ربما تبدو مقولة "أنطونيو جرامشي" بأن "العالم القديم يُحتضر والعالم الجديد يكافح من أجل أن يولد" صحيحة اليوم في ظل جائحة كورونا. يخوض كل فرد منا حربًا بشكل أو بآخر من أجل البقاء وتجنب الأسوأ. مع عمليات الإغلاق وحظر التجول، وسيادة المنطق التآمري والذعر الأخلاقي، وعدم اليقين؛ تغير العالم كله من حولنا، وأصبحنا أمام لحظة حاسمة في التاريخ تُحدد مستقبل الأجيال القادمة. ما هو تأثير ذلك كله على إفريقيا؟ قبل بضع سنوات عندما دمّر فيروس الإيبولا بعض دول غرب إفريقيا (ليبيريا، وغينيا، وسيراليون)؛ قدمت الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي يد العون. أما اليوم وقد تساوى الجميع أمام هذه الجائحة المدمرة، فقد وقفت الدول الإفريقية بمفردها تقريبًا، حيث تحارب هذا الفيروس القاتل بإمكاناتها المحدودة مع قليل من الدعم الخارجي.
وتُظهر مقاربة الأزمة الحالية بالأزمات السابقة التي شهدها العالم بجميع أنواعها من قبل أن فيروس كورونا يشكل أزمة تتجاوز أبعادها الصحية والاقتصادية، وهو ما يؤدي إلى حالة من عدم اليقين. قد تكون أنماط استجابة الدول الكبرى في النظام الدولي للجائحة المرضية مؤشرًا رئيسيًّا لعالم جديد قيد التشكل. خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، انتشر الحديث عن تراجع الغرب، وصعود ما يمكن الإشارة إليه بالاقتصادات الناشئة والتوجه نحو آسيا. وعليه قد يكون من المفيد الاستفادة من كتابات العديد من المفكرين الذين حذروا من تراجع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. على سبيل المثال، تُجادل "دامبيسا مويو" في مؤلفها "كيف خسر الغرب" عام 2011، "أن الغرب أصبح أسير ثقته المفرطة في الذات؛ فقد توقفت كل محركات النمو (تراكم رأس المال، وتراكم المهارات والابتكار التقني) ولا توجد إرادة سياسية لإنقاذ الموقف. لقد فشل سوق رأس المال في مهمته الأساسية المتمثلة في إيجاد فرص الاستثمار التي تقدم عوائد جيدة مع مخاطر مقبولة".
ومن جهة أخرى، يقول "فريد زكريا" في كتابه "عالم ما بعد أمريكا" الصادر عام 2008: "إن المشكلة الحقيقية هي نهوض الصين، التي تتبعها الهند. إن قصة الصين هي بالفعل أكثر قصة نجاح لا تُصدق في التاريخ، وهي تسرد مسيرة نمو اقتصادي يتراوح من 7% إلى 10% طيلة ما يقرب من 30 عامًا، فيما يبدو أنه تحدٍّ للقوانين الاقتصادية". وعلى أية حال فإن الاستفادة من دروس الماضي والأزمات السابقة تُمكّننا من بناء تصور لما يمكن أن تكون عليه الدول الإفريقية في مرحلة ما بعد كورونا.
اتجاه تشاؤمي:
كما هو الحال في أفلام الخيال العلمي وكائنات "زومبي" العجيبة التي تُنذر دومًا بنهايات مأساوية، ثمة سيناريو كارثي للحالة الإفريقية على المدى القصير والمتوسط. تقول "مليندا جيتس"، زوجة الملياردير الشهير "بيل جيتس"، إن الافتقار إلى أدوات الاختبار في إفريقيا هو السبب في انخفاض حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في القارة، وهذا سيجعل شوارع إفريقيا بمثابة مقبرة مفتوحة. أضف إلى ذلك، ذكر تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أبريل 2020 أنه "سوف تتراوح نسبة الوفيات في إفريقيا بين ثلاثمائة ألف و3.3 ملايين شخص جراء الإصابة بفيروس كورونا المستجد". بناءً على أدنى توقعات اللجنة الاقتصادية لإفريقيا وبمعدل انتشار المرض الحالي، سوف يبلغ عدد الإصابات في إفريقيا ما لا يقل عن 7.6 ملايين إصابة مؤكدة.
وعلى الرغم من عدم واقعية هذه التقديرات في نظر البعض، فإن الآثار المرتبطة بالصحة العامة سوف تكون بالغة الصعوبة لعددٍ من الأسباب: أولًا ضعف أنظمة الصحة العامة، وعدم وجود قواعد للتصنيع من أجل التصدي للفيروس واحتوائه. إذ تواجه معظم البلدان الإفريقية نقصًا حادًّا في أسرّة المستشفيات وأجهزة التنفس، وكذلك المواد الطبية اللازمة لمكافحة الوباء. على سبيل المثال، كما يؤكد الاقتصادي المصري المرموق الدكتور "محمد العريان" فإن زيمبابوي بها خمسة أجهزة تنفس صناعي، وجنوب السودان بها أربعة فقط.. إذا تفشى الوباء في إفريقيا، فإن معضلة الاختيار سوف تكون بين الموت من العدوى والموت من الجوع. ثانيًا الأبعاد الاجتماعية والثقافية، فقد كانت إفريقيا ولعقود طويلة أسرع مناطق العالم من حيث التوسع في المناطق الحضرية.
وفي هذا السياق يعيش أكثر من 70% من سكان المدن الجدد في الأحياء الفقيرة التي تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية. وعليه فإن تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي وغيرها من الإجراءات الوقائية -مثل غسل اليدين بالصابون عدة مرات في اليوم- سوف تكون غير ممكنة، إن لم تكن مستحيلة. أما ثالثًا فإن مستويات الفقر المرتفعة (85% من الأفارقة يعيشون على أقل من 5.50 دولارات في اليوم) تعني أن معظم من يعيشون على الهامش وينخرطون في القطاع غير الرسمي لا يكون بمقدورهم تحمل سياسات الإغلاق الصحي طويلة الأمد.
وفقًا لهذا السيناريو الكارثي سوف تكون إفريقيا في وضع صعب. ففي حالة استمرار الأزمة عالميًّا وتأخر الوصول إلى علاج أو لقاح، فإنها يمكن أن تتحول إلى أزمة اقتصادية عميقة على المستوى الإفريقي. سوف تُناضل الدول الإفريقية من أجل احتواء تداعيات الركود العالمي، وتقوم باستخدام قدراتها المالية المحدودة لتلبية الاحتياجات الصحية الملحّة، ودعم أنظمتها الإنتاجية وحماية الوظائف، وسط ارتفاع معدلات الفقر ونقص شبكات الأمان الاجتماعي. لقد كانت مقدمات هذه الكارثة الوبائية غير مبشرة، حيث عانت إفريقيا من آثار تغير المناخ، عندما دمرت أسراب الجراد محاصيل شرق إفريقيا، كما أن موزمبيق كادت تقف على قدميها بعد إعصارين، وواجهت زامبيا وزيمبابوي أسوأ موجة جفاف منذ أربعين عامًا. وعلى أية حال، تتوقع أكثر السيناريوهات تفاؤلًا أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي لإفريقيا إلى 0.4 في المائة فقط في عام 2020. بيد أن جميع السيناريوهات الأخرى، تتوقع أن تشهد إفريقيا انكماشًا اقتصاديًّا في عام 2020، حيث ينخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لديها بين خمس وثماني نقاط مئوية. ومن المرجح أن تكون التكلفة الاقتصادية على السكان الأفارقة باهظة. وطبقًا لتقديرات الأمم المتحدة فإن نحو 20 مليون إفريقي قد يفقدون وظائفهم، ويمكن أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد. لقد حذّر الرئيس الرواندي "بول كاغامي" من أن الأمر قد يستغرق جيلًا كاملًا حتى يتم التعافي من التبعات الاقتصادية لفيروس (كوفيد-19).
الرؤية الواقعية:
قد يذهب البعض إلى القول بأن إفريقيا سوف تشهد أدنى معدلات للإصابة مقارنة بأوروبا وأمريكا الشمالية. وربما يُعزَى ذلك لعوامل مناخية وديموغرافية. إن التفسير الأكثر شيوعًا هو أن الفيروس التاجي لا يستطيع مقاومة الحرارة أو أشعة الشمس المباشرة. كما أن التركيبة السكانية التي تُهيمن عليها فئة الشباب في إفريقيا تمثل ثاني أكثر التفسيرات شيوعًا. عادة ما يقول الأفارقة تندرًا: "الفيروس عجوز وبارد، وإفريقيا شابة وحارة". ومن جهة أخرى، فإن لإفريقيا تجارب سابقة مع الأوبئة، مثل الإيبولا ومرض نقص المناعة المكتسبة. لذا فإن العاملين في مجال الرعاية الصحية وحتى السكان أصبحت لديهم دراية معينة بحالات الأزمات الصحية، وقد تم تعلم الدروس وتنفيذ "أفضل الممارسات".
لعلّ أكبر درس يجب أن تتعلمه إفريقيا من هذا الوباء هو فضيلة الاعتماد على الذات من أجل البقاء. وكمثال على ذلك، إذا تمّ العثور على لقاح للسيطرة على الفيروس؛ فلن تتلقاه إفريقيا إلا بعد أن يسد الغرب حاجته منه. ربما لا تكون الدول الغربية بمثل جرأة رئيس الولايات المتحدة "دونالد ترامب" عندما يتحدث عن "أمريكا أولًا"؛ لكنها واقعيًّا لديها السياسة نفسها. لا ينبغي للقادة الأفارقة أن يهاجموا "ترامب" أو الغرب بسبب تخاذله في مد يد العون؛ ولكن عوضًا عن ذلك يجب عليهم النهوض باقتصاداتهم وأن يعتمدوا على أنفسهم.
أدخلت 40 دولة إفريقية حزمة كبيرة من السياسات والآليات المختلفة لدعم الاقتصاد والشرائح الفقيرة والمهمشة من السكان. يشمل ذلك الإعفاء الضريبي للقطاعات الرئيسية المختلفة، والتحويلات النقدية المستهدفة للفقراء والمهمشين. كما تقوم الدول الإفريقية العشر "الأفضل أداءً" بتنفيذ سياسات وتدابير شاملة أو مبتكرة بشكل خاص تستحق أن تتعلّم منها الدول الأخرى في إفريقيا وحول العالم. ومن هذه التدابير على سبيل المثال: إنشاء أسواق في أماكن مفتوحة تُراعي التباعد الاجتماعي للبائعين في القطاع غير الرسمي (كينيا)، والإعفاء الشامل من رسوم المياه والمرافق الأخرى للجميع لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر (النيجر وغانا)، وتقديم إعانات نقدية (بوتسوانا)، وزيادة العائد الشهري للرائدات الريفيات (مصر).
كما لجأ الأفارقة إلى التكنولوجيا لمواجهة الأزمة الاقتصادية والصحية، وتمّ اعتماد الحلول الرقمية لممارسة الأعمال وفي قطاع البنوك والتعليم والاتصال بالعالم الخارجي. لقد أصبحت تطبيقات زووم Zoom ومايكروسوفت تيم Microsoft Team من أبرز مصطلحات البحث على منصة جوجل Google في البلدان الإفريقية. كما قامت غانا وحكومات غرب إفريقيا الأخرى بإلغاء بعض رسوم فتح حسابات وتحويل الأموال عبر الهاتف المحمول. وقد أدخلت بعض الدول الإفريقية مثل السنغال منصات تعليمية عبر الإنترنت، وتقدم جامعات إفريقية عديدة حزم بيانات تقنية للطلاب. كما تنشر رواندا طائرات بدون طيار لتوزيع الأدوية وتقديم إعلانات الخدمات العامة. قد لا يزال انتشار الإنترنت منخفضًا نسبيًّا، لكن جائحة كورونا سوف تحفز الأفارقة على الابتكار واستخدام وسائل جديدة وغير مألوفة.
سيناريوهات الدور الإفريقي:
لعل السؤال الأكبر الذي يشغل بال منظّري العلاقات الدولية، هو ما إذا كان فيروس كورونا المستجد قادرًا على إعادة تشكيل النظام العالمي. جادل البعض بأن استجابة الولايات المتحدة المتأخرة لهذا الوباء وانكفاءها على الذات في ظل سياسة "ترامب" الخاصة بشعار "أمريكا أولًا" قد أعطى الفرصة للصين -بعد نجاحها في احتواء الفيروس ومساعدة الآخرين- لتثبت جدارتها على الصعيد الدولي. ومع ذلك، ربما يكون من السابق لأوانه الافتراض بإمكانية حدوث تحول أساسي في علاقات القوة العالمية لصالح الصين. وعلى أية حال يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية سوف يترتب عليها التأثير على مكانة إفريقيا في النظام الدولي.
1- الفوضى الدولية: في حالة إعادة انتخاب الرئيس "ترامب" لولاية ثانية، وتأخر الوصول إلى لقاح لفيروس كورونا؛ فإن قدرة الاقتصادات الكبرى على التعافي سوف تستغرق فترة زمنية أطول مما هو متوقع. قد تعود الولايات المتحدة والصين إلى لعبة اللوم المتبادل، ومحاولة حصول الرئيس الأمريكي على مزيد من الامتيازات من الصين. وفي هذا الاتجاه، قد يسير الاتحاد الأوروبي باتجاه الانقسام مع بروز الروح القومية وتراجع القوى المؤيدة لتيارات العولمة. ربما تُعيد إيطاليا نفس تجربة اليونان، حيث تصبح غير قادرة على الاستقرار بعد التكاليف البشرية والاقتصادية المدمرة للوباء. يعتقد الإيطاليون أنهم بحاجة إلى الدعم غير المشروط من أعضاء الاتحاد الآخرين. ومع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي تزداد حدة الفقر والبطالة، ولا سيما في الدول النامية، وهناك احتمال لوقوع صراع مفتوح بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا.
ولا يخفى أن فوضوية النظام الدولي قد تُعزز من إمكانيات حدوث السيناريو الكارثي الإفريقي، حيث تتأثر الروابط التجارية المباشرة سلبًا بين إفريقيا وكل من آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، كما تتراجع عوائد السياحة، وتحويلات المغتربين الأفارقة، وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، والمساعدات الإنمائية الرسمية. كما أن انخفاض أسعار النفط العالمية سوف تؤثر بشكل كبير على عوائد الدول الإفريقية المنتجة له (مثل: الجزائر، وليبيا، وأنجولا، ونيجيريا). من المتوقع أن يُسهم غياب توازن القوى على الصعيد الدولي في زيادة وتيرة الصراعات والحروب الأهلية التي تشهدها الدول الفاشلة في إفريقيا. في الواقع، كما هو الحال في ليبيا ومالي والصومال، سوف تقع كثير من الدول الإفريقية فريسة للتدخلات الخارجية.
2- الصعود الصيني: قد ترى القيادة الصينية أن الفرصة سانحة لتقويض مصداقية الديمقراطية الغربية الليبرالية من خلال التوسع في برنامج المساعدات الإنمائية، مع زيادة القروض الميسرة، والمزيد من مشاريع البنية التحتية؛ عندئذ يتم توسيع صفقات "الحزام والطريق" لتشمل المزيد من الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مما يمنح بكين ملكية البنية التحتية الحيوية في المزيد من البلدان. في الداخل، يعمل الحزب الشيوعي الصيني على تعزيز الدعم الشعبي بنجاح من خلال تصوير الديمقراطيات الغربية على أنها غير قادرة على التعامل بفعالية مع الوباء. سوف تصبح إفريقيا مجالًا رئيسيًّا في ظل هذه التفاعلات الدولية وظهور القوى الآسيوية مقابل التراجع الغربي والأمريكي. درس الزعماء الأفارقة قصص النجاح الاقتصادي في شرق آسيا وتعلموا منها. علموا أن التجارة، وليس المساعدات، هي التي تحفز النمو الاقتصادي.
ولقد أضحت الصين اليوم أكبر قوة تجارية في العالم. يبلغ إجمالي تجارتها 4.43 تريليونات دولار مقارنة بـ3.89 تريليونات دولار للولايات المتحدة. بيد أنه لتعزيز التجارة البينية داخل إفريقيا، هناك حاجة إلى البنية التحتية في المقام الأول. عندئذ يصبح الطلب الإفريقي على الصين متزايدًا باعتبارها القوة العظمى في مجال البنية التحتية في العالم. إنها تقوم بالفعل ببناء موانئ وخطوط سكك حديدية وطرق ومحطات طاقة في إفريقيا تشتد الحاجة إليها. وتشمل هذه المشاريع الموانئ الضخمة في باغامويو، تنزانيا، وسكة حديد أديس أبابا-جيبوتي، وهو أول خط سكة حديد مكهرب بالكامل عبر الحدود في إفريقيا. يقول الرئيس الرواندي "بول كاغامي": "إن الصينيين يجلبون معهم كل ما تحتاجه إفريقيا: الاستثمار، والمال للشركات والحكومات". وتكفي الإشارة إلى أنه عندما تعقد الصين اجتماعات القمة الصينية الإفريقية، يحضر كل القادة الأفارقة بلا استثناء.
3- "توازن القوى": قد تدفع سرعة اكتشاف لقاح، والاتفاق على خطط لانتعاش الاقتصاد العالمي، بما في ذلك رفع إغلاق الحدود، وتخفيف الرسوم الجمركية والحواجز التجارية الأخرى؛ إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بشكل تعاوني. هناك دعوات واسعة النطاق لجميع الحكومات من أجل تبنّي المنهج الإصلاحي. قد يتم إنشاء وكالة إنذار دولية بشأن الأمراض والصراعات والمناخ، وهو ما يجعل الجانب البيئي من العولمة الأبرز في عالم ما بعد كورونا. ولا شك أن عضوية الصين في مثل هذه الآلية الدولية تجعل منها مواطنًا عالميًّا مسؤولًا ويخفف من حدة الخلافات الأمريكية مع الصين. من المتوقع كذلك تحسن العلاقات الأمريكية مع أوروبا. هذا المسار التعددي يدفع باتجاه تعاون الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ودول أخرى، حيث تجمعهم مصالح مشتركة في مكافحة تغير المناخ والأزمات الصحية المستقبلية.
في ظل هذا العالم متعدد الأقطاب تصبح إفريقيا وجهة مفضلة للاستثمار، ومكانًا مربحًا للفرص الاقتصادية. ربما يعزز ذلك من قدرتها التفاوضية في مجال استغلال مواردها الطبيعية. ومن المتوقع في مثل هذه الحالة أن تسعى برامج التنمية المستدامة عبر القارة إلى تحويل لعنة الموارد لتصبح دافعًا لنهضة إفريقية جديدة. يصاحب ذلك قيام الحكومات الإفريقية بصياغة التشريعات المناسبة بهدف زيادة المهارات الوطنية، وتعظيم وظائفها التوزيعية في مجال توفير السلع والخدمات العامة. عندئذ تظهر إفريقيا ككتلة اقتصادية ذات ارتباط وثيق بمسار التفاعلات التي تشكل بيئة عالمية متعددة الأقطاب. وعلى الرغم من أن الوضع العام لدول البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا) لا يزال موضع تساؤل؛ إلا أنها سوف تمثل بشكل فردي بعضًا من الاقتصادات الناشئة الأسرع نموًّا، والقادرة على تحقيق الانتعاش الاقتصادي مرة أخرى. وربما تنجح الإصلاحات المؤسسية للاتحاد الإفريقي في تبني نمط من الاستجابات القارية بهدف الاستفادة من الفرص الجديدة، ودفع الوحدة والتنمية عبر القارة. ومع ذلك، فإن إفريقيا لن تعمل في فراغ. يجب أن تكون دولها مستعدة وقادرة على التحول مع المد المتغير. يجب أن يرتكز هذا التحول على قيادة واعية وفعالة وبعيدة عن طرق التفكير التقليدية.
ختاماً يمكن القول أن استجابات معظم البلدان الإفريقية لهذا التهديد غير المسبوق للصحة العامة منظمة، وربما تم تنفيذها بشكل أفضل مما حدث في الدول الغربية. اعتمد القادة الأفارقة على العلماء وخبراء الصحة العامة في تشكيل خلايا لإدارة الأزمة، وتصرفوا في وقت مبكر وبتصميم كبير، على الرغم من أن معظم الحكومات الإفريقية تعمل بجزء بسيط فقط من الموارد المتاحة مقارنة بالبلدان الأكثر ثراءً. ربما يغير ذلك من الصور النمطية الشائعة عن إفريقيا، ويدفع بها إلى فك قيود التبعية وتبني مبادرات إقليمية وقارية جديدة تقوم على أسس التعاون الجماعي على الذات. ومع ذلك ينبغي على الأفارقة إعادة التفكير في أسباب التخلف من خلال وضع استراتيجية فعالة للتنمية البشرية، والتكامل الإقليمي، والرقمنة، والتصنيع، والتنويع الاقتصادي، والسياسات المالية والنقدية.