تصاعد التوتر في العلاقات التركية- الأوروبية بفعل سياسات أنقرة في شرق المتوسط، وتجاوز حقوق قبرص واليونان في البحث عن مكامن الطاقة. وقد ظهر ذلك في تأسيس الاتحاد الأوروبي بعثة أوروبية لمراقبة حظر السلاح على ليبيا.وتُشير مواقف الاتحاد الأوروبي المناهِضة للسلوك التركي في شرق المتوسط وليبيا وسوريا إلى تباعد المسافة بين الطرفين، وهو الأمر الذي يقلّص فرص أنقرة في أن تصبح عضوًا بالاتحاد، برغم مساعٍ قامت بها لتهدئة التوتر مع دول الاتحاد. واحتدمت الخلافات بين الطرفين الشحن عقب تصريح أنقرة بأنها لن توقف المهاجرين واللاجئين السوريين الذين يحاولون حالياً التوجه إلى أوروبا، بسبب عدم قدرة تركيا على تحمل تدفق طوفان اللاجئين الجدد القادمين من سوريا.
احتدام القضايا الخلافية:
تصاعد الوضع بشكل كبير على طول الحدود اليونانية -التركية، مع استمرار الاشتباكات بين اللاجئين وقوات الأمن اليونانية. وهو الأمر الذي دفع المفوض الأوروبي للهجرة "مرجريتيس سخيناس"، في 2 مارس الجاري، لتحذير أنقرة من أن الاتحاد لن يخضع للابتزاز أو الترهيب. فيما ندد المستشار النمساوي "سيباستيان كورتز"، في 3 مارس الجاري بهذه الضغوط التركية وأضاف أن التكتل أمام "امتحان" بشأن إن كان بمقدوره حماية حدوده الخارجية. كما عقد وزراء داخلية الاتحاد، في 4 مارس، اجتماعًا استثنائيًّا لبحث هذه التهديدات الجديدة.
على جانب آخر، فإن تركيا برغم إبداء حرصها على اللحاق بأوروبا إلا أنها أصبحت أكثر بعدًا عن القيم الرئيسية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث ذهبت في اتخاذ إجراءات استثنائية، وهو ما جعل الحديث عن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة، خاصة مع طلب البرلمان الأوروبي في نوفمبر 2019 تجميد المفاوضات احتجاجًا على بعض الممارسات المتنافية مع الديمقراطية، كما شهد مشروع موازنة الاتحاد الأوروبي لعام 2020 خفض مخصصات دعم تركيا كدولة مرشحة للانضمام إلى عضوية الاتحاد، بنحو 85 مليون يورو، بسبب تراجع تركيا في مجال سيادة القانون وحرية الإعلام. وبرغم سعي أنقرة إلى تجديد مفاوضات العضوية، والبناء على مواقف إيجابية لبعض القوى الأوروبية تبدي مرونة بشأن لحاق تركيا بعضوية الاتحاد؛ إلا أن ثمة ملفات شائكة باتت تمثل تحديات ضاغطة على وضعية العلاقات التركية الأوروبية، ويمكن بيانها على النحو الآتي:
1- توظيف ورقة اللاجئين: تصاعد قلق دول الاتحاد الأوروبي من استراتيجية الرئيس التركي "أردوغان" القائمة على السعي لتوظيف ورقة اللاجئين للضغط على دول الاتحاد. وقد أثار التهديدات التركية بفتح الحدود مع أوروبا أمام المهاجرين غضبَ العواصم الأوروبية التي أعادت التذكير باعتماد تركيا على الدعم الأوروبي اقتصاديًّا وماليًّا. كما ندد الاتحاد بمحاولات تركيا المستمرة استخدام اللاجئين كأداة، وذلك على خلفية النزاع الحالي في سوريا، والوضع المحتدم على الحدود الخارجية بالاتحاد الأوروبي.
2-التدخل التركي المباشر: تعتمد تركيا على بعض الأدوات غير المشروعة حيال عددٍ من القضايا الإقليمية التي تهم أوروبا، منها: تعقيد حل الأزمة القبرصية، وممارسة التنقيب عن مكامن الطاقة في المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص. كما وجه الاتحاد انتقادات متعددة لأنقرة بفعل انخراطها السلبي في الأزمة الليبية، في ظل استمرار أنقرة في إرسال المرتزقة والسلاح إلى حكومة الوفاق في الغرب الليبي.
على جانب آخر، تُعارض دول الاتحاد السلوك التركي في شمال سوريا، وظهر ذلك في رفض عملية "نبع السلام" التي أطلقتها تركيا في أكتوبر الماضي ضد قوات سوريا الديمقراطية. كما تُمثّل القضية الكردية إحدى أهم القضايا الخلافية بين أنقرة والاتحاد، وزادت حدتها بعد استضافة البرلمان الأوروبي في فبراير 2020 "المؤتمر الكردي"، بنسخته الـ16، تحت عنوان "الاتحاد الأوروبي، تركيا، الشرق الأوسط، والأكراد". ووصفت أنقرة البرلمان الأوروبي بأنه تحول إلى "منبر للترويج لمنظمة حزب العمال الكردستاني من خلال استضافته قيادات المنظمة المدرجين على النشرة الحمراء للمطلوبين في تركيا".
هنا، يُمكن فهم معارضة الاتحاد الأوروبي استراتيجية الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" القائمة على التدخل المباشر في فضاء المتوسط، وفرض حالة من التمدد العسكري في مناطق نفوذ الاتحاد الأوروبي، وهو ما كشف عنه زيادة الدعم الفرنسي لقبرص واليونان في خلافاتهما مع أنقرة في شرق المتوسط.
2- الجمعيات التركية في أوروبا: ثمة فجوة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي بفعل اتهامٍ أوروبي لتركيا بارتباطات مع الكيانات الإرهابية، وهو ما كشفته السلطات القضائية الإيطالية في سبتمبر 2019 بعد توقيف خلية إرهابية تقوم بتمرير أموال عبر تركيا لدعم أنشطة مرتبطة بـ"جبهة النصرة" (الفرع السوري سابقًا لتنظيم "القاعدة" في سوريا، قبل تغيير اسمها إلى "هيئة تحرير الشام").
كما تُبدي دول الاتحاد قلقًا من اتجاه من قيام أنقرة بدعم العديد من الأئمة الأتراك الذين يتبنون خطاب متشدد، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي "ماكرون" على سبيل المثال في فبراير 2020 إلى الإعلان عن أنه سيفرض قيودًا على إيفاد دول أجنبية -ومنها تركيا -أئمة ومعلمين إلى فرنسا، كما قررت دول أوروبية في العام الماضي الاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في مساجدها منعًا لترويج نسخة الإسلام السياسي المتشددة في أوروبا، وتراجعت الصورة الذهنية للاتحاد الإسلامي التركي "ديتيب"، بعد تبني أعضائه خطاباً مسيساً، وهو الأمر الذي دفع دولًا مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا إلى التضييق على أنشطة الاتحاد ومشاريعه.
3-انتقادات أوضاع الديمقراطية: يرفض الاتحاد تحول تركيا إلى النظام الرئاسي بموجب التعديلات الدستورية التي شهدتها البلاد في أبريل 2017، إذ ترى دول الاتحاد أن اعتماد "أردوغان" النظام الرئاسي أدى إلى إحداث هزة في أسس النظام السياسي التركي، أفضت بدورها إلى تقويض التوازنات بين مكوناته ومؤسساته.
وتعارض دول الاتحاد التضييق على الحريات في الداخل التركي، وظهر ذلك في انتقاد الاتحاد للسلطات التركية على خلفية توقيف الناشط الحقوقي ورجل الأعمال التركي "عثمان كافالا" الذي أعادت السلطات اعتقاله قبل أيام برغم تبرئته من تهمة العمل على قلب نظام الحكم في عام 2013، وفي هذا الإطار صرح وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس" في فبراير 2020 إن إعادة اعتقال "كافالا" "غير مفهومة من كل وجهة نظر"، وطالب بالكشف عن أي اتهامات جديدة سريعًا.
4- انضمام تركيا للاتحاد: يتمسك قطاع واسع من دول الاتحاد بشروط مشددة عضوية تركيا؛ إذ يعتبرون أن تركيا ما زالت بحاجة إلى سلسلة أخرى من القوانين التطبيقية، خاصة فيما يتعلق بإقرار حقوق قانونية ودستورية للقوميات والأقليات غير التركية التي تعيش داخل أراضيها، ناهيك عن توجه تركيا نحو تقييد الحريات العامة.
5- العامل الديموغرافي: يمثل العامل الديموغرافي عقبة كأداء أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها ما يقرب من 8.80 مليون نسمة. ولعل معدل النمو السكاني في تركيا سوف يزيد من وزنها داخل المؤسسات الأوروبية، وهو ما قد يُمثّل خصمًا من وزن وتمثيل من دول ألمانيا، ناهيك عن أن كتلتها السكانية قد تمنحها العدد الأكبر من الممثلين في البرلمان الأوروبي، وهو ما يثير مخاوف من تحول القضايا التركية ذات الطابع الإسلامي إلى قضايا أوروبية، وتفوقها على نقاشات اجتماعية أخرى تهم أوروبا وبعيدة عن الدين في آن معًا.
خيارات أوروبية:
يسعى الاتحاد الأوروبي لإيجاد صيغة ناجعة للتعامل مع أزمة اللاجئين على حدوده بعد أن ألغت تركيا رقابتها على الحدود، إضافة إلى وقف التمدد التركي في مناطق نفوذه، وتتمثل أبرز خيارات الاتحاد في التعامل مع الملفات العالقة مع تركيا فيما يلي:
1- تعزيز المساعدات الإنسانية: في ظل رفض قطاعات معتبرة من دول الاتحاد منح تركيا مساعدات مالية إضافية بعد تحايلها على الاتفاق المبرم في مارس 2016 لوقف تدفق اللاجئين؛ قد يتجه الاتحاد إلى تعزيز مساعداته الإنسانية لمنطقة إدلب في شمال غرب سوريا، وهي من آخر المناطق التي تسيطر عليها معارضة مدعومة من تركيا تقاتل ضد الجيش السوري المدعوم من موسكو.
2- دعم دول التّماسّ مع تركيا: اتجه عدد من دول الاتحاد إلى تقديم دعم غير مسبوق لليونان وبلغاريا في إطار تقديم المساعدة على مراقبة الحدود مع تركيا، إضافة إلى إشراك وكالة الحدود الأوروبية (فرونتكس) في المساعدة على ضبط الحدود. كما تتجه بعض الدول الأوروبية اليوم إلى تشديد إجراءات دخول الأجانب دولها، ومنها فرض إجراءات فحص الهوية على حدودها.
على صعيد متصل، فرض الاتحاد الأوروبي في يوليو 2019 عقوبات على أنقرة على خلفية إصرارها على التنقيب عن مكامن الطاقة في المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص في شرق المتوسط، وقبالة سواحل اليونان في بحر إيجه. كما قدمت فرنسا دعمًا كبيرًا لقبرص واليونان في هذا الإطار، وظهر ذلك في زيارة وزير الدفاع الفرنسي لليونان في 24 فبراير 2020، وتأكيدها أن بلادها ستقف مع اليونان وقبرص وتدعمهما في نزاعهما مع تركيا على مناطق في البحر المتوسط، وستعمل على تعزيز التعاون الثنائي في مجال الدفاع مع اليونان.
كما وقع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في نوفمبر على الإطار القانوني الذي يسمح بفرض عقوبات على تركيا على خلفية أنشطة التنقيب عن الغاز التي تقوم بها قبالة سواحل قبرص. ويهدف القرار لمعاقبة أنقرة على انتهاك المنطقة الاقتصادية البحرية القبرصية بالحفر قبالة الجزيرة المقسمة.
3- حشد الضغط السياسي: يعتقد الاتحاد الأوروبي أن قرار تركيا فتح الطريق إلى أوروبا أمام اللاجئين والمهاجرين ردًّا على قصف إدلب، هو في جوهره محاولة لاستدراج الاتحاد الأوروبي، وضمان دعم تركيا. هنا، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ضمان تسوية سياسية للأزمة في إدلب، لكنه -في المقابل- يرفض السلوك التركي للضغط على دول الاتحاد لكسب تأييدها في مواجهة الفاعلين الآخرين. فبينما اعتبرت المستشارة "أنجيلا ميركل" الخطوة التركية "غير مقبولة".
على الجانب التركي، فإن أنقرة باتت تعي أن فرص استعادة علاقاتها الاستراتيجية مع أوروبا في المرحلة الحالية لن تعود كما كانت، لذلك تبحث عن بدائل أخرى من بينها تعزيز التعاون مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وكشف عن ذلك تصريحات السفير البريطاني في أنقرة "دومينيك شيلكوت" في سبتمبر 2019، حيث قال إن "فرص التعاون بين البلدين ستتعزز مع خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي". كما أبرم صندوق التقاعد العسكري التركي "أوياك" صفقة للاستحواذ على شركة "بريتيش ستيل" البريطانية للصلب، وهي ثاني أكبر مصنع للصلب في بريطانيا. بريطانيا تمثل -إذن- لتركيا بديلًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا في أوروبا. كما تمثل أوكرانيا أيضًا بديلًا أوروبيًّا لتركيا تحاول التمدد فيه، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين أوكرانيا وموسكو من جهة، وحرص كييف على توثيق العلاقة مع أنقرة من جهة ثانية.
مسارات محتملة:
رغم رؤية أوروبية تعتقد بأهمية التعاون مع تركيا لمواجهة الارتدادات السلبية للأزمات الإقليمية، وبخاصة موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية؛ إلا أن ثمة تداعيات محتملة على مسار العلاقة بين الطرفين بفعل محاولات أنقرة المستمر ابتزاز الاتحاد بورقة اللاجئين، ويمكن بيانها على النحو الآتي:
1- استمرار التصادم: يدفع فتح الحدود التركية أمام اللاجئين للعبور إلى أوروبا؛ إلى تنامي فرص الصدام بين الاتحاد وأنقرة التي تحاول الضغط على أعصاب الاتحاد بورقة اللاجئين. في المقابل، يعارض الاتحاد التدخل التركي في شرق الفرات، ويقدم دعمًا لقوات سوريا الديمقراطية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذي تصنفه تركيا تنظيمًا إرهابيًّا. على صعيد متصل، وصل التوتر بين أنقرة والاتحاد إلى الذروة على خلفية التنقيب التركي شرق المتوسط عن مكامن الطاقة، والطعن على الاتفاقيات الموقّعة بين قبرص ودول حوض شرق المتوسط.
2- إمكانية الاحتواء: قد تسعى تركيا إلى احتواء التوتر مع دول الاتحاد، وهو ما ظهر في إعفاء السلطات التركية نهاية فبراير الماضي مواطني خمس دول أوروبية من تأشيرة الدخول، هي: النمسا، وبلجيكا، وهولندا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة. كما تحرص تركيا على تهدئة التوتر مع الاتحاد لاستيعاب الضغوط القوية التي فرضها توتر علاقتها مع محيطها الإقليمي والدولي، وفي الصدارة منها واشنطن. بالإضافة إلى أن تركيا تعي وتدرك أن العلاقة مع روسيا من باب الضرورة، فروسيا لا يمكن الاعتماد عليها في مواجهة ضغوط واشنطن. كما تتسع الهوة بين أنقرة ومحيطها الإقليمي بفعل إصرار تركيا على التدخل في شؤونها الداخلية، والسعي إلى أدلجة المنطقة.
3- سياسة العصا والجزرة: برغم مخاوف الاتحاد من تفاقم أزمة اللاجئين، وتخلي أنقرة عن التزامات اتفاق 2016 لضبط أزمة اللجوء؛ إلا أن الاتحاد قد يستمر في تبنِّي سياسة العصا والجزرة حيال تركيا، لا سيما وأن الدول الأوروبية تدرك أن مواصلة المفاوضات خيار لا يمكن استبعاده مع أنقرة برغم الملفات الشائكة، وتصاعد القضايا الخلافية بين الطرفين. فثمة رؤية أوروبية تعتقد بأهمية التعاون مع تركيا لمواجهة الارتدادات السلبية للأزمات الإقليمية، وبخاصة موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية التي تؤرق أعصاب أوروبا وتزيدها انغماسًا في همها الداخلي. وتعي أوروبا أهمية تركيا في حراسة حدودها الغربية للحيلولة دون عبور اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي.
في سياق متصل، فإن تزايد حالات فرار عناصر "داعش" من مناطق الاحتجاز في شمال شرق سوريا بعد عملية "نبع السلام"، إضافة إلى انتقال بعض المرتزقة المتشددين الموالين لتركيا من ليبيا إلى أوروبا؛ أدى إلى زيادة مخاوف دول الاتحاد من احتمال وقوع هجمات إرهابية داخل الأراضي الأوروبية، وهو ما يفرض ضرورة مواصلة التنسيق مع تركيا التي تمثل أحد الممرات لعبورهم إلى أوروبا.
ختامًا، يمكن القول إن محاولات تركيا توظيفَ ورقة اللاجئين سيفرض مزيدًا من التعقيد على المسارات المحتملة التي قد تتجه إليها مسألة انضمام تركيا للعضوية الأوروبية. لكن في المقابل، وبرغم تصاعد الملفات الشائكة بين الطرفين، وتوفر بيئة خصبة للصدام في المرحلة الحالية؛ إلا أن كلًّا منهما قد يُبدي حرصًا لاحتواء مخاطر التوتر.