لا يزال مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني "قاسم سليماني" في غارة جوية أمريكية على مطار بغداد الدولي، يستحوذ على اهتمام مختلف دول العالم. ولم تكن دول أمريكا اللاتينية استثناءً من ذلك، وإن تباينت مواقف الدول الرئيسية في المنطقة من مقتل "سليماني".وفي ظل تأكيد إيران نيتَها الانتقام والثأر لمقتل "سليماني"، تبرز أهمية منطقة أمريكا اللاتينية ليس لقربها الجغرافي من الولايات المتحدة فقط، ولكن أيضًا للوجود القوي لـ"حزب الله" في بعض دولها، والذي تزايد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. الأمر الذي يُثير تساؤلات حول احتمالات أن تكون المصالح الأمريكية بالمنطقة عرضة للاستهداف من قبل إيران و"حزب الله"، وفرص استمرار وجود الحزب في أمريكا اللاتينية عقب مقتل "سليماني"، إضافة إلى التداعيات المحتملة على العلاقات الإيرانية بدول المنطقة.
مواقف متباينة:
اتّخذت دول أمريكا اللاتينية الرئيسية مواقف متباينة من مقتل "سليماني"؛ ما بين مؤيدة للخطوة الأمريكية، ومعارضة لها، وثالثة تتخذ موقفًا معتدلًا يُطالب بالتهدئة، وذلك على النحو التالي:
1- الدول المؤيِّدة: كانت البرازيل الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي أيدت قيام الولايات المتحدة بقتل "سليماني"، وأعربت الحكومة البرازيلية عن دعمها لمحاربة آفة الإرهاب، ودعت إلى وحدة جميع الدول ضد الإرهاب بجميع أشكاله. ومن وجهة نظر الحكومة البرازيلية، لا يمكن اعتبار الإرهاب مشكلة تقتصر على الشرق الأوسط والبلدان المتقدمة، بل إنه يؤثر حتى على أمريكا الجنوبية، الأمر الذي يجعل من الصعب على البرازيل أن تظل غير مبالية بهذا التهديد. ويأتي موقف البرازيل متوافقًا إلى حدٍّ كبير مع العلاقات القوية التي تربطها بالولايات المتحدة في عهد رئيسها اليميني "جايير بولسونارو"، من جهة أولى، والعلاقات البرازيلية المتوترة مع إيران من جهة ثانية. وبسبب المخاوف المتنامية من تداعيات مقتل "سليماني" والمواجهة بين إيران والولايات المتحدة على الاقتصاد البرازيلي، خاصة ما يتعلق بارتفاع أسعار الوقود من ناحية ثالثة.
2- الدول المعارِضة: أدانت فنزويلا وكوبا بشدة عملية قتل "سليماني"، ووصفت الدولتان الخطوة الأمريكية بأنها بمثابة "انتهاك لقواعد القانون الدولي". وأكّد الحزب الاشتراكي الحاكم في فنزويلا تضامنه مع الشعب والحكومة الإيرانية، وشدد على أن مقتل "سليماني" "يُشكل تهديدًا للاستقرار والسلام الدولي". وطالب الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" مواطني بلاده بإدانة مقتل "سليماني". وفي الوقت نفسه، أدانت حكومة كوبا بشدة استخدام الصواريخ في القتل الانتقائي للقائد العسكري الإيراني وعدد من القادة الآخرين، وحذرت وزارة الخارجية الكوبية من أن "هذا العمل يُمثل تصعيدًا خطيرًا في منطقة الشرق الأوسط، حيث يمكن أن ينشب الصراع مع عواقب لا حصر لها على السلام والأمن في العالم".
ويمكن تفسير الموقف الفنزويلي والكوبي بارتباط البلدين القوي بإيران، والوجود المؤثر لـ"حزب الله" في فنزويلا على وجه الخصوص. إضافة إلى مُنَاصَبَةِ الدول الثلاث العداء للولايات المتحدة بسبب ما تعتبره سياسات أمريكية تنتهك سيادتها الوطنية واستقلالها القومي. وتشاطر كل من فنزويلا وكوبا، إيرانَ، الرؤية المناهِضة للمحاولات الأمريكية فرض هيمنتها الأحادية على العالم.
3- الدول ذات المواقف المعتدلة: يمكن إدراج كلٍّ من الأرجنتين والمكسيك ضمن فئة الدول التي اتخذت موقفًا وسطًا من مسألة مقتل "سليماني". وربما يعود ذلك إلى حرص الأرجنتين على عدم الصدام المباشر مع واشنطن في ظل رغبتها في إعادة التفاوض على ديونها الخارجية، والذي يجب أن يبدأ بالضرورة مع صندوق النقد الدولي، الذي تتمتع الحكومة الأمريكية بنفوذ كبير داخله. وبالنظر إلى أن الأرجنتين تُعد موطنًا لأكبر مجتمع يهودي في أمريكا اللاتينية، وكانت ضحية لهجمات إرهابية إيرانية في الماضي، فقد حرصت على الدعوة إلى الحوار بين إيران والولايات المتحدة، وحثت أطراف النزاع على اتخاذ الترتيبات اللازمة لاحتواء التوتر، والعمل من أجل الحل السلمي والتفاوضي لتجنب التصعيد الذي يعرض الأمن الدولي للخطر.
وفي الوقت ذاته، فإن المكسيك تحاول أن تنأى بنفسها عن الأحداث المتوترة في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها لا ترغب في زيادة التوتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة، خاصة مع وجود العديد من الملفات والقضايا الشائكة بين البلدين، منها: المهاجرون غير الشرعيين، وعصابات الجريمة المنظمة، والتجارة الحرة.
وكان ذلك واضحًا في رفض الرئيس المكسيكي "لوبيز أوبرادور" التعليق على مقتل "سليماني"، مؤكدًا عدم رغبته في التدخل في هذا الموضوع، وأنه يريد علاقة احترام وسياسة خارجية إيجابية مع جميع البلدان. واستشهد الرئيس المكسيكي بالمادة 89 من الدستور السياسي للتعبير عن أنه في مسائل السياسة الخارجية يجب على المكسيك الالتزام بمبادئ عدم التدخل، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والحل السلمي للمنازعات. كما دعت وزارة الخارجية المكسيكية إلى التهدئة، وطالبت جميع الأطراف المعنيّة بالحوار، وضبط النفس وتجنب التصعيد.
التداعيات المحتملة:
من المرجّح أن يكون لمقتل "سليماني" تداعيات مختلفة على أمريكا اللاتينية، منها ما يتعلق بإمكانية أن تكون هدفًا للتهديدات الإيرانية، ومدى قدرة "حزب الله" على الاستمرار في المنطقة، إضافة إلى التداعيات على مستقبل علاقات دولها بإيران، وذلك كما يتضح فيما يلي:
1- احتمالات أن تكون أمريكا اللاتينية هدفًا لإيران: ركّزت العديد من التحليلات على أن النطاق الجغرافي الذي ستُركز إيران عليه في ردها على مقتل "سليماني" سوف يكون هو "منطقة الشرق الأوسط". ومثلما هو واضح فإن "العراق" هو الساحة المباشرة للمواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. ومع ذلك، فإن طهران ستحاول إظهار أن لديها نفوذًا على نطاق عالمي، وستبحث عن أهداف بعيدة وغير متوقعة، في بلدان ثالثة في العالم، ومنها أمريكا اللاتينية. وتكتسب منطقة أمريكا اللاتينية ميزة نسبية كبيرة مقارنة بغيرها من مناطق العالم، وذلك لقربها جغرافيًّا من الولايات المتحدة، مما يجعل إمكانية استهداف إيران للولايات المتحدة نفسها أو لمصالحها داخل المنطقة مسألة أكثر سهولة.
والأمر لا يقتصر على ميزة القرب الجغرافي من الولايات المتحدة، بل إن وجود حكومات حليفة لإيران داخل أمريكا اللاتينية -وفي مقدمتها فنزويلا وكوبا- يُعطي أهمية إضافية لتلك المنطقة بالنسبة لإيران، لتنفيذ عملياتها ضد الولايات المتحدة أو مصالحها داخل دول المنطقة. ولم يكن تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، في 17 مارس 1992، والذي أسفر عن مقتل 29 شخصًا وإصابة 242 آخرين، الأول في سلسلة عمليات إرهابية نفذها "حزب الله" في أمريكا اللاتينية، بل تبعها تفجير "جمعية الصداقة اليهودية – الأرجنتينية" في بوينس آيرس في 18 يوليو 1994، والذي أسفر عن مقتل 85 شخصًا، وجرح أكثر من 300 آخرين.
هذا بالإضافة إلى كشف مسؤولين أمريكيين النقاب عن محاولة عملاء إيرانيين تجنيد أعضاء في عصابة الاتجار بالمخدرات المكسيكية "زيتاس" للقيام باغتيال السفير السعودي في واشنطن في أكتوبر 2011. كما كشفت بعض دول أمريكا اللاتينية النقاب عن قيام عملاء تابعين لـ"حزب الله" بالتخطيط والتنفيذ لبعض العمليات الإرهابية فيها.
لذا فإنه من المحتمل أن تكون أمريكا اللاتينية أكثر أهمية لحزب الله في الأيام المقبلة لأنها منطقة استثمر فيها الكثير من الموارد، ونجح في تعزيز حضوره هناك على المستوى الشعبي، كما نجح في الوصول إلى بعض المستويات الحكومية العليا. ويظل احتمال أن تصبح أمريكا اللاتينية هدفًا لتنفيذ أعمال عدائية ضد الولايات المتحدة، مرهونًا بمدى جدية إيران ورغبتها الحقيقية في الرد على قتل واشنطن لسليماني من جهة، وحجم التسهيلات التي يمكن أن تقدمها بعض حكومات دول المنطقة لإيران لتحقيق هذا الهدف من جهة أخرى.
2- الوجود الإيراني في أمريكا اللاتينية: كشف تقرير صادر عن شبكة الأخبار الأرجنتينية Infobae، في أبريل من العام الماضي، عن أن "قاسم سليماني" قد أشرف على كافة القرارات العسكرية التي اتخذتها إيران في أمريكا اللاتينية، بما في ذلك الأخبار التي تم تداولها العام الماضي، حول عرض وزير الخارجية الإيراني "محمد جواد ظريف" إرسال أعضاء من الحرس الثوري الإيراني إلى فنزويلا لحماية الرئيس الاشتراكي "نيكولاس مادورو". ووفقًا للتقرير فإن "سليماني" قاد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وهو المسؤول -إلى جانب "حزب الله"- عن تفجير "جمعية الصداقة اليهودية – الأرجنتينية" في بوينس آيرس.
ووفقًا لتصريحات بعض المسؤولين العسكريين الأمريكيين عام 2015، فإن فيلق القدس بقيادة "سليماني" كان يسيطر، إلى جانب حزب الله، على أكثر من 80 "مركزًا ثقافيًّا" في أمريكا اللاتينية، والتي يتم استخدامها لتجنيد أعضاء جدد من بين مواطني أمريكا اللاتينية الذين ينحدرون من أصول عربية، إضافة إلى دور تلك المراكز كمصادر للمعلومات ولتمويل عمليات "حزب الله".
ومع مقتل "سليماني" انتقلت كافة القرارات العسكرية الرئيسية الخاصة بأمريكا اللاتينية إلى العميد "إسماعيل قآني"، الذي تولى قيادة فيلق القدس خلفًا لـ"سليماني"، والذي بمقدوره الاستفادة من العلاقات الرسمية القوية التي تجمع إيران بفنزويلا وكوبا ونيكاراجوا، إلى جانب العلاقات والروابط غير المشروعة بين "حزب الله" وجماعات الجريمة المنظمة في تلك الدول. فضلًا عن قدرة "قآني" على الاستفادة من خلايا "حزب الله" النشطة في فنزويلا. على جانب آخر، هناك احتمال أن تكون لوفاة "قاسم سليماني" انعكاسات مهمة على وجود "حزب الله" في منطقة أمريكا اللاتينية، وربما ستجد إيران، في الوقت الراهن على الأقل، صعوبة في تحريك عملائها المنتشرين فيما لا يقل عن 16 دولة في المنطقة للانتقام من الولايات المتحدة و/ أو حلفائها هناك.
لذا، فإنه من الصعب حسم ما إذا كان دور "حزب الله" في القارة اللاتينية عقب مقتل "سليماني" سيظل مقتصرًا على توفير التمويل اللازم للأنشطة الإرهابية لحزب الله حول العالم، أم سوف يتطور هذا الدور إلى القيام بأعمال انتقامية ضد الولايات المتحدة.
3- مستقبل العلاقات الإيرانية- اللاتينية: من المتوقع أن تشهد العلاقات الإيرانية اللاتينية مزيدًا من التوتر خلال الفترة المقبلة، وهو الأمر الواضح في توجهات الحكومات اليمينية في أمريكا اللاتينية؛ إذ لم يمر سوى عدة أيام على مقتل "سليماني" حتى أعلنت هندوراس في الثامن من يناير 2020، أنها ستنضم إلى جواتيمالا ودول أمريكا الجنوبية الأخرى (الأرجنتين وباراجواي) التي قامت بحظر جماعة "حزب الله" وصنفتها منظمة إرهابية خلال العام الماضي.
وفيما يتعلق بالحكومات اليسارية في القارة اللاتينية، وتحديدًا الأرجنتين والمكسيك، فمن غير المرجح أَنْ سيكون بمقدورها اتخاذ موقف وسط من الصراع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران، خاصة في حال قام "حزب الله" بتنفيذ هجمات إرهابية على المصالح الأمريكية أو أي من حلفائها في أمريكا اللاتينية.
وفي ظل الإعلانات المتتالية من قبل بعض دول أمريكا اللاتينية تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية، فسيكون من الصعب على الأرجنتين، على الأقل في الفترة الحالية، أن تعدل عن القرار الذي اتخذته في يوليو 2019 بتصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية. ومن المرجّح ألا يخضع الرئيس الجديد "ألبرتو فيرنانديز" للضغوط الداخلية التي تطالبه بإجراء تغييرات على تصنيف بلاده "حزب الله" كمنظمة إرهابية، وذلك من خلال حظر الأجنحة العسكرية للحزب فقط.