أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

تقاسم السلطة:

تحديات الحكم الانتقالي في السودان بعد الإعلان الدستوري

20 أغسطس، 2019


لا شك أن ملامح الانتقال إلى مرحلة السودان الجديد بعد أشهر من الإطاحة بالرئيس السابق "عمر البشير" على يد الجيش في أعقاب انتفاضة ديسمبر 2018 قد بدأت في التشكل من أجل التأسيس لنظام حكم ديمقراطي يسع الجميع في المركز والأطراف. فقد كان توقيع اتفاق الإعلان الدستوري، يوم السبت 17 أغسطس، بين المجلس العسكري الانتقالي وقادة حركة الاحتجاج من قوى تحالف الحرية والتغيير، يومًا من أيام السودان المشهودة. وباستثناء غياب إريتريا كان قادة دول الأركان في محيط السودان الجيوستراتيجي على رأس الحضور: أبيي أحمد (إثيوبيا)، وأوهورو كينياتا (كينيا)، وسلفا كير (جنوب السودان)، وفاوستن تواديرا (جمهورية إفريقيا الوسطى)، وإدريس ديبي إتنو (تشاد)، بالإضافة إلى رئيس الوزراء المصري، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي "موسى فقي محمد".

وبغض النظر عن المناطق الرمادية وتلك المسكوت عنها في "الإعلان الدستوري" إلا أنه يُعد بمثابة وثيقة مُلهمة إذا تم تجريده من السياق العام بالغ القتامة الذي نشأ فيه (مئات الضحايا الذين بذلوا أنفسهم أو تعرضوا للتعذيب في مسار الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظام "البشير"). إن الإصرار على حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والحريات الفردية، وحريات الصحافة، والتسامح، وأولوية إحلال السلام في المناطق الملتهبة؛ كل هذا يوفر على الأقل -إن صدقت النوايا- الخطوط العريضة لبناء سودان جديد متصالح مع نفسه ومع الآخرين في محيطه الاستراتيجي. بيد أن ميراث الماضي الثقيل، وتركيبة النخب الحاكمة، وجدلية العلاقة بين المركز والأطراف، بالإضافة إلى كثافة التدخلات الخارجية ليس فقط في السودان ولكن في القرن الإفريقي؛ كل ذلك يجعل عملية استشراف آفاق المستقبل مسألة بالغة الصعوبة. 

ملامح الحكم الانتقالي:

ينص الاتفاق، الذي جاء بوساطة إفريقية ودولية، على تقاسم السلطة بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر من يوم توقيع الإعلان الدستوري، يتم بعدها إجراء الانتخابات العامة في عام 2022. وتتألف سلطات الحكم الانتقالي من ثلاث هيئات هي:

1- مجلس سيادي عسكري مدني مشترك، يتألف من 11 عضوًا: خمسة مدنيين وخمسة عسكريين؛ ويكون العضو الحادي عشر مدنيًّا يتم اختياره بالإجماع بين الطرفين. ويرأس المجلس السيادي جنرال عسكري خلال الـ21 شهرًا الأولى، يليه عضو مدني لمدة 18 شهرًا . 

2- رئيس وزراء مدني "عبدالله حمدوك" تعينه قوى الحرية والتغيير ومجلس تكنوقراط يضم 20 وزيرًا من قائمة المرشحين التي قدمتها قوى الحرية والتغيير، باستثناء وزيري الداخلية والدفاع اللذين يتم اختيارهما من ‏قبل الأعضاء العسكريين في المجلس السيادي.

 3- مجلس تشريعي يتألف من نحو 300 شخص، يتم تخصيص 40٪ من مقاعده على الأقل ‏للنساء . وتقوم قوى الحرية والتغيير بتعيين 67٪ من أعضاء المجلس التشريعي، بينما ستختار المجموعات السياسية الأخرى غير المرتبطة بنظام "البشير" باقي أعضاء المجلس .

4- لا يمكن اتخاذ أي إجراء قانوني ضد أعضاء المجالس الثلاثة دون إذن مسبق من المجلس التشريعي، ويتطلب قرار رفع الحصانة موافقة أغلبية المشرعين. ومن الأمور الإيجابية في الإعلان الدستوري النص على دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية في القوات المسلحة بحيث تخضع للقائد الأعلى للقوات المسلحة الذي يشغل أيضًا منصب رئيس المجلس السيادي.

5- قد يطلب مجلس الوزراء من المجلس السيادي إعلان حالة الطوارئ العامة إذا كانت وحدة وسلامة البلد في خطر. ويجب تقديم هذا الطلب إلى المجلس التشريعي في غضون 15 يومًا، وسيصبح الطلب لاغيًا في حال فشل المجلس في الموافقة عليه.

ومن المهم هنا أن نضع الاتفاق الأخير بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في سياق التاريخ السياسي للسودان الحديث وذلك لاستحضار الدروس والتمكن من قراءة المستقبل. ولعلنا نتذكر هنا أن نظام "البشير" لم يمتثل قط لأي من الاتفاقات التي وقّعها خلال سنوات حكمه الطويلة، ومن ذلك على سبيل المثال: اتفاق سلام دارفور (أبوجا- 2006)، اتفاقية السلام مع جبهة شرق السودان (أكتوبر 2006)، وثيقة الدوحة للسلام في دارفور (يوليو 2011). وعليه فإن استدعاء أحداث التاريخ تجعل المرء أكثر حذرًا في التعامل مع نتائج المفاوضات الشاقة والعسيرة التي جرت برعاية إفريقية ودولية بين العسكريين وقوى المعارضة المدنية، فإمكانية التراجع الجزئي أو التام عن الاتفاق بمجرد أن يحيد الاهتمام الدولي عن السودان، تظل قائمة. وعليه فإن سؤال تحديات المرحلة الانتقالية يصبح مهمًّا ومشروعًا للتدبر والتأمل في مستقبل سودان ما بعد "البشير".

تحديات الحكومة الانتقالية:

يتمثل التحدي الأول والأكبر الذي يواجه الحكومة الانتقالية في تفكيك الدولة الإسلامية العميقة التي أنشأها النظام السابق على مدار ثلاثين عامًا، والتي سيطرت على جميع مؤسسات الدولة والقطاعات الرئيسية للاقتصاد، بما في ذلك مئات الشركات المملوكة للجهاز الأمني العسكري. وربما يكون مفتاح تفكيك الدولة العميقة هو تنفيذ برنامج شامل لإصلاح قطاع الأمن يهدف إلى إنشاء جيش وطني احترافي وموحد والحد من سلطة جهاز الاستخبارات. ورغم وضع قوات الدعم السريع تحت إمرة "القائد الأعلى للقوات المسلحة" وفقًا لنص الإعلان ‏الدستوري ‏فإن احتواء الطموحات السياسية لقائدها الفريق "محمد حمدان داغلو" (حميدتي) لا يزال محل شك من قبل أطراف المعارضة المدنية. 

وعندما تذهب سكرة الاحتفالات السودانية بنجاح ثورة ديسمبر والإطاحة بحكم (الكيزان)، وفقًا للتعبير الدارج عن الإخوان المسلمين؛ تأتي الفكرة المستعصية على كل أنظمة الحكم المتعاقبة في السودان لتمثل التحدي الثاني. إنها إشكالية بناء الدولة الوطنية التي عبرت عنها أدبيات التمرد والحرب الأهلية في صيغة "السودان الجديد" التي تبتعد عن استراتيجيات الأسلمة والتعريب. فقد أدت هيمنة نخبة المركز بكل أطيافها التقليدية والحداثية إلى انفصال الجنوب واشتعال الحرب في مناطق الأطراف والهوامش. فالسودان متعدد الأعراق يستعصي على حكم الأقلية بغض النظر عما تمتلكه من منعة وشوكة، وعليه فإن التوصل إلى صيغة مدنية علمانية للحكم على أساس المواطنة المتساوية والعادلة سوف يمثل محور النضال في المرحلة القادمة من الثورة السودانية. وهنا يكون التحدي في ضمان التمثيل السليم للشباب والنساء في هياكل الحكم الجديدة. ولقد كانت هذه المجموعات هي القوة الدافعة للثورة لكنها استُبعدت إلى حد كبير من هيئات صنع القرار في مؤسسة الحكم المركزي. وسيكون استيعاب هذه القوى الاجتماعية الجديدة والفئات المهمشة الأخرى في العملية السياسية أمرًا حاسمًا إذا أراد السودان أن يغير من نمط القوة المتوارث عن العهود السابقة.

فيما يتمثل التحدي الثالث الذي تم التعبير عنه بأشكال مختلفة، في أن القضايا الاقتصادية الأساسية في السودان في ظل عبء اقتصاد منهار -إلى حد كبير- لم يتم التعامل معها بأي شكل من الأشكال. وقد يكون هذا متوقعًا من خلال وثيقة دستورية مؤقتة، لكن أكبر عائق أمام إعادة التأهيل الاقتصادي في السودان يتمثل في شيوع الفساد، والتهام الميزانية الوطنية المخصصة للجيش والأمن معظم الإنفاق العام.

وتشير بعض التقديرات المستقلة إلى أن النسبة تتراوح بين 50٪ و70٪ من إجمالي النفقات الوطنية. ولعل أصل المشكلة هو أنه بعد انفصال جنوب السودان في عام 2011، فقد السودان 75٪ من حقوله النفطية ونسبة أكبر من أرباح عملته الصعبة. وعليه أضحت أزمة الاقتصاد الكلي في السودان تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم، وتراكم متأخرات الديون الخارجية المستحقة، ونبذ السودان وإقصاؤه من النظام المالي الدولي القائم على الدولار. وبدون حدوث تحول هائل في الأولويات الاقتصادية، الأمر الذي يستلزم تعاونًا وثيقًا من مؤسسات الحكم الانتقالي؛ سوف يتراجع الإنتاج الزراعي، وتنخفض القدرة على تمويل الواردات الحيوية، بما في ذلك الغذاء والدواء والمنتجات البترولية المكررة. وفي هذه الحالة تصبح عودة المد الاحتجاجي الشعبي أمرًا متوقعًا.

وينبع التحدي الرابع من إشكالية عدم احتواء قادة المناطق الملتهبة التي تشهد حركات تمرد مسلح في أطراف السودان (مثل: دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق). يقول "ماو تسي تونج" إن "القوة السياسية تنبثق من فوهة البندقية"، وهو ما يشير إلى الحقيقة الأولية المتمثلة في أن السلطة السياسية لا تكتمل أبدًا بدون السيطرة على مصادر القوة المسلحة، وعليه يتمثل التحدي الرئيسي للثورة السودانية -في الواقع- في ضرورة وجود قوات مسلحة وطنية احترافية وموحدة. فكيف يتم إذن دمج الجبهة الثورية التي تضم عددًا من قادة الحركات المسلحة (أمثال: مالك عقار، وعبدالعزيز الحلو، ومنى مناوي، وعبدالواحد محمد نور) في مؤسسات الحكم الانتقالي؟

ويتمثل التحدي الخامس في إعادة تأهيل السودان في محيطها الإقليمي والدولي بحيث تنفض عن نفسها رداء الدولة العاصية الذي جلبه نظام الإنقاذ واستحق عليه "البشير" الملاحقة الدولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور. وثمة اهتمام دولي بعملية التحول الديمقراطي في السودان بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين. لقد كان العمل الحقيقي للوصول إلى صفقة تقاسم السلطة في الخرطوم يدور من وراء الكواليس من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين. ولاحظ قيام إدارة "ترامب" في منتصف يونيو بإعادة تعيين "دونالد بوث"، مبعوثها الخاص السابق للسودان ليحتل نفس المنصب. وهنا يصبح السؤال: كيف يُصلح الحكم الانتقالي ما أفسده "البشير" عبر ثلاثة عقود من سياساته الخارجية المتقلبة وتغير تحالفاته الدولية وفقًا لمصالح ذاتية خاصة بضمان استمراره في السلطة؟

ختامًا، يمكن القول إن الحكومة الانتقالية القائمة على مبدأ تقاسم السلطة، والتشاور بين النخب العسكرية والمدنية، بما في ذلك مشاركة أوسع لمختلف المجموعات العرقية، وعدم السماح بإعادة إنتاج الأحزاب الدينية؛ سوف تعد الصيغة الأكثر ملاءمة لتحقيق انتقال سريع نحو الحكم الديمقراطي في سودان ما بعد "البشير"، بيد أن الأمر لا يخلو من تحديات جسام كما سبق وأن بيّنا.