شهدت الولايات المتحدة تزايدًا في معدلات جرائم القتل الجماعي، الذي وصلت ذروته خلال شهر أغسطس الماضي، حيث وقع في مدينة إل باسو بولاية تكساس هجومًا ثم لم يمضِ على الحادث سوى بضع ساعات حتى شهدت مدينة دايتون بولاية أوهايو هجومًا آخر، ومنذ بداية العام، يثور نقاش حول المحفِّزات التي دفعت إلى تصاعد هذه الجرائم، حتى إنَّ بعض وسائل الإعلام الأمريكية طرحت تساؤلًا مهمًّا عقب حادِثَيْ إطلاق النار بتكساس وأوهايو ألا وهو: لماذا تشهد الولايات المتحدة حوادث قتل عشوائي يوميًّا وهي الدولة الأغنى في العالم؟
مؤشرات متصاعدة:
يتبيَّن لمتابع حوادث القتل الجماعي التي شهدتها الولايات المتحدة منذ مطلع العام الجاري أنَّه كان عامًا دمويًّا بالنظر إلى الإحصائيات المتداولة حول أعداد تلك الحوادث، ومتوسط وقوعها يوميًّا، فضلًا عن ضحاياها من القتلى والمصابين. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أنَّ حادِثَيْ إطلاق نار بشكل عشوائي أوقعا قرابة 20 شخصًا بمدينة إل باسو في تكساس، ونحو 10 أشخاص بمدينة دايتون في ولاية أوهايو، لم يفصل بينهما أكثر من 24 ساعة، وذلك مطلع أغسطس 2019، ليعقبهما مباشرةً حادثان مماثلان لإطلاق النار في مدينة شيكاغو أسفر عن مقتل حوالي 3 أشخاص وإصابة 37 شخصًا. الأمر الذي جعل أغسطس الشهر الأكثر دموية وعنفًا في عام 2019؛ إذ أسفرت حوادث القتل الجماعي عن وقوع قرابة 53 قتيلًا خلال هذا الشهر وحده.
وبالنظر إلى الإحصائيات الصادرة عن منظمة Gun Violence Archive (GVA) في سبتمبر 2019، وهي منظمة غير حكومية معنية برصد حوادث إطلاق النار التي تشهدها المدن والولايات الأمريكية على مدار العام؛ نجد أنَّ الولايات المتحدة قد شهدت حوادث قتل جماعي تتراوح ما بين 283 إلى 292 حادث إطلاق نار منذ بداية العام، بمتوسط بلغ حادثة أو أكثر يوميًّا. وقد أفضت هذه الحوادث عن وقوع حوالي 1300 قتيل.
ومما تجدر الإشارة إليه -في هذا السياق- أنَّ تعريف مفهوم القتل الجماعي -وفقًا لمنظمة (GVA)- يشير إلى حادث إطلاق النار الذي يُسفر عن مقتل 4 أشخاص أو أكثر، بخلاف المنفِّذ للحادث، في نفس التوقيت والمكان.
وبمقارنة الإحصائيات الواردة حول حوادث القتل الجماعي هذا العام بالعاميْن السابقيْن يمكن القول إنَّ هذا العام قد حقَّق معدلات مرتفعة في حوادث القتل الجماعي تكاد تقترب من المعدلات التي شهدتها الولايات المتحدة خلال عامي 2017 و2018 والتي بلغت نحو 346 و340 حادثًا على الترتيب، بيْدَ أنَّ عام 2016 لا يزال هو الأكثر دموية خلال العقد الماضي، حتى اللحظة الراهنة، إذ شهد ما يقارب 382 حادث إطلاق نار عشوائي.
محفزات متعددة:
جاء وقوع حادِثَيْ إطلاق النار بولايتي تكساس وأوهايو خلال الشهر الماضي، واللذين لم يفصلهما سوى بضع ساعات، ليسلّط الضوء على ظاهرة القتل الجماعي في الولايات المتحدة ومعدلاتها المتفاقمة خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يُثير جملة من التساؤلات حول العوامل المحفِّزة لتلك الظاهرة، خصوصًا أنَّ الإسلاموفوبيا لم تعد هي المفسر الوحيد لمعدلات القتل الجماعي الآخذة في التصاعد، بل يُعْتقد أنَّ حوادث القتل الجماعي أو "جرائم الكراهية" كما يُطلق عليها في وسائل الإعلام الأمريكية أضحت تُعْزَى بشكل رئيسي إلى جملةٍ من العوامل التي شكَّلت متغيرات جديدة منذ تولِّي "دونالد ترامب" مقاليد الحكم، والذي كان إيذانًا بتصاعد خطاب الكراهية ضد المهاجرين بالولايات المتحدة على اختلاف أصولهم ودياناتهم، أضِف إلى ذلك الانتشار الواسع للألعاب الإلكترونية العنيفة، ووسائل التواصل الاجتماعي وما يرتبط بها من خدمات بث مباشر اسْتُخدمت أكثر من مرة لتصوير عمليات انتحار وحوادث قتل جماعي، ومن ثم بروز عامل "المحاكاة" أو "التقليد" ضمن العوامل والأسباب المؤدية للانتشار الواسع لحوادث القتل الجماعي، ومن ثم يمكن الإِشارة إلى عددٍ من الأسباب وذلك فيما يلي:
1- ثقافة "حمل السلاح": فمن خلال استطلاعات الرأي التي أجراها Pew Research Centre خلال عام 2017 أظهرت النتائج أنَّ قرابة 40% من المبحوثين أجابوا بأنهم يمتلكون سلاحًا، أو يمتلك أحد أفراد أسرتهم سلاحًا. ووفقًا للاستطلاعات التي يجريها المركز، تُعَد الفئة العمرية (18-29 سنة) هي الأكثر تأييدًا لحق الفرد في امتلاك السلاح. وقد أظهرت النتائج أيضًا أن حوالي ثُلث المبحوثين الذين تتجاوز أعمارهم الخمسين لديهم سلاح، بينما تتضاءل معدلات امتلاك السلاح في فئة المراهقين (28% فقط يمتلكون السلاح)، وأنَّ الرجال ذوي البشرة البيضاء هم الأكثر امتلاكًا للأسلحة. وثمة إحصائيات تشير إلى أنَّه على الرغم من أنَّ الأمريكيين يمثلون أقل من 5% من إجمالي تعداد سكان العالم، إلا أنَّهم يمتلكون حوالي 45% من إجمالي الأسلحة النارية المنتشرة عبر العالم.
2- صعود خطاب الكراهية: إذ أظهرت نتائج استطلاع رأي أجراه مركز Pew في عام 2015 حول مدى استجابة المبحوثين من دول عدة لنشر خطاب يُظْهر كراهية أو عداءً تجاه الأقليات القاطنة بالمجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي، أنَّ حوالي 67% من المبحوثين الأمريكيين أظهروا تأييدًا لحق الفرد في أنْ ينشر علانية منشورات تتضمن هجومًا أو إساءة إلى الأقليات والجنسيات الأخرى بالمجتمع الأمريكي. ولا يقتصر انتشار خطاب الكراهية بين الأوساط غير الرسمية فحسب، بل تجاوزها إلى الأوساط الرسمية منذ تولي "ترامب" الحكم؛ فالمتأمل لكثير من تصريحات وتغريدات الرئيس الأمريكي يلاحظ استخدام كثير من الألفاظ العنصرية والإساءة والتمييز ضد المهاجرين، وربما وصل الأمر إلى التحريض ضدهم. ولعل واحدًا من هذه التصريحات الفجة لترامب في مطلع عام 2018 تمحور حول وصف الدول الإفريقية، وبالتبعية المهاجرين الأفارقة للولايات المتحدة، بالحثالة، على حد تعبيره.
وساهمت النبرة العنصرية التي تكتنف حديث "ترامب" حول أوضاع المهاجرين بالولايات المتحدة في تغذية خطاب الكراهية لدى المواطن الأمريكي، ليس فقط ضد المهاجرين من أصول عربية ومسلمة، وإنما من المهاجرين بشكل عام.
ويمكن -في هذا السياق- الإشارة إلى البيان الذي كان قد نشره مرتكب حادث إطلاق النار بولاية تكساس في أغسطس الماضي، والذي كشف فيه عن نيته الاضطلاع بالهجوم كرد على الغزو الإسباني لتكساس. بالإضافة إلى تنامي النزعة العدائية ضد الجالية اليهودية بالولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، أعلنت السلطات الأمريكية في 19 أغسطس المنصرم إلقاء القبض على رجل هدَّد بإطلاق النار على مركز يهودي بولاية أوهايو؛ إذ نشر "جيمس ريردون" البالغ 20 عامًا، مقطع فيديو على الإنترنت لرجل يطلق النار، وكتب تحته تعليقًا يُشير إلى مركز يانجستاون الواقع شمال مدينة بيتسبرا.
غير أنَّ "ترامب" قد أبدى تراجعًا أو بالأحرى تخفيفًا من حدة نبرته العنصرية عقب حادِثَيْ تكساس وأوهايو، حيث اتّجه في تصريحاته لانتقاد أيديولوجيا تفوُّق العرق الأبيض، وطالب بتنفيذ عقوبة الإعدام لمن يرتكب جرائم كراهية.
3- أزمة القوانين الأمريكية: فعقب وقوع حادث قتلٍ جماعي يثور جدل حول أزمة القوانين الأمريكية، وتساهلها في منح رخصة حمل السلاح للمواطنين. فالبعض يشير إلى أنَّ شراء سلاح بالولايات المتحدة يُعَد أمرًا بسيطًا لا يتطلَّب سوى إشهار بطاقة الهوية لتسجيل بيانات المشتري ورقم السلاح الذي يرغب في شرائه. فحق حمل السلاح هو حق يكفله الدستور الأمريكي لأغراض الدفاع عن النفس. وهذا التساهُل أفضى في واحدة من تداعياته المباشرة إلى تزايد معدل وقوع الجرائم بواسطة الأسلحة النارية، التي وصلت إلى حوالي 68% من إجمالي الجرائم المرتكبة في عام 2014 وحده.
وأصبحت الولايات المتحدة، وفقًا لكثير من الإحصائيات، تتصدَّر قائمة الدول التي تشهد معدلات مرتفعة لجرائم إطلاق النار؛ والتي تُقدَّر بحوالي 6 أضعاف معدل جرائم إطلاق النار في كندا، ونحو 7 أضعاف معدل هذا النوع من الجرائم بالسويد. وبالتالي تتصدَّر الولايات المتحدة قائمة الدول المتقدمة التي تشهد معدلات جرائم مرتفعة، سواء ارْتُكِبت بأسلحة نارية أو غيرها.
وتجدُر الإشارة إلى أنَّ "ترامب" وعد بمناقشة ومراجعة قوانين حمل الأسلحة عقب مجزرة لاس فيجاس، التي راح ضحيتها قرابة 59 شخصًا في أكتوبر عام 2017، وقد جدَّد "ترامب" هذه الوعود عقب حادث إطلاق نار بغرب تكساس مطلع الشهر الجاري. بيْدَ أن الجدل والمناظرات التي تدور بشأن مراجعة قوانين الأسلحة تتصاعد وقت الأزمة، لكنها سرعان ما تخفت حدتها بعد مرور الوقت.
4- التغطية الإعلامية للجرائم: يرى البعض أنَّ الاهتمام الذي تحظى به الجريمة، سواء ارْتُكِبت بسلاح ناري أو بأي سلاح آخر، من قِبل وسائل الإعلام، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي؛ يحفِّز على تقليد مثل تلك الجرائم، خصوصًا في حالة حوادث إطلاق النار على المدارس، والتي يضطلع بتنفيذها المراهقون. وثمة إحصائيات تشير إلى أنَّه عقب التغطية الإعلامية لحادث إطلاق طالب يُدعى "نيكولاس كروز" النار بشكل عشوائي أودى بحياة 17 شخصًا من الطلاب والموظفين في فبراير لعام 2018، رُصِد نحو 638 محاولة لتقليد الحادث استهدفت العديد من المدارس وانتشرت في شكل دعابات أو خدع على وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم كونها لا تعدو مزحة، إلا أنها تبرز أثر المحاكاة والتقليد في رفع معدلات جرائم إطلاق النار، خصوصًا بين المراهقين في المدارس الأمريكية. ناهيك عن تأثير انتشار ألعاب الفيديو العنيفة.
ختامًا، يمكن القول إنَّ الوتيرة المتسارعة لحوادث القتل الجماعي التي تشهدها الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية، والمدى الزمني القصير للغاية الذي يفصل حادثة عن الأخرى؛ تؤكِّد أنَّ معدلات تلك الجرائم آخذة في التصاعد، خصوصًا في ظل وجود ثقافة راسخة تؤمن بحق الفرد في امتلاك السلاح للدفاع عن النفس، وقوانين تسهِّل امتلاك السلاح، فضلًا عن حالة السيولة والتدفق الإعلامي والانتشار المكثَّف لوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب العنيفة، التي تعزِّز الرغبة في محاكاة الجرائم وتلعب على أوتارٍ ثلاثةٍ هي: كراهية الآخر أي "المهاجر"، وحب المغامرة، والسعي وراء الشهرة.