تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تضييق الخناق على مصادر تمويل الحرس الثوري الإيراني، والتي يتم توظيفها، بحسب المسئولين الأمريكيين، في تهديد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، وتقديم الدعم المالي لوكلاء إيران بالمنطقة. وعليه، فقد اتخذت الإدارة الأمريكية، في الآونة الأخيرة، مجموعة من التدابير لتجفيف منابع تمويل الحرس، منها تصنيفه كمنظمة إرهابية، في 8 إبريل 2019، وفرض عقوبات على الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة الوثيفة بالشركات التابعة له، بجانب تفكيك الشبكات المالية الخارجية التي تمده بالعملات الأجنبية، وهو ما يمكن أن يحرم "الباسدران" من عائدات مالية كبيرة كان يحصل عليها سنويًا.
نفوذ واسع:
لا يستمد الحرس الثوري نفوذه داخل إيران وخارجها من نشاطه العسكري فقط وإنما من حضوره الواسع في الاقتصاد الإيراني. وقد تنامى النفوذ الاقتصادي لـ"الباسدران" منذ نهاية الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) حتى بات يسيطر على أكثر من 10% من الناتح المحلي لإيران سنويًا، بحسب بعض التقديرات. وحاليًا، تخضع أكثر من 100 شركة إيرانية لسيطرته، وبعدد من المشتغلين يصل إلى 40 ألف شخص.
وتأتي شركة "خاتم الأنبياء" في صدارة الشركات التابعة للحرس، حيث تضم نحو 800 شركة فرعية تعمل في مجالات مختلفة. ولدى الحرس أيضًا حصص في عدد من البنوك وشركات السيارات والبتروكيماويات والصناعات الغذائية بالسوق الإيرانية. وفي الأعوام الماضية، شاركت شركات الحرس، وخاصة "خاتم الأنبياء"، في تنفيذ العديد من المشروعات داخل إيران في قطاعات النفط والغاز وفي مجال البنية التحتية مثل مد الطرق وبناء السدود وغيرها، حيث حصلت بموجب ذلك على عائد سنوي تراوح بين 10 إلى 12 مليار دولار.
خطوات متعددة:
اتخذت الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة مجموعة من الخطوات لتضييق الخناق على مصادر تمويل الحرس في منحى للحد من أنشطته العسكرية التي مثلت تهديدًا واسعًا لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى قطع مصادر تمويل وكلاء إيران بالمنطقة. وقد تمثلت أولى هذه الخطوات، في إدراج الحرس، في 8 إبريل 2019، على لائحة المنظمات الإرهابية، حيث فسر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه الخطوة بأنها ضرورية لتجفيف منابع تمويل الحرس التي يوظفها في مساندة وكلاء إيران بالمنطقة ودعم أنشطته الإرهابية.
وبالتوازي مع ذلك، حذر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الشركات والمصارف العالمية من الانخراط في أية أنشطة مع شركات الحرس، وسبق أن فرضت الإدارة الأمريكية في الأعوام الماضية عقوبات على الأفراد والوحدات داخل الحرس بسبب أنشطتهم الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
وانصرفت الخطوة الثانية، إلى فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على بعض الأنشطة الاقتصادية الإيرانية ذات الصلة الوثيقة بشركات الحرس، كان من بينها قطاع البتروكيماويات، حيث فرضت الوزارة، في 6 يونيو الجاري، عقوبات على 39 شركة تابعة لإحدى المجموعات الاقتصادية بسبب إسنادها أعمال واسعة للشركات التابعة للحرس من بينها "خاتم الأنبياء". ويذكر أن هذه المجموعة والشركات التابعة لها تملك 40% من الطاقة الإنتاجية للبتروكيماويات في إيران وتصدر نصف منتجات إيران منها.
وسبق أن فرضت الإدارة الأمريكية، في 8 مايو 2019، عقوبات على قطاع التعدين في إيران، قضت بعدم السمح للشركات والكيانات في العالم بإجراء أية تعاملات تجارية مع إيران في هذا القطاع، أى يحظر عليها استيراد منتجات المعادن الإيرانية، بما في ذلك الحديد والصلب والنحاس والألومنيوم، علمًا بأن الحرس لديه بعض الحصص في شركات الألومنيوم والحديد.
أما الخطوة الثالثة، فتعلقت بفرض عقوبات على 25 كيانًا داخل وخارج إيران، في 26 مارس 2019، عملوا على تأسيس شبكة دولية لمساعدتها في جمع النقد الأجنبي لتمويل عمليات مرتبطة بالحرس، كان من بينها بنك "أنصار" الإيراني الذي مارس دورًا جوهريًا في عمليات تبادل الريال الإيراني بالدولار واليورو من خلال شبكة خارجية متعددة الأطراف من الشركات الوهمية للالتفاف على العقوبات والوصول إلى النظام المالي العالمي.
قيود تدريجية:
تفرض الإجراءات الأمريكية، من دون شك، مزيدًا من القيود على مصادر تمويل الحرس الثوري والشركات التابعة له، حيث ستحرمه من عوائد مالية كبيرة مع انكماش أنشطة الاقتصاد الإيراني، بجانب انخفاض عائدات التصدير. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن شركة "خاتم الأنبياء" لم يعد بمقدورها الحصول على العائدات المالية نفسها التي كانت تحصل عليها في الأعوام الماضية مع تدهور الاقتصاد الإيراني في الفترة المقبلة. ويذكر أنها في عام 2018، حصلت الشركة على 10 مشاريع في صناعات النفط والبتروكيماويات بقيمة 22 مليار دولار. وبمعنى آخر، فإنها ستحرم من بعض الأنشطة الاقتصادية التي كانت تمثل لها روافد مالية هامة.
فضلاً عن ذلك، فإن فرض عقوبات على 39 شركة لصلاتها بشركات الحرس يوجه إشارة ضمنية بأن الأخير منخرط في جميع القطاعات الإيرانية، وهو ما يعني أن إجراء أى تعامل تجاري أو استثماري مع إيران محفوف بالمخاطر.
ورغم ذلك، فإن ثمة متغيرات عديدة قد تحد من فعالية العقوبات الأمريكية. يتمثل أولها، في أن الشركات التابعة للحرس لديها أعمال في أسواق خارجية، لا سيما في سوريا والعراق، حيث تشارك في تنفيذ أعمال واسعة في هذين الدولتين في مشاريع البنية التحتية والنفط والغاز، وهو ما قد يوفر لها مصادر تمويل بديلة.
ويتصل ثانيها، بأنه رغم الانكماش المتوقع لأعمال شركات الحرس، إلا أنها قد تعوض ذلك عبر الانخراط في أنشطة تهريب النفط والعملات الأجنبية والسلع الاستهلاكية والمخدرات، وذلك على غرار فترة العقوبات الدولية (2012 - 2015)، والتي كانت توفر لها عائدات كبيرة قدرت بنحو 12 مليار دولار في عام 2014 ومنها عائدات لتهريب النفط بقيمة 7 مليار دولار.
فيما ينصرف ثالثها، إلى أن تفكيك كافة الشبكات المالية والنقدية التي شكلها الحرس في الأعوام الماضية يبدو مهمة صعبة، حيث أن بعضها يتألف من شركات صغيرة ومتوسطة الحجم في إيران وخارجها والتي يصعب تعقبها، وبما قد يجعلها تستمر في الحصول على النقد الأجنبي خارج البلاد على أقل تقدير.
أما رابعها، فيرتبط باتساع مساحة الدور الذي تقوم به الشركات التابعة للحرس بعد انسحاب الشركات الأجنبية من السوق الإيرانية على خلفية العقوبات الأمريكية، حيث يمكن أن يساهم ذلك في تعزيز حضورها في مختلف الأنشطة الاقتصادية.
لكن التأثيرات التي يمكن أن تفرضها تلك المتغيرات تبقى في حدها الأدنى، خاصة أن الإدارة الأمريكية حريصة على ممارسة أكبر قدر ممكن من الضغوط على إيران لدفعها إلى الاستجابة لدعوتها بإجراء مفاوضات للوصول إلى اتفاق جديد.