأسبوعين الأخيرين (23 مايو – 6 يونيو) سوى 7 حالات جديدة. وهو أقل معدل إصابات يومي مقارنةً ببقية دول أوروبا.
تطور معدل الإصابات اليومية بفيروس كوفيد–19 في اليونان
Source: Worldmeters, at: https://www.worldometers.info/coronavirus/country/greece
في المقابل، ارتفعت معدلات التعافي من الفيروس بقدر ملحوظ؛ إذ وصل إجمالي عدد المتعافين 1374 شخصًا أي بنسبة 46.3%؛ وذلك رغم ضعف وتهالك المنظومة الصحية، ونقص غرف العناية المركزة، وهو ما يعني التزام المواطنين بإجراءات العزل، ونجاح الأطباء في علاج غالبية الحالات المصابة.
2– محدودية أعداد الوفيات: سجَّلت اليونان أقل معدل وفيات في الاتحاد الأوروبي عامةً بإجمالي 180 حالة وفاة فقط؛ أي بنسبة 6% من إجمالي عدد المصابين بفيروس كوفيد–19 في البلاد. ويعد ذلك مؤشرًا على نجاح الحكومة في تقليل عدد ضحايا الوباء في أراضيها مقارنةً بدول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا.
تطور معدل الوفيات اليومية بفيروس كوفيد–19 في اليونان
Source: Virusncov.com at: https://virusncov.com/covid–statistics/greece
3– إشادات دولية: حظيت الحكومة اليونانية بإشادات دولية عديدة في أعقاب قدرتها على احتواء جائحة كوفيد–19، والحفاظ على أدنى معدل وفيات ناتجة عن الفيروس. وقد برزت الإشادات على المستويين الرسمي وغير الرسمي؛ فقد أشادت معظم الحكومات الأوروبية بالنموذج اليوناني. لذا وافق مجلس بنك التنمية الأوروبي (CEB) على قرض بقيمة 200 مليون يورو لدعم استجابة اليونان للوباء، وتعزيز القطاع الصحي في البلاد، وتعزيز مستوى الخدمات الطبية المقدمة للسكان في سياق الأزمة الصحية المستمرة.
وكذلك أشادت الخارجية الأمريكية في 30 أبريل الماضي بأداء الحكومة اليونانية في إدارة أزمة كوفيد–19، داعيةً إلى تعزيز التعاون بين البلدين في المرحلة المقبلة وإعادة إنعاش الاقتصاد اليوناني عقب الأزمة.
من ناحية أخرى، أشادت معظم وسائل الإعلام العالمية بأداء اليونان في مواجهة الفيروس، وهو ما انعكس في التقارير والمقالات التي نشرتها تباعًا كل من بلومبرج، وفاينانشيال تايمز، ونيويورك تايمز الأمريكية، ودويتشه فيله الألمانية، وجارديان البريطانية وغيرها. وتركَّزت أغلب هذه الإشادات في شهر مايو الماضي؛ أي بعد ظهور مؤشرات نجاح النموذج اليوناني بوضوح.
خطة احتواء الفيروس:
إن مفتاحَي نجاح النموذج اليوناني تمثَّل في محورين: الحكومة والمواطن. والمحرك الأساسي لهذين المحورين هو ضعف نظام الرعاية الصحي؛ فالحكومة، من جانب، أدركت أنها مقبلة على كارثة إذا تزايدت حالات الإصابة؛ لعدم قدرة النظام على استيعابها، فتحركت سريعًا بأسلوب استباقي. والمواطن، على الجانب الآخر، أدرك أنه إذا أُصيب بالفيروس فلن يجد لنفسه سريرًا في غرف العناية المركزة المحدودة، فاستجاب للتعليمات بأسلوب فعَّال والتزم بالبقاء في البيت، وقد اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات الهامة منذ بدء انتشار الفيروس، تمثلت فيما يلي:
1- الإغلاق الاستباقي: إذ بدأت الحكومة اليونانية تتخذ الإجراءات الاحترازية اللازمة لمواجهة الفيروس قبل معظم دول أوروبا. ففي أواخر فبراير، قبل تسجيل حالة وفاة واحدة بسبب الفيروس، تم إلغاء الكرنفالات. وأُغلقت المدارس والجامعات على الصعيد الوطني في 10 مارس، عندما لم يكن هناك سوى 89 حالة مؤكدة في البلاد، كما تم إغلاق المقاهي والمطاعم والمواقع السياحية بعد ذلك بثلاثة أيام.
كذلك تم حظر التجمعات العامة لأكثر من 10 أشخاص. وحظرت الحكومة جميع أشكال السفر غير الضروري مع الدول الأكثر تضررًا في 22 مارس؛ حيث كان هناك حينها 624 حالة مؤكدة و15 حالة وفاة في اليونان.
كذلك تم فرض حجر صحي إلزامي لمدة أسبوعين على القادمين من الخارج، أو دفع غرامة تبلغ نحو 5400 دولار، كما كان يجب على كل شخص في البلاد إخطار الحكومة في كل مرة يغادر فيها منزله، ولو كان عليه أن يخرجوا لتمشية الكلب.
بالإضافة إلى ما سبق، اعتمد نهج الحكومة اليونانية في التعامل مع الوباء على إعطاء الأولوية للعلم على السياسة، فكانت تستمع للخبراء المتخصصين بالمجال ويتم تنفيذ توصياتهم بشأن التعليمات الجديدة ومواعيد تخفيف القيود، وغيرهما.
2- دور خبراء الصحة: إذ حرصت الحكومة اليونانية على اتباع نهج الشفافية والمصارحة مع المواطنين بشأن تطورات الفيروس، واعتبرت هذا الأمر على قدر أهمية الإجراءات المبكرة. وقد صارحت الحكومة المواطنين من البداية بأن "نظام الرعاية الصحية الضعيف يعني أنه يجب تنفيذ إجراءات قاسية في وقت مبكر من أجل إنقاذ الأرواح ولو تضرر الاقتصاد بشدة".
ففي تمام الساعة السادسة مساءً من كل يوم، يقوم اليونانيون بتشغيل أجهزة التلفزيون الخاصة بهم للاستماع إلى الموجز اليومي لوزارة الصحة اليونانية بشأن تطورات الفيروس، الذي يلقيه المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة "سوتيريس تسيودراس" أستاذ الأمراض المعدية والذي له الفضل في اتخاذ الإجراءات الاستباقية لمواجهة الفيروس، ويقدم خلال كلمته أحدث الحقائق والأرقام بشأن الفيروس، وتتبعه دائمًا كلمة نائب وزير الحماية المدنية وإدارة الأزمات "نيكوس هاردالياس" الذي يشير إلى خطورة الوضع وينبَّه على ضرورة البقاء في المنزل.
3- دعم النظام الصحي: استغلت الحكومة فترة الإغلاق لزيادة قدرة النظام الصحي تحسبًا للزيادات المحتملة في الحالات المصابة بالفيروس، وقد نتج عن ذلك زيادة عدد أسرَّة العناية المركزة من 565 سريرًا في أوائل مارس إلى 910 في نهاية الشهر، كما اتفقت الحكومة مع المستشفيات الخاصة على استقبال المرضى الذين يعانون من أمراض غير متعلقة بفيروس كوفيد–19، بما يتيح مساحة للمرضى المصابين بالفيروس في المستشفيات العامة.
4- التوجه نحو التحول الرقمي: فقد أصبحت الحاجة إلى تبسيط العمليات الحكومية ذات أهمية قصوى في ظل انتشار الوباء. وبهدف حث الناس على البقاء في المنزل، تم تمكين المواطنين من تلقي الوصفات الطبية على هواتفهم، وتشير بعض التقديرات إلى أن هذا أدي إلى عدم قيام ما يقدر بحوالي 250 ألف مواطن بزيارة الطبيب في غضون 20 يومًا. وفي الوقت ذاته تم توفير معظم المستندات الحكومية على الإنترنت، لتقليل ذهاب الناس إلى المصالح الحكومية.
5- تشديد إجراءات الحظر: فلم تتهاون السلطات اليونانية مع الإخلال بإجراءات الحظر؛ فقامت بمراقبة الكنائس، على الرغم قوة الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ورفض رجال دينها التخلي عن الخدمات وطقوس المناولة المقدسة، إلا أنها استجابت بعد فترة للتعليمات الحكومية، كما قامت الحكومة بتجنيد دوريات الشوارع لمراقبة منتهكي الحظر، بل نشرت الطائرات المسيَّرة (الدرونز) لمراقبة تحركات المواطنين في أوقات الحظر، وغيرها من الإجراءات المتخذة لمنع انتشار الفيروس.
ولم يكن لكل هذه الإجراءات أن تنجح إلا في بمواطنين واعين ومدركين خطورة الوباء وأزمة النظام الصحي، كما أن أهمية الصحة الجيدة في الثقافة اليونانية سبب آخر لقبول المواطنين إجراءات الإغلاق والتزامهم بالحظر؛ إذ دومًا تأتي الصحة في المرتبة الأولى بالنسبة إلى اليونانيين في الأوقات العادية.
وقد مثَّل ما سبق خلاصة التجربة اليونانية في مواجهة الفيروس، بيد أن هناك نقطة هامة ينبغي الإشارة إليها؛ إذ ترجع بعض التحليلات انخفاض أعداد الإصابات في اليونان إلى قلة عدد الاختبارات التي أجرتها اليونان على مواطنيها؛ حيث أجرت اليونان حتى 4 يونيو 2020 ما يصل إلى 180 ألف و518 اختبارًا، وهو معدل منخفض مقارنة ببقية دول الاتحاد الأوروبي.
تهديدات "كورونا" المقبلة:
برغم أداء اليونان الجيد حتى الآن مقارنةً بالدول الأخرى، فإن العديد من سكانها أكثر عرضةً للخطر من غيرهم؛ وذلك بسبب تأكيد ظهور 44 حالة بين المهاجرين المحتجزين في معسكرين في البر الرئيسي، كما ورد أن 148 شخصًا تم التأكد من إصابتهم بالفيروس في فندق يضم لاجئين بجنوب غرب أثينا.
وبرغم عدم ظهور حالات حتى الآن، في المخيم الأكثر اكتظاظًا في جزيرة ليسفوس الذي يزدحم فيه أكثر من 18 ألف شخص في أقل من عشر كيلومتر؛ فإن ظهور حالة واحدة به من شأنها نشر الفيروس بشكل أسرع مما انتشر في ووهان في ذروة تفشي الفيروس في الصين، خاصةً مع صعوبة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي في هذه المخيمات، بما يشكل خطورة على مواطني اليونان.
ولمواجهة هذه الأزمة، نقلت الحكومة اليونانية، في 16 أبريل الماضي، 2380 شخصًا، معظمهم من كبار السن من المهاجرين الذين يعانون من ظروف صحية سابقة، بعيدًا عن الجزر اليونانية إلى المخيمات في البر الرئيسي، لكنها أعلنت أيضًا أن القيود على حركة المهاجرين في جميع أنحاء البلاد، ستستمر 10–13 يومًا أطول من بقية البلاد، وهو ما يجعل المحاصرين في المخيمات أكثر عرضةً للخطر.
ختامًا، تنبغي الإشارة إلى أنه لا يمكن أن يُخفي نجاح اليونان نقاطُ الضعف الهيكلية التي لا تزال قائمة في نظام الرعاية الصحية. ومع البدء في تخفيف القيود لا تزال نقاط الضعف هذه موجودة، وفي ظل احتمال حدوث موجة ثانية من الوباء أو ظهور حالات داخلية، فإنها ستكون عُرضةً مرة أخرى للكارثة التي تجنبتها في الموجه الأولى من الوباء.