يومًا بعد يوم، تأخذ أزمة فيروس كورونا وتداعياتها ملامح الأزمة العالمية، ليس فقط لانتشار المرض جغرافيًّا إلى كل قارات العالم، ولكن أيضًا لأن الإجراءات التي تتخذها الحكومات لمحاولة احتواء هذه الأزمة أصبحت تمسّ الحياة اليومية للبشر على نطاق واسع. كما أن تداعياتها الاقتصادية، بحسب مؤسسات دولية، سوف تُلقي بظلالها على كفاءة الاقتصاد العالمي ككل.
وبينما استدعت التداعيات الاقتصادية المقارنة بين أزمة فيروس كورونا والأزمة المالية العالمية لعام 2009؛ فإن تلك المقارنة مفيدة أيضًا في توضيح سمات أساسية لما يمكن أن نسميه "أزمات عصر العولمة"، وفي استكشاف التغيرات التي شهدها النظام العالمي منذ أزمة 2009، التي تُلقي بظلالها على معالجة الأزمة الحالية.
الحاجة لمقاربات جديدة
تُظهر المقارنة بين الأزمتين إحدى أهم سمات الأزمات في عصر العولمة، وهي أن صناع القرار عليهم تطوير مقاربات لمعالجة هذه الأزمات في ظل درجات عالية من عدم اليقين. ففي الأزمة المالية العالمية لعام 2009، لم تكن هناك معلومات وافية عن حجم الديون الرديئة التي مثّلت شرارة اندلاع الأزمة، ولا عن مدى انكشاف البنوك لها، ولا عن تداعيات عجز الوفاء بها على النظام المصرفي ككل. فقد كان هناك غياب للشفافية في تعاملات الجهاز المصرفي ذاته، فضلًا عن تشابك غير مسبوق بين مختلف "وحدات" هذا النظام، من بنوك وشركات مالية.. إلخ، من خلال الشبكة الإلكترونية. وهو الأمر الذي خلق مناخًا كان من المتوقّع فيه أن يكون لانهيار أحد البنوك تأثير مباشر وسريع، لكنه لا يتيح في الوقت ذاته التنبؤ بشكل أو شدة هذا التأثير.
وتبدو حالة عدم اليقين المحيطة بأزمة فيروس كورونا أكثر شدة، وتداعياتها أكثر خطورة، نظرًا إلى اتصالها مباشرة بصحة وسلامة أعداد كبيرة من البشر، ما يفرض على صناع القرار اتخاذ تدابير لمواجهة فيروس لم تتوفر بعد معلومات أساسية عن طريقة انتشاره، وقدرته على التحور، والمدى الزمني المتوقع لانتشاره. كما لم يكن معروفًا في الأسابيع الأولى فترة حضانة الفيروس، أي المدة التي تمر منذ أن يصاب الإنسان بالفيروس وحتى ظهور الأعراض عليه. وكل هذه المعلومات ضرورية من أجل تحديد آليات منع انتشاره.
من جانب آخر، لم تكن الفحوصات المعملية اللازمة لاكتشاف الإصابة بالفيروس متاحةً على نطاق واسع في وقت مبكر من اندلاع الأزمة، ما أعاق القدرة على تحديد درجة انتشاره، ومنع المصابين به من التحرك ونشره على نطاق أوسع.
وحتى الآن، لا تزال المعلومات عن أفضل سبل العلاج، والتي تطورت بشكل أساسي على الخطوط الأولى لمواجهة الفيروس، وفي ظل ظروف شديدة الصعوبة، لا تنتشر بالسرعة الكافية إلى المجتمع الطبي على نطاق دولي، حتى تتمكن الدول المختلفة من إعداد التجهيزات الصحية اللازمة لمعالجة مرضاها.
أهمية البُعد المجتمعي
تُظهر المقارنة بين أزمة فيروس كورونا والأزمة المالية العالمية لعام 2009 ملمحًا جديدًا للأزمات العالمية، وهو تصاعد أهمية البعد المجتمعي وتأثيره على إدارة الأزمات، ولا سيما من خلال منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية. ففي عام 2009، تعامل صناع القرار مع أزمة الجهاز المصرفي من وراء الأبواب المغلقة، ولم يتم مشاركة التفاصيل أثناء الأزمة بشكل واسع، فلم يكن "المجتمع" طرفًا مؤثرًا في تحديد الأولويات أو اتخاذ القرارات. وقد جاءت القرارات منحازة لإنقاذ البنوك على حساب الأفراد المديونين لها، ثم لجأت الحكومات إلى تطبيق سياسات تقشفية لمعالجة العجز المالي الكبير الذي فاقمه إخراج البنوك من أزمتها. ولم تظهر ردود الأفعال الشعبية لهذه الإجراءات إلا بعد فترة، حيث عبّرت المجتمعات عن انهيار ثقتها بالمؤسسات والنخب الحاكمة، من خلال تراجع الدعم للتيار السياسي السائد، والصعود الكبير للتيارات والأحزاب السياسية اليسارية واليمينية الأكثر تطرفًا في دول متعددة، وصعود زعامات مثل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، والمرشح الديمقراطي الأوفر حظًّا للفوز ببطاقة الحزب في الانتخابات الرئاسية المقرر لها في نوفمبر المقبل "بيرني ساندرز".
أما في أزمة فيروس كورونا، فقد كان "المجتمع" طرفًا أساسيًّا في الأزمة منذ اندلاعها، وذلك نتيجة للانتشار الواسع للمعلومات على الشبكة الإلكترونية. فلم تكن الحكومة الصينية أول مصدر للمعلومات عن الأزمة، بل بدأ تسرب المعلومات من خلال ما نشره بعض الأطباء في مدينة ووهان (مصدر الفيروس) على المنصات الإلكترونية. ورغم أن السلطات حاولت السيطرة على الخطاب المتعلق بالأزمة، وقمع وتهديد من نشروا معلومات عن انتشار الفيروس؛ فإن التسريبات توالت، ووصلت المعلومات أيضًا إلى المجتمع الدولي خارج الصين. ووجدت الحكومة الصينية نفسها تحت ضغط داخلي وخارجي للإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالأزمة.
ورغم جهود الحكومة الصينية للتحكم في الخطاب المتعلق بالأزمة، ورسم "صورة" إيجابية عن إدارتها لها؛ فإن التسريبات عن التطورات والأوضاع داخل مناطق انتشار الوباء، والسلبيات التي شابت بعض الإجراءات التي أخذتها السلطات لم تتوقف، وأدى انتشارها إلى حالة من الغضب الشعبي من الصعب التنبؤ بمداه وتداعياته على النظام السياسي.
قلق شديد
تضافرت حالة عدم اليقين، إضافةً إلى شيوع عدم الثقة في تعامل الحكومات مع الأزمة؛ في خلق حالة من القلق الشديد، أو حتى الفزع، على مستوى الرأي العام عالميًّا. وقد ساهم في انتشارها كم كبير من المعلومات المغلوطة، والأخبار الزائفة، ونظريات المؤامرة، والتوجهات العنصرية التي تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي.
وعبّرت المجتمعات عن فزعها من خلال التكالب على شراء بعض السلع الأساسية، والأغذية المعلبة، خوفًا من نقص الإمدادات، أو اضطرارهم للبقاء في المنازل لفترة طويلة. وأدى التكالب على الكمامات الطبية، رغم تواتر تصريحات الأطباء بأنها ضرورية فقط للمتعاملين مباشرة مع المرضى، إلى ارتفاع أسعارها واختفائها من الأسواق. بل لقد عمد موقع أمازون إلى إزالة الشركات التي استغلت الأزمة لرفع أسعار الكمامات والمطهرات بشكل كبير.
ولم تكن الانخفاضات الكبيرة التي شهدتها البورصات العالمية في أواخر شهر فبراير وأوائل شهر مارس إلا تعبيرًا عن انتقال حالة القلق من الرأي العام إلى المستثمرين، وعدم ثقتهم في التدابير التي ستأخذها الحكومات لتقليل تداعيات هذه الأزمة على المستوى الاقتصادي.
تدابير غير مسبوقة
تمايزت أزمة فيروس "كورونا" عن غيرها من الأزمات بلجوء الحكومات لتدابير غير مسبوقة للحد من انتشار الفيروس، والتي شملت إغلاق المدارس والجامعات لمدد متفاوتة، ووضع مناطق بأكملها -كما في ووهان الصينية، وفي شمال إيطاليا- تحت الحجر الصحي، ومنع الدخول إليها أو الخروج منها.
كما منعت العديد من الدول دخول المسافرين من المناطق أو الدول التي ينتشر فيها الفيروس، ولجأت أخرى لوضع مواطنيها العائدين من الدول التي بها إصابات بالفيروس في الحجر الصحي. وألغت بعض الدول أيضًا المؤتمرات والفعاليات الدولية والمحلية التي تؤدي إلى تجمع أعداد كبيرة في مكان واحد. وتردد الحديث عن احتمال تأجيل أولمبياد طوكيو المقرر إجراؤه في صيف هذا العام إلى موعد لاحق من العام ذاته. بينما منعت إيطاليا حضور الجمهور مباريات كرة القدم، مع انعقادها في موعدها.
وقد كان تأثير تلك التدابير غير مسبوق، حيث أربك مداها سير الحياة على المستويين الفردي والمجتمعي. فقد تأثر بقرارات إغلاق المدارس ما يقرب من 300 مليون طالب حول العالم، وواجه آباؤهم معضلة من يتولى عنايتهم أثناء وجودهم في العمل. وقرر منتجو فيلم جيمس بوند الأخير تأجيل تاريخ عرضه في دور السينما من مارس إلى نوفمبر القادم، تفاديًا للخسائر التي ستترتب على تدنّي الإقبال على دور السينما في ضوء منع التجمع، والخوف من انتشار الفيروس. ولجأت عديد من الشركات العالمية الكبرى، مثل شركة تويتر، لتشجيع موظفيها على العمل من المنزل كلما أمكن.
وفي ظل تراجع الطلب على رحلات الطيران، شجعت عديد من شركات الطيران العالمية طواقمها على أخذ إجازة بدون راتب. كما بدت معالم سياحية بارزة، مثل مدينة فينيسيا الإيطالية، مهجورة وتكاد تخلو من الزوار.
تداعيات اقتصادية
من المتوقع أن يكون للتدابير السابق الإشارة إليها تداعيات اقتصادية سلبية على مستوى الأسر والشركات. فالآباء سيتحملون تكلفة العناية بالأبناء في المنزل إما بتعيين شخص لأداء تلك المهمة، أو اضطرار أحدهما لأخذ إجازة بدون مرتب. وفئة العمالة غير المعيّنة، وهو نمط أصبح منتشرًا في الاقتصاد العالمي، سواء في قطاع النقل، مثل خدمة أوبر، أو في القطاع السياحي، بكل ما يرتبط به من خدمات، وفي غيرهما من قطاعات؛ سوف تتأثر سلبًا طوال مدة استمرار الأزمة.
وعلى مستوى الشركات، فإن الخسائر المتوقعة قد لا يمكن تعويضها. فالشركات الصينية الصغيرة التي تعجز عن الوفاء بالتزاماتها بسبب حظر التنقل والتجمع في مناطق معينة من الدولة قد تضطر إلى إشهار إفلاسها. وسيتأثر قطاع الطيران بشكل كبير، وعلى حسب امتداد مدة الأزمة، قد تلجأ الشركات إلى تسريح العمالة، أو إلى إلغاء ما طلبته من طائرات جديدة. وتلك التي تعاني أصلًا من وضع غير مستقر قد تلجأ لإشهار إفلاسها، وهو ما حدث بالفعل لشركة بريطانية صغيرة نسبيًّا تعمل على خطوط جوية بين المملكة المتحدة وأوروبا. ويقدر الخبراء أن الخسائر التي قد تلحق بهذا القطاع وحده جراء هذه الأزمة يمكن أن تصل إلى أكثر من 100 بليون دولار.
ويبدو أن سرعة تأثر الاقتصاد قد أصبح من سمات أزمات عصر العولمة، حيث كان لكلٍّ من أزمتي 2009 و2020 تأثير سلبي على معدلات النمو. فبينما أدت أزمة 2009 إلى تباطؤ النمو في اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة بشكل خاص، فقد لعبت الاقتصادات الصاعدة -مثل الصين والهند- دور "قاطرة النمو"، وساهمت في احتواء تداعيات هذا التباطؤ. لكن من المتوقّع أن تؤدي أزمة فيروس كورونا -بحسب المؤسسات الدولية- إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي ككل، خاصة وأن الاقتصادات "الصاعدة" في الصين والهند تشهد حاليًّا، ولأسباب مختلفة، تراجعًا في معدلات النمو، وذلك من قبل اندلاع الأزمة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تراجعًا واضحًا خلال السنوات القليلة الماضية في معدلات التبادل التجاري وحجم التجارة الدولية، يُسهم فيها مناخ من العداء المتصاعد بين القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، وهو ما اقترن بتراجع الطلب على المواد الأولية، وتراجع أسعار البترول.
وفي هذا الإطار، تبدو الحكومات أقل قدرة على استيعاب التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة، وأدواتها أقل تأثيرًا. فقد حاول البنك المركزي الأمريكي طمأنة الأسواق عن طريق خفض سعر الفائدة، لكن تأثير ذلك الإجراء كان مشكوكًا فيه، حيث تطبق البنوك المركزية في الدول الكبرى سياسات التيسير الكمي منذ أزمة 2009، وذلك لتحفيز النمو، ما جعل القروض متاحة بتكلفة قليلة، وبالتالي فإن خفضها مرة أخرى من غير المتوقع أن يكون له تأثير ملموس في تحفيز الاقتصاد، بحسب العديد من المحللين.
وعلى عكس التعاون الدولي في عام 2009، حيث اجتمعت الاقتصادات الكبرى مع الاقتصادات الصاعدة في إطار مجموعة العشرين لأخذ التدابير اللازمة لمواجهة الأزمة؛ يشهد العالم اليوم تراجعًا ملحوظًا في التعاون الدولي متعدد الأطراف. ولا يمكن إغفال تأثير تراجع التيار الوسطي المتبني للعولمة وللتعاون متعدد الأطراف على الساحة الدولية، وصعود التيارات القومية والانعزالية؛ في تشكيل المناخ المتوتر والاستقطابي الذي يهيمن على التفاعلات العالمية حاليًّا، ويعيق التعاون في الأزمة الحالية.
ولكن مع تزايد أعداد المصابين بالفيروس حول العالم، والتي تجاوزت حسب تصريحات منظمة الصحة العالمية، مائة ألف في 6 مارس 2020، ومع اتساع رقعة انتشار الفيروس؛ فإن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحًا لأن تنسق الدول الجهود فيما بينها لمواجهة تكلفة هذه الأزمة على المستوى الأهم والأكثر تكلفة، وهو المستوى الإنساني.