تزايدت التحذيرات الدولية من عودة ما يمكن تسميته بـ"الإرهاب الفردي" الذي تقوم به "الذئاب المنفردة" الموالية لتنظيم "داعش"، في إطار سعيها إلى توجيه ضربات انتقامية رداً على مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي، خاصة وأنها تعد إحدى الآليات القليلة التي قد تكون متاحة بالنسبة له في الوقت الحالي للاستمرار في شن هجمات إرهابية يحاول من خلالها إثبات قدرته على "التعايش" مع المعطيات الجديدة التي فرضها مقتل البغدادي. وقد انعكست هذه التحذيرات فيما أشارت إليه الدراسة التي صدرت عن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، في 14 نوفمبر الجاري، الذي اعتبر فيها أن هذا النمط من الإرهاب تضاعف أكثر من مرة منذ بداية الاهتمام بدراسته ورصده في عام 1972.
توقيت لافت:
تزامن صدور هذه الدراسة مع تصريحات أدلى بها مسئولون أمنيون في أكثر من دولة، حذروا فيها من أن التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم "داعش"، سوف تعتمد بشكل أكبر عن هذه النوعية من العمليات، التي فرضت تهديدات لا تبدو هينة في الفترة الماضية، خاصة في ظل العقبات التي تقف أمام جهود رصدها أو التنبؤ بها، والتي تؤثر على السياسات والإجراءات المتبعة للتعامل معها. وتتزايد خطورة تلك العمليات في ضوء حرص العناصر التي تنتمي لتلك الفئة على عدم الاتصال بشكل مباشر بالتنظيم الرئيسي، حيث لا يوجد، في الغالب، أى رابط تنظيمي بين الطرفين.
وقد أشار منسق شئون مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية ناثان سيلز إلى هذه العلاقة الخفية، في أول نوفمبر الحالي، عندما قال أن الولايات المتحدة الأمريكية تبذل كل ما في وسعها للتصدي للذئاب المنفردة التابعة لـ"داعش"، وهى إشارة لها مغزاها وتوحي بأن واشنطن ترجح أن يتجه التنظيم إلى الاعتماد بشكل أكبر على هذا النمط لتعويض قسم من خسائره البشرية والاقتصادية التي فقدها في الفترة الماضية بسبب الهزائم والضربات التي تعرض لها من جانب القوى المناوئة له والمنخرطة في الحرب ضده.
واللافت أيضاً في هذا السياق، أن تطورات عديدة أضفت وجاهة خاصة على هذه التحذيرات، يأتي في مقدمتها إصدار "داعش"، وفقاً لتقارير عديدة في 14 نوفمبر الجاري، ما يسمى بـ"دليل قتل قادة العالم"، والذي حاول من خلاله توجيه رسائل إلى العناصر الموالية له بالتنكر في صورة صحفيين من أجل تسهيل دخولهم إلى أماكن يتواجد بها قادة عالميون أو مسئولون رفيعوا المستوى من أجل استهدافهم.
دوافع عديدة:
يمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة ربما تدفع "داعش" إلى توسيع نطاق اعتماده على "الإرهاب الفردي" خلال المرحلة القادمة، يتمثل أبرزها في:
1- توافر العنصر البشري: رغم تراجع قدرة التنظيم على استقطاب وتجنيد المزيد من العناصر الإرهابية، خاصة بعد الهزائم التي تعرض لها، إلا أن ذلك لا ينفي أنه ما زالت لديه القدرة على الوصول إلى ما أطلقت عليه اتجاهات عديدة "المتعاطفين معه" أو "المؤيدين له"، بشكل قد يدفعه إلى توجيه إشارات لتلك العناصر بتنفيذ عمليات فردية، خاصة في الدول والمناطق التي ليس له فيها مجموعات أو فروع خارجية، مثل القارة الأوروبية، مستغلاً في هذا السياق حالة "السيولة الفكرية" التي قد تسهل من عملية نشر أفكار التنظيم مجدداً.
2- السعى إلى الرد: تلقى "داعش" مؤخراً ضربة قوية، تمثلت في نجاح القوات الأمريكية، في نهاية أكتوبر الفائت، في قتل زعيمه أبوبكر البغدادي في محافظة إدلب السورية، والذي كان يمتلك، وفقاً لاتجاهات عديدة، خصائص شخصية مكنته من توسيع نطاق نفوذه وتحييد العناصر المنافسة له، على نحو يعني أن مقتله أنتج فراغاً داخل التنظيم لم يستطع التعامل معه، حتى بعد مسارعته إلى تسمية قائد جديد هو أبوإبراهيم القرشي، بما يعني أن مقتله فرض تداعيات قوية على التنظيم، بشكل قد يدفع قيادات داخله إلى العمل على توسيع نطاق الاعتماد على الهجمات الفردية في إطار محاولات الرد على تلك الضربات المتتالية.
3- القدرة على التخفي: يفرض "الإرهاب الفردي" تحدياً كبيراً أمام الأجهزة الأمنية، باعتبار أنه يمثل نمطاً غير تقليدي من الإرهاب يصعب التنبؤ به ومن ثم إحباطه قبل وقوعه، حيث تتراجع فرص توجيه ضربات إجهاضية لعرقلته، إذ أن بعض العناصر التي تقوم بتلك العمليات ليست معروفة على نطاق واسع لدى تلك الأجهزة، فضلاً عن أنها تنفذ تلك العمليات بشكل مباغت على نحو يؤدي، في بعض الأحيان، إلى وقوع عدد كبير من الضحايا. وقد حذرت الاستخبارات البريطانية، في 28 إبريل الماضي، من أن "داعش" يستعد لتنفيذ عمليات إرهابية جديدة بالاعتماد على بعض خلاياه النائمة في القارة الأوروبية، حيث تم الكشف عن ما يسمى بـ"خلايا التماسيح" التي يمكن أن تقوم بتنفيذ تلك العمليات.
وتعتمد هذه النوعية من العمليات على استهداف المدنيين بشكل خاص، وهو ما بدا جلياً في عمليات الدهس التي شهدتها بعض المدن والعواصم الأوروبية خلال الفترة الماضية، حيث يكون الهدف الأساسي منها هو الإيقاع بأكبر عدد من القتلى والمصابين.
4- تقليص الضغوط: يري بعض قادة التنظيم أن نجاح بعض العناصر في تنفيذ هذه العمليات يمكن أن يساهم في تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها عناصر "داعش" ومجموعات المختلفة، باعتبار أن ذلك ربما يؤدي إلى تشتيت جهود القوى المناوئة للتنظيم والتي تسعى إلى توجيه مزيد من الضربات له بعد قتل زعيمه، وقد يدفع بعضها إلى التراجع عن المشاركة في العمليات التي تشنها ضد التنظيم لتحاشي قيام الأخير بتوجيه ضربات انتقامية ضدها.
أخيراً، وعلى ضوء ما سبق، لا يبدو اتجاه التنظيم إلى التوسع في تبني نمط "الإرهاب الفردي" احتمالاً مستبعداً، خاصة أن المعطيات التي تفرضها التطورات الأخيرة على الأرض لا تتيح له هامشاً واسعاً من المناورة وحرية الحركة للتعامل معها.