شهد العالم خلال العقدين الماضيين انتشار العديد من الفيروسات والأوبئة، والتي كان من أشهرها على الإطلاق فيروس سارس القاتل الذي ظهر عام 2002 وأودى بحياة المئات، ثم فيروس أنفلونزا الخنازير (H1N1) الذي ظهر لأول مرة في عام 2009 وانتشر في العديد من دول العالم، وأخيرًا فيروس الإيبولا شديد العدوى الذي ظهر في البداية عام 2013 في عدد من دول غرب إفريقيا. وعلى الرغم من ارتفاع درجة خطورة تلك الفيروسات؛ إلا أن فيروس (كوفيد-19) يُعد هو الأخطر نتيجة لاتساع درجة انتشاره عبر كافة أرجاء الكرة الأرضية وسرعة ذلك الانتشار، الأمر الذي جعل منظمة الصحة العالمية تُعلن في 11 مارس 2020، أن الفيروس يمكن تصنيفه على أنه جائحة، بما يشكل حالة طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية.
وحقيقة الأمر، فإن انتشار الفيروس بتلك الوتيرة التي جعلت منه وباءً حصد أرواح ما يقرب من 200 ألف شخص؛ إن دلّ على شيء فإنما يؤكد على نقاط الضعف التي تنطوي عليها أنظمة الإنذار المبكر بالأوبئة، والحاجة الملحة إلى نهج منظم وقائي يهدف إلى منع انتشار الأمراض والفيروسات المعدية، أو تحجيمها بمجرد الظهور الأولي، والتدخل الاستباقي من خلال دعم وتطوير البحوث في مجال الفيروسات والأوبئة. فالإنذار المبكر يلعب دورًا محوريًّا في التقييم السريع لحالات انتشار الأوبئة، وتقديم الاستجابة الفعالة للأحداث التي تشكل تهديدًا للصحة العامة، بما يُمكّن صانع القرار من اتخاذ تدابير الاستجابة في الوقت المناسب لمنع التطور إلى مرحلة الوباء، ومن ثمّ تقليل درجة الضرر قدر الإمكان. حيث من الملاحظ أن الدول التي تمكنت من الاستعداد الجيد لوباء الكورونا كانت هي الأكثر نجاحًا في مواجهته، ومنها نماذج كلٍّ من: سنغافورة، وألمانيا، وتايوان، وكوريا الجنوبية. وانطلاقا من تلك الأهمية التي أضحت تكتسبها أنظمة الإنذار المبكر للأوبئة؛ يتناول المقال الحالي أهم ملامح تلك الأنظمة والمبادرات ذات الصلة، وذلك على النحو التالي:
أهمية "نظم الإنذار المبكر":
تُعد أنظمةُ الإنذار المبكر الصحية بشكل عام هي أنظمة مراقبة تعتمد فعاليتها على تجميع المعلومات حول الأمراض والفيروسات المحتمل تطورها لوضع الوباء، وعرضها في التوقيت المناسب من أجل تحفيز التدخلات الصحية العاجلة من قبل أجهزة الصحة العامة، فهي أداة لدق جرس الإنذار. ولتحقيق ذلك الهدف، تستخدم أنظمة الإنذار المبكر العديد من الأساليب الإحصائية التي تُعد ضرورية للكشف عن التغيرات في اتجاهات انتشار الأمراض والأوبئة، أو الأحداث المحفزة، سواء كانت مناخية أو مرتبطة بموجات انتقال للأفراد، والتي تتطلب التدخل العاجل في معظم الحالات. كما يتم اللجوء إلى الوسائل الإحصائية لتحديد أولويات مراجعة البيانات بشكل منتظم، بما يسمح لأخصائيي الأوبئة بالتركيز على البيانات الأكثر أهمية. وكذلك دعم القرارات المستندة إلى الأدلة من قبل صانعي السياسات.
ومنذ فترة ليست بالبعيدة عملت منظمة الصحة العالمية على تعزيز أنظمة المراقبة الحالية للأمراض المعدية، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر داخل الدول على أساس المفاهيم والتقنيات الجديدة. ومن أبرز الأمثلة على تلك الأنظمة التي دعمتها منظمة الصحة العالمية حديثًا، هو إنشاء نظام إنذار مبكر للكشف عن الفاشيات والاستجابة لها ومكافحتها في المخيمات والمجتمعات المضيفة للنازحين في ولايات شمال وجنوب وغرب دارفور، وذلك في عام 2004، في ظل وصول 20٪ فقط من السكان إلى مرافق الرعاية الصحية الأولية. هذا بالإضافة إلى دعم مراكز الإنذار المبكر والسيطرة على الأمراض المعدية في العديد من الدول، مثل: العراق، وصربيا، والمغرب، ومقدونيا، والأردن، وغيرها.
وعلى الرغم من أهمية نظم الإنذار المبكر بالأمراض والأوبئة في تزويد مسؤولي الصحة العامة وعامة الناس بإشعار مسبق قدر الإمكان حول احتمالية تفشي المرض في مكان معين، وبالتالي توسيع نطاق خيارات الاستجابة الممكنة؛ إلا أن المعضلة الأساسية تتمثل في أن محاولة تشكيل الاستجابة من خلال التنبؤات لفترة زمنية طويلة، عادة ما يعني يقينًا تنبؤيًّا أقل، الأمر الذي يُضعف من درجة فعالية النظام ذاته.
من الترصد إلى الاستجابة:
تمر عملية الإنذار المبكر للأوبئة بعدة مراحل رئيسية تعكس دورة الرصد والاستجابة وتصحيح المسار والمرونة والارتداد للوضع الطبيعي بعد انحسار الجائحة، وتتمثل أبرز هذه المراحل فيما يلي:
1- الترصد الوبائي (Epidemiological surveillance): تعد تلك هي الخطوة الأولى والأكثر أهمية في أنظمة الإنذار المبكر بالأمراض والأوبئة، حيث توفر أنظمة المراقبة الوبائية المستمرة والمنهجية، التي تعتمد على جمع المعلومات والبيانات الموثوقة من الوحدات الصحية والمواقع الصحية المجهزة في مداخل الدول بالمطارات والموانئ والمناطق النائية والمعزولة من قبل العاملين الصحيين المدربين والمتمرسين حول أي أعراض لأمراض معدية، وتحليل تلك المعلومات في نسق مستمر، واستخدام إجراءات موحدة لضمان جودة تلك المعلومات واتساقها، ثم نشرها في الوقت المناسب في حال استشعار أي خطر، وهي عملية بالغة الأهمية لأنظمة الإنذار المبكر. ومع ذلك، في سياق نظام الإنذار المبكر، يجب أن تتضمن المراقبة أيضًا مراقبة التغيرات في وفرة أعداد ناقلات المرض، سواء من خلال انتقال الأفراد أو الظواهر المناخية أو شبكات نقل الأمراض من الحيوانات، وذلك لتوفير إشارة مبكرة على وجود المرض في منطقة معينة.
ولعل من الملاحظ هنا تعمُّد الصين إخفاء ومحاولة طمس أدلة الترصد الوبائي التي تقدم بها الطبيب "لي وين ليانغ"، واتهامه بنشر شائعات عبر الإنترنت، بعد أن نشر تحذيرات مبكرة في 30 ديسمبر 2019 من انتشار نسخة متطورة من فيروس كورونا، وهو فيروس كورونا المستجد . كما استغرق الأمر الصين أسبوعين للإعلان عن وجود الفيروس، واستمرار السلطات الصحية الصينية بعدها في اتباع سياسة الإخفاء في محاولة منها للسيطرة على الأوضاع، مدعية أنه "لم يكن هناك دليل واضح على انتقال العدوى من إنسان لآخر"، وأنه لا توجد أي عدوى بين الممارسين في مجال الرعاية الصحية، وأن تفشي المرض "يمكن الوقاية منه والسيطرة عليه". إلى أن توالت الأحداث التي كشفت عن خطورة الفيروس وسرعة انتشاره بين البشر، الأمر الذي تسبب في انتشار الفيروس في أجزاء كبيرة من الصين، وفي أجزاء أخرى من العالم.
ويُعد ذلك من أبرز الانتقادات التي وُجهت لمنظمة الصحة العالمية، في إطار حملة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اتهمت منظمة الصحة العالمية بسوء إدارة أزمة الوباء، نتيجة لتأخر المنظمة الدولية في التحذير من الفيروس خشية من إزعاج الصين.
2- الملاحظات البيئية: حيث تُعتبر المراقبة المناخية المنهجية مكوِّنًا مهمًّا لنظام الإنذار المبكر. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن لعوامل الطقس والظواهر المناخية -مثل: رطوبة التربة، والغطاء النباتي، ودرجة حرارة سطح البحر- دورًا مهمًا في أنظمة الإنذار المبكر للأمراض. وهنا يتم الاعتماد على تقنيات الاستشعار عن بعد لرصد الظواهر البيئية.
3- تقييم جوانب الضعف: يشير ذلك إلى تقييم درجة حساسية السكان للمخاطر الصحية نتيجة للفيروسات والأمراض المعدية، ومن ثم تصنيف الحالات الأكثر عرضة للمخاطر، وكذلك تقييم قدرة الأنظمة الصحية على التعامل مع خطر الأمراض المعدية والأوبئة. حيث يوفر ذلك التقييم سياقًا لتفسير بيانات المراقبة والترصد الوبائي، وفهم وتحليل العلاقة الترابطية بين مجموعة العوامل ذات التأثير على الوضع الصحي للسكان، مثل: التغذية، والمأوى، والأنشطة الاقتصادية المتبعة. وتشمل عوامل الخطر الشائعة في الدول النامية: نقص الوصول إلى المياه النظيفة، وسوء شبكات الصرف الصحي، ونقص لقاحات التحصين. وهو ما يؤثر بشكل أو بآخر على درجة التعرض للأمراض المعدية. كما يتأثر ضعف المجتمع أيضًا بعوامل ديموجرافية، مثل: البنية العمرية للسكان، والكثافة السكانية، والتهديدات الصحية الموجودة مسبقًا مثل فيروس نقص المناعة البشرية. وتعد تلك العوامل جميعها محورية في عملية تقييم جوانب الضعف، الأمر الذي يترتب عليه تقييم إمكانية تفشي المرض ووضع استراتيجيات مكافحته.
وقد قدمت كل من سنغافورة وتايوان نموذجًا يُحتذى به من حيث تقييم جوانب الضعف، والتعامل معها بشكل دقيق وسريع في مواجهة فيروس كورونا المستجد. فبعد خبرة سارس، قامت كل منهما بتحسين وضع البنية الصحية الخاصة بها، سواء من خلال بناء مستشفيات العزل وتحديث المنشآت والمعدات الطبية، أو إنشاء مركز القيادة من أجل الاستجابة لتفشي الأمراض في تايوان ودوره في الإنذار المبكر بالوباء. وبمجرد إعلان الصين عن الفيروس المستجد، وقبل إعلان منظمة الصحة العالمية عن أن الفيروس يمثل وباءً خطيرًا؛ كانتا قد أعلنتا حزمةً من الإجراءات الاستباقية، فيما يتعلق بإغلاق الحدود، وفرض إجراءات الحجر الصحي، وتطبيق الاختبارات على المواطنين. كما تم استخدام التكنولوجيا وتحليل البيانات الضخمة من أجل المراقبة الصحية المكثفة للحالات الأكثر احتمالًا للتعرض للإصابة من أولئك المرضى الذين يعانون من أعراض تنفسية حادة بالاستناد إلى قاعدة بيانات التأمين الصحي الوطنية، وتم إعادة خضوعهم لاختبار فيروس كورونا، ومحاولة توفير الرعاية الصحية المسبقة لهم.
أما ألمانيا فقد عمدت إلى إرساء نهج مختلف، حيث قامت بالتوسع في اختبارات لتصنيف الأشخاص الذين يحملون أجسامًا مناعية مضادة للفيروس. كما قامت مستشفى برلين بتطوير اختبار في يناير 2020، وذلك قبل بداية تفاقم الأزمة. حيث تُجري ألمانيا الآن ما يقرب من 350 ألف اختبار أسبوعيًّا .
4- تحليل المخاطر: يعتمد بناء سيناريوهات الاستجابة المناسبة للتعامل مع حالات تفشي الأمراض المعدية والأوبئة على تحليل المخاطر لتعيين احتمالات حدوث الأنماط المختلفة من تلك المخاطر وتأثيراتها، وقدرة المجتمعات على استيعاب هذه الآثار والتعافي منها. علمًا بأن مستويات تلك المخاطر وأنماطها تتغير من دولة لأخرى اعتمادًا على مجموعة من العوامل التي تشمل: مستوى التحضر، والتغيرات الاقتصادية، ومعدلات النمو السكاني، والهجرة، والتدهور البيئي، والصراع المسلح، وغيرها. ويعد توافر المعلومات الدقيقة والمحدثة عن كافة تلك العناصر من أهم عناصر نجاح تحليل المخاطر، وانعكاسه على بناء سيناريوهات الاستجابة.
5- التأهب/ الاستجابة: بالبناء على الخطوة السابقة تأتي سيناريوهات وإجراءات الاستجابة مستندة على أساس احتياجات المجتمع وأولوياته، حيث إن أي تعارض بين خطط الاستجابة وتلك الأولويات قد تعرض الخطة بأكملها للفشل، ففعاليتها تتوقف على درجة التقييم المجتمعي للخطر وتأثيره على الصحة العامة. ولعل الفجوة في التقريب بين خطة الاستجابة وذلك التقييم هو ما تسبب في ارتفاع وتيرة الحالات بشكل مبالغ فيه في إيطاليا، نتيجة عدم الاستجابة المجتمعية لخطة الحكومة والتفاعل السلبي معها في المراحل الأولية. الأمر الذي يستوجب أيضًا التقييم الدقيق لجميع التحديات المحتملة عند إعداد تلك الخطط، وحساب اعتبارات التكلفة والعائد بعناية، بحيث يمكن تكييف خطط الاستجابة لتُناسب أولويات واحتياجات وقدرات المجتمع المحلي على أفضل وجه حتى لا تواجه معارضة مجتمعية تؤدي إلى تقويض مصداقية نظام الإنذار المبكر ككل.
6- الاتصال الفعال بالمواطنين: تهدف تلك المرحلة إلى ضمان مراعاة الاتصال الفعال بجمهور المواطنين، بما يُعزز من توفير المعلومات التي تنطوي على إنذار مبكر للمواطنين بالمرض المعدي قبل وصوله إلى مرحلة الوباء والإجراءات المشكلة لاستراتيجيات الاستجابة الموصى بها، وبصفة خاصة لمجموعات السكان المعرضين للخطر. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يجب أن تحدد برامج الاتصال الصحية الفعالة شرائح الجمهور وترتيبها حسب الأولوية مع إيلاء أهمية خاصة بقضايا المصداقية والثقة؛ بحيث يتم توصيل رسائل علمية دقيقة من مصادر موثوقة؛ والعمل على الوصول إلى الجماهير من خلال القنوات المألوفة بالنسبة لهم. وأخيرًا، وفي محاولة لمنع رد الفعل المفرط أو الذعر من قبل عامة الناس، يجب أن تتضمن الإنذارات المبكرة بالمرض تفسيرات واضحة للمستوى الفعلي للمخاطر التي تنطوي عليها والمجموعات المعنية التي ترتفع احتمالات تعرضها للإصابة وسيناريوهات الاستجابة المتوقعة ارتباطًا بكل مرحلة من مراحل الخطر.
وقد كشفت أزمة وباء كورونا عن أهمية ذلك الاتصال الفعال، حيث ساهمت عشوائية بعض تلك الرسائل أو سلبيتها في تفاقم الأوضاع نتيجة لإثارة الذعر بين المواطنين، الأمر الذي أثار رد فعل عكسي من جانب المواطنين، وجعلهم يتسارعون إلى تخزين المواد الغذائية والطبية خوفًا من عدم قدرة الحكومات على السيطرة على الأوضاع. وعلى جانب آخر، قدمت العديد من الدول الأخرى نماذج ناجحة في إحداث ذلك التواصل الفعال، وهو الأمر الذي قدمته كل من كوريا الجنوبية واليابان ونيوزلندا. ففي كوريا الجنوبية على سبيل المثال، حرصت الحكومة منذ الإصابة الأولى على التواصل مع المواطنين من خلال الخطابات الرسمية، وإرسال الرسائل التحذيرية على الهواتف المحمولة، وإنشاء التطبيقات الإلكترونية التي توضح أماكن الحالات المصابة ومن خضعوا للحجر الذاتي.
وعلى الرغم من أهمية المراحل السابقة، واعتماد كل مرحلة منها على الأخرى، حيث تشكل سلسلة متكاملة من العمليات التي قد يؤدي الخطأ في بدايتها إلى نتائج كارثية، قد يصعب السيطرة عليها في المراحل السابقة. فقد أدى تجاهل التحذيرات الأولية من جانب الإدارة الأمريكية إلى الوضع الحالي الذي أضحت فيه الولايات المتحدة أعلى دول العالم من حيث معدلات الإصابة. فقد كشفت مصادر صحفية مؤخرًا، أن وحدة الاستخبارات الطبية الأمريكية، وهي وحدة استخباراتية تضم ما لا يقل عن 100 عالم من علماء الأوبئة والفيروسات والمهندسين الكيميائيين وعلماء السموم والأحياء والخبراء الطبيين العسكريين الذين يعملون بشكل مستمر على مراقبة وتتبع التهديدات الصحية العالمية التي يمكن أن تعرض القوات الأمريكية للخطر في الخارج أو الأمريكيين في الداخل؛ قد وجهت إنذارات عدة لتحذير الحكومة الأمريكية من خطر انتشار فيروس كورونا المستجد قبل إعلان منظمة الصحة العالمية بأسبوعين، بينما كان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يحثّ الأمريكيين على عدم الذعر بسبب الفيروس. وقد رفعت الوحدة بتاريخ 25 فبراير، تحذيرًا من أن الفيروس المستجد سيصبح جائحة عالمية في غضون 30 يومًا، وسيتسبب بحدوث أزمة كبيرة. وقد تمت مشاركة نتائج عمل المركز مع مسؤولي وزارتي الدفاع والصحة .
مبادرات عالمية:
تكشف الاستجابة الدولية لفيروس كورونا المستجد عن مواطن القوة والضعف في نظم الإنذار المبكر للأمراض المعدية والأوبئة، والتي تم التوسع فيها بشكل كبير في أعقاب مواجهة كل من فيروسي سارس وإيبولا. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها؛ إلا أن الأمر لم يكن كافيًا حيث تم توجيه العديد من الانتقادات لتلك النظم باعتبارها لم تقم بالدور المنوط بها في التعامل مع وباء الكورونا. ويمكن استعراض أهم تلك المبادرات وجهودها في مواجهة فيروس كورونا المستجد على النحو التالي:
1- الشبكة العالمية للإنذار بحدوث الفاشيات ومواجهتها (Global Outbreak Alert and Response Network): منذ أبريل 2000، تعكف الشبكة على وضع المعايير المتفق عليها بشأن الاستجابة الدولية للأوبئة، والبروتوكولات التشغيلية من أجل توحيد النُظم الوبائية والمختبرية ونظم التدبير العلاجي السريري والبحث والتواصل والدعم اللوجيستي والأمن والإجلاء والاتصالات. وتهدف تلك المبادئ التوجيهية إلى تحسين عملية تنسيق المساعدة الدولية المقدمة دعمًا للجهود المحلية التي يبذلها الشركاء في الشبكة، وضمان وصول المساعدة التقنية إلى الدول المتضررة على وجه السرعة، وكذلك المساهمة في التأهب للأوبئة وبناء القدرة على مواجهتها على المدى الطويل.
وتضم الشبكة اليوم أكثر من 250 مؤسسة تقنية، ومنظمة شريكة. وقد قامت الشبكة بجهود كبيرة في تقوية الأنظمة الصحية المحلية، ومد جسور التعاون العالمي، على مستوى المنظمات والحكومات؛ لمنع تفشي وباء الإيبولا .
أما فيما يخص مواجهة فيروس (كوفيد-19) فقد قامت الشبكة بإنشاء مركز للمعرفة (COVID-19 Knowledge Hub) بالفيروس المستجد، وذلك برعاية مشتركة من جانب وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والوطنية والمؤسسات الأكاديمية والبحثية والعلمية، حيث يعد بمثابة منصة عامة للوصول إلى أفضل الموارد المتاحة لدعم المشاركة في الاستجابة العالمية لهذا الوباء، يتم من خلالها بث معلومات متعددة التخصصات عن الفيروس المستجد لمجموعة متنوعة من الجماهير، من صانعي السياسات والمستجيبين والباحثين والمجتمعات المتأثرة والجمهور العام. كما قدمت الشبكة كذلك مجموعة من الضوابط التشغيلية لكيفية التعامل مع الفيروس.
2- المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها (ECDC): يقوم المركز برصد الأوبئة من خلال أنشطة الاستخبارات الوبائية، حيث يقدم تقييمات المخاطر لتوجيه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية لاتخاذ إجراءات الاستجابة المناسبة. ويُعد المركز على اتصال مستمر مع المفوضية الأوروبية، وسلطات الصحة العامة في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية لتقييم تفشي الأوبئة. حيث ينشر تقارير يومية لانتشار وباء الكورونا وتقييمات المخاطر لمواطني الاتحاد الأوروبي .
3- تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI): هو تحالف مقره أوسلو، تأسس في عام 2017، حيث جاء استجابة لتفشي فيروس الإيبولا الكارثي في غرب إفريقيا. ويركز التحالف على تطوير اللقاحات للعدوى الناشئة. ومنذ إنشائه اجتذب التحالف أكثر من 750 مليون دولار من التمويل من حكومات أستراليا وبلجيكا وكندا وإثيوبيا والنرويج وألمانيا واليابان وبريطانيا، وكذلك من مؤسسة بيل وميلندا جيتس. وقد نشأ التحالف لتمويل المجموعات الصناعية والأكاديمية المهتمة بتطوير لقاحات لمواجهة الفيروسات المعدية. وتمول CEPI الآن العديد من الجهات التي تطور لقاحًا للكورونا، ومنها ثلاث شركات في مجال التكنولوجيا الحيوية، هي: CureVac في ألمانيا (8.3) ملايين دولار، و(Inovio 9) ملايين دولار، وModerna وشركة (Novavax 4) ملايين دولار، بالإضافة إلى التجارب التي تُجرى في كل من جامعة أكسفورد في بريطانيا وكوينزلاند في أستراليا.
4- منصة التأهب الأوروبي لمكافحة الأوبئة الناشئة (PREPARE): مقرها بلجيكا، وهو برنامج شامل يضم سلسلة من منح المشاريع المقدمة من مبادرة الأدوية المبتكرة التابعة للاتحاد الأوروبي لإنشاء شبكة من 3000 مستشفى و900 مختبر تشخيصي من الخط الأول في 42 دولة أوروبية. وقد نجحت منصة PREPARE في العمل الاستباقي حيث زودت شبكتها ببروتوكولات لتشخيص مسببات الأمراض من خلال اختبار RT-PCR، ومنهجيات التجارب السريرية المسجلة لكل مركز تشخيصي. وقد وجهت جهودها لمكافحة فيروس كورونا المستجد من خلال التركيز على التهابات الجهاز التنفسي الحادة في وحدات العناية المركزة والرعاية الأولية.
5- الاتحاد الأوروبي: أتاح أرشيف الفيروسات الأوروبي (GLOBAL EVAg) الذي أتاح بالفعل أكثر من 1000 مجموعة تدعم تشخيص الفيروسات التاجية الجديدة في حوالي 79 دولة حول العالم، وعلى المستوى البحثي، تنسق المفوضية من خلال شبكة "التعاون البحثي العالمي من أجل الاستعداد للأمراض المعدية" (GloPID-R) مع منظمة الصحة العالمية وممولين آخرين لضمان تغطية الفجوات البحثية، حيث تم تنظيم منتدى عالمي للبحث والابتكار من قبل منظمة الصحة العالمية وGloPID-R في 11-12 فبراير، لتحديد أولويات البحث عبر 10 مجالات مختلفة ذات صلة بمكافحة فيروس كورونا المستجد.
7- مجموعة عمل التنبؤ الفيروسي: يضاف إلى هذا عدد لا يستهان به من المبادرات البحثية التي نشأت في مراحل سابقة أخرى والتي تعتمد على استخدام تقنيات المراقبة الرقمية المتقدمة المستندة إلى مصادر المعلومات غير الحكومية للتنبؤ بالأمراض المعدية الناشئة والمستحدثة، مثل مجموعة عمل التنبؤ الفيروسي العالمي (GVF)، وخريطة الصحة العالمية (HealthMap) التي تحاول البقاء خطوة متقدمة على احتمالات تحور الفيروسات وتفشي مسببات الأمراض. أيضًا، تقوم بعض المشروعات مثل (Bio.Diaspora)، وهو مشروع تابع لجامعة تورنتو بكندا، بالعمل على الدمج بين خريطة البيانات المتوفرة عن الأمراض المعدية مع بيانات عن أنماط السفر العالمية.
ختامًا، يمكن القول إن جائحة (كوفيد-19) قد لقنت العالم درسًا قاسيًا، الأمر الذي لا بد وأن ينعكس في توحيد الجهود نحو تأسيس نظام فعال للإنذار المبكر بالأمراض المعدية والأوبئة، وتفعيل ذلك النظام من خلال توفير التمويل المناسب له، وتعزيز عمليات مراقبة الصحة العامة وإدارتها، والحرص على تعزيز جهود البحث والتطوير بما يُعزز من القدرة على المتابعة المستمرة لتطور الفيروسات وتحورها. وهو ما يعد المحك الأساسي في تحقق الوصول إلى البيانات في الوقت الحقيقي، ونشر المعلومات السريرية وتحليلها لتتبع ديناميكيات الوباء، والكشف عن كيفية انتشاره، ودراسة إجراءات التدخل اللازمة لإبطاء انتشاره، وتطوير الاختبارات التشخيصية وخوارزميات العلاج، وتحديد تدابير الصحة العامة للسيطرة على انتشار الوباء. وبناءً عليه، يحتاج العالم في أعقاب تلك الجائحة إلى وقفة لإصلاح منظمة الصحة العالمية، والإقرار بأنه من مصلحة الجميع تعزيز قدرات المراقبة الصحية العالمية بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع جهود أكبر لتعزيز المساواة الصحية، وتحسين التدريب الأساسي على التعامل مع الأمراض المعدية والتخصص في علم الأوبئة.