عرض: د. إسراء إسماعيل - خبير في الشئون السياسية والأمنية
لطالما احتفى العالم بظاهرة العولمة على اعتبار أنها جعلت العالم بمثابة قرية صغيرة، ومكَّنت دول العالم المتقدم - ممثّلةً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية- من نشر مبادئ الديمقراطية، وقيم الحرية، والتضامن والتكامل، واحترام حقوق الإنسان. وكان المُتصوَّر أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه العولمة هو انبعاث الدعوات القومية الشعبوية، والنزعات الدينية المتطرفة، كرد فعل على مظاهر العولمة؛ لكن لم يتصور أحد أن يمثل ظهور فيروس في الصين، وانتشاره وتحوله إلى وباء عالمي، تحديًا بارزًا للعولمة. فالدول الغربية التي اتسمت دائمًا بدعم مظاهر العولمة والانفتاح على العالم، تحولت في مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا المستجد إلى الانغلاق والانعزال واتخاذ خطوات حمائية، في مقابل قيام الصين بأخذ زمام المبادرة والانفتاح لتقديم المساعدات اللازمة، باعتبارها نموذجًا ناجحًا في مواجهة أزمة تعجز الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن التعاطي معها، الأمر الذي يعكس تغيير البوصلة السياسية للعولمة والاتجاه شرقًا.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة "فورين أفيرز" في ١٦ مارس مقالًا أعده "هنري فاريل" و"أبراهام نيومان" بعنوان "هل سينهي فيروس كورونا العولمة كما نعرفها؟"، ناقش التداعيات الاقتصادية والسياسية لفيروس كورونا المستجد، ودوره في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية.
هشاشة النظام المعولم
يُمثِّل فيروس كورونا المستجد (Covid-19) اختبارًا هائلًا للعولمة. فمع انهيار سلاسل الإمداد، وقيام الدول بتخزين الإمدادات الطبية، وإقدامها على الحد من السفر؛ تفرض الأزمة إعادة تقييم للاقتصاد العالمي المترابط؛ حيث لم تتسبب العولمة بالانتشار السريع للأمراض المعدية فحسب، ولكنها عزَّزت الترابط العميق بين الشركات والدول، مما جعلها أكثر عرضة للصدمات غير المتوقعة، والآن تكتشف الشركات والدول -على السواء- مدى ضعفها.
لم يكشف فيروس كورونا عن فشل العولمة، وإنما عن هشاشتها، وذلك على الرغم من فوائدها، وتسبُّبها في زيادة أرباح كثير من الشركات بشكل غير مسبوق، لكن - في المقابل - تسببت أيضًا في ركود في الاقتصاد العالمي ككل، وفي الأوقات العادية غالبًا ما تنظر الشركات للركود باعتباره مقياسًا للقدرة الإنتاجية الراكدة أو المهدرة، وهو ما يجعل النظام الاقتصادي للدولة هشًّا في أوقات الأزمات، لأنه يعكس الافتقار إلى بدائل آمنة للتصنيع، وقد يقود ذلك إلى انهيار سلاسل التوريد، كما حدث في بعض القطاعات الطبية والصحية نتيجة لانتشار فيروس كورونا؛ حيث تسبب الفيروس في زيادة الطلب العالمي على الإمدادات الطبية الحيوية، مما أدى إلى تأليب الدول على بعضها بعضًا، وقيام بعض الدول باكتناز الموارد لنفسها، أو مساعدة بعض الدول بهدف توسيع نفوذها على المسرح العالمي، وكانت النتيجةُ تحولًا في ديناميكيات القوة بين اقتصادات العالم الرئيسية.
لقد خلقت العولمة سوقًا دوليةً مزدهرةً، مما أتاح للمصنعين بناء سلاسل توريد مرنة عن طريق استبدال مورد أو مكوِّن بآخر حسب الحاجة، وتحول مفهوم "ثروة الأمم" لـ"آدم سميث" إلى "ثروة العالم"؛ حيث استفادت الشركات من تقسيم العمل، وتسبب احترام مبدأ التخصص في ظل العولمة في زيادة الكفاءة، مما أدى بدوره إلى النمو الاقتصادي. لكن - في المقابل - تسببت العولمة أيضًا في خلق نظام معقد من الاعتماد المتبادل؛ إذ احتضنت الشركات سلاسل التوريد العالمية، مما أدى إلى ظهور سلسلة معقدة من شبكات الإنتاج التي ربطت الاقتصاد العالمي معًا، فأصبح يمكن تصنيع مكونات منتج واحد في عشرات الدول، وقد تسبب هذا التوجه العالمي نحو التخصص -في بعض الأحيان- في صعوبة إيجاد بدائل لبعض المكونات، خاصة بالنسبة للمنتجات غير العادية أو التي تحاج مهارات معينة.
وبينما أضحى الإنتاج عالميًّا، أصبحت الدول أيضًا أكثر اعتمادًا على بعضها، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تُسيطر على جميع السلع والمكونات التي يحتاجها اقتصادها، أي إنه قد تم دمج الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واسعة من المورّدين.
لقد كشف فيروس كورونا المستجد عن هشاشة هذا النظام المعولم. ففي حين يمكن لبعض القطاعات الاقتصادية، خاصة تلك التي ينتشر فيها الإنتاج عبر دول متعددة، أن تتحمل الأزمة بشكل جيد نسبيًّا؛ تواجه قطاعات أخرى خطر الانهيار في حالة تسبب الفيروس في توقُّف إنتاج أحد مكونات المنتج في دولة ما. على سبيل المثال، شعر مُصنّعو السيارات في جميع أنحاء أوروبا بالخطر بسبب نقص إنتاج الإلكترونيات الصغيرة، لأن شركة تصنيع واحدة هي MTA) Advanced Automotive Solutions)، اضطرت إلى تعليق الإنتاج في أحد مصانعها في إيطاليا.
في العصور الماضية قام المصنعون بالاحتفاظ بمخزون من الإمدادات لحماية شركاتهم في اللحظات الطارئة، ولكن في عصر العولمة لا تعتمد الشركات على فكرة تخزين المكونات ولكن على مبدأ توفير سلاسل التوريد في التوقيت المناسب just in time، ولكن في خضم تفشي فيروس كورونا يمكن أن يصبح التوقيت المناسب متأخرًا نتيجة لمشاكل في سلاسل التوريد، وبالفعل فقد انخفض الإنتاج العالمي لأجهزة الكمبيوتر المحمولة بنسبة تصل إلى 50%، في شهر فبراير الماضي، ويمكن أن ينخفض إنتاج الهواتف الذكية بنسبة 12% في الربع القادم، وذلك لأن كلا المُنْتَجَيْن يعتمدان على مكونات تنتجها شركات آسيوية متخصصة في دول تعاني من الفيروس.
نقص الإنتاج وتضارب المصالح
إن انخفاض الإنتاج - مثل نقص تصنيع الإلكترونيات - يعرقل أيضًا مكافحة فيروس كورونا المستجد. على سبيل المثال، تهيمن شركتان على إنتاج الكواشف الطبية، هما: شركة Qiagen الهولندية (تم شراؤها مؤخرًا من قبل شركة Thermo Fisher Scientific الأمريكية)، ومختبرات Roche ومقرها في سويسرا، ولم تتمكن كلٌّ منهما من مواكبة الزيادة غير العادية في الطلب على منتجاتهما. وحتى قبل بدء تفشي الفيروس قامت الحكومة الصينية بشراء كامل إمدادات الأقنعة الطبية في البلاد، كما استوردت كميات كبيرة من الأقنعة وأجهزة التنفس من الخارج لتوفير حاجتها، لكن تسبب ذلك في أزمة عرض أعاقت استجابة الدول الأخرى للفيروس.
وفي المقابل، حظرت روسيا وتركيا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس، وكذلك ألمانيا على الرغم من أنها عضو في الاتحاد الأوروبي الذي من المفترض أن يتمتع بسوق واحدة، وتجارة حرة غير مقيدة بين الدول الأعضاء، وقامت الحكومة الفرنسية بالاستيلاء على جميع الأقنعة المتاحة، وقد حذَّر مسئولو الاتحاد الأوروبي من أن مثل هذه الممارسات تقوِّض التضامن، وتمنع الاتحاد الأوروبي من اعتماد نهج مشترك لمكافحة الفيروس، ولكن تم تجاهل هذه التحذيرات.
إن المشكلة وخيمة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تأخرت في الاستجابة لأزمة كورونا، وتفتقر إلى العديد من الإمدادات التي ستحتاج إليها، وبالرغم من امتلاكها مخزونًا من الأقنعة، إلا أنه لم يُجدَّد منذ عام 2009، ومن ثمَّ لا يوجد بها سوى جزء صغير فقط من العدد الذي قد يكون مطلوبًا. وقد استخدم "بيتر نافارو" - المستشار التجاري للرئيس "دونالد ترامب" - هذا النقص كذريعة لتهديد الحلفاء، وتبرير لمزيد من الانسحاب من التجارة العالمية، بحجة أن واشنطن بحاجة إلى "إعادة قدراتها التصنيعية وسلاسل التوريد للأدوية الأساسية".
الجغرافيا السياسية الجديدة للعولمة
في حين استخدمت إدارة "ترامب" الوباء كذريعة للتراجع عن التكامل العالمي، تستخدم الصين الأزمة لإظهار استعدادها للقيادة. وبصفتها الدولة الأولى التي أصابها الفيروس، فقد عانت بكين بشدة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ولكن حاليًّا بدأت تتعافى بينما ينتشر الفيروس في باقي دول العالم. وبينما يُشكّل ذلك مشكلة للمُصنِّعين الصينيين الذين بدأ العديد منهم العمل والإنتاج مرة أخرى لأنهم يواجهون طلبًا ضعيفًا من الدول التي تمر بالأزمة؛ إلا أن قدرة بكين على التعافي ومواجهة الأزمة يمنحها فرصة هائلة على المدى القصير للتأثير على سلوك الدول الأخرى؛ فقد تعلمت كيفية محاربة الفيروس، ولديها مخزون من المعدات الطبية، وبالتالي تمتلك أصولًا قيّمة، وقد نشرتها بكين بمهارة.
في أوائل مارس، دعت إيطاليا دول الاتحاد الأوروبي إلى مساعدتها في توفير معدات طبية، ولم تستجب أي دولة للطلب الأوروبي، لكن الصين فعلت ذلك، وعرضت بيع أجهزة التهوية والأقنعة الطبية والملابس الواقية والقطن، وذلك في إطار سعي بكين إلى تصوير نفسها على أنها رائدة الكفاح العالمي ضد فيروس كورونا، من أجل تعزيز نفوذها. ويُعد ذلك أمرًا محرجًا بالنسبة لإدارة "ترامب"، التي اتسمت ببطء الاستجابة للفيروس، واختزلت خطوات مواجهته في حظر السفر من أوروبا. وبعيدًا عن كونها تُعتبر مزوّدًا عالميًّا للسلع العامة؛ فإن الولايات المتحدة لديها القليل من الموارد التي يمكن أن تقدمها للدول الأخرى، بل إنها قد تجد نفسها قريبًا تتلقى الدعم من مؤسسة خيرية صينية.
وبينما يحاول صانعو السياسات في جميع أنحاء العالم التعامل مع أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد وعواقبه، فسيتعين عليهم مواجهة حقيقة أن الاقتصاد العالمي لم يعد يعمل وفق النهج السابق، فلطالما دعت العولمة إلى التخصص المتزايد للعمالة عبر الدول، وهو نموذج يخلق كفاءات استثنائية، ولكن اتضح أيضًا أنها تسببت في إيجاد نقاط ضعف غير عادية، كشفت عنها الصدمات العالمية، مثل انتشار الفيروس؛ حيث خلقت العولمة مناطق في العالم متخصصة في منتج واحد، مما تسبب في هشاشة نظامها الاقتصادي في لحظات الأزمات، وهو ما تجلَّى في انهيار سلاسل التوريد، وفي الأشهر المقبلة سيظهر المزيد من نقاط الضعف.
وختامًا، أكد المقال أن النتيجة قد تكون تحولًا في السياسة العالمية، فنظرًا لتعرُّض صحة وسلامة المواطنين للخطر، فقد تُقرّر بعض الدول حظر الصادرات أو الاستيلاء على الإمدادات الحيوية، حتى لو كان ذلك يضر بمصالح حلفائها وجيرانها، ومثل هذا التراجع عن آليات وقيم العولمة سيجعل تقديم المساعدات أداة نفوذ أكثر قوة للدول التي تستطيع تحملها مثل الصين، وبالتالي يتضح أن فيروس كورونا يعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للعولمة، والولايات المتحدة لا تُظهر تكيُّفًا مع هذا التحول.
المصدر:
Henry Farrell and Abraham Newman, “Will the Coronavirus End Globalization as We Know It?”, Foreign Affairs, March 16, 2020.