يعيش السودان أجواء متوترة بسبب عدم حسم العديد من قضايا المرحلة الانتقالية التالية لعزل الرئيس "عمر البشير"، ومنها: كيفية التعامل مع الحركات المسلحة المنتشرة بالبلاد، وآليات تسوية الصراعات وإحلال السلم. إذ اكتفى اتفاق الرابع عشر من مايو 2019 بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير (الممثلة للحراك الثوري) بمنح الأولوية لتحقيق السلم خلال الشهور الستة الأولى للمرحلة الانتقالية ذات الأعوام الثلاثة، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا نظرًا لضعف الثقة المتبادل بين الفرقاء السياسيين، وتعدد القضايا الخلافية المعقدة على مائدة التفاوض، والمخاوف من تحركات الثورة المضادة.
توجهات الحركات المسلحة:
كانت الحركات المسلحة المتمركزة بالأقاليم الطرفية بالسودان في طليعة القوى الداعية لإسقاط نظام الإنقاذ حتى قبل اندلاع الثورات بالمنطقة العربية عام 2011، وهو ما يجعل ثورة ديسمبر 2018 مختلفة عن الاحتجاجات التي اندلعت بالسودان عامي 1964 و1985، والتي كان مركزها الخرطوم في الحالتين.
وانطلقت حركة التمرد بجنوب كردفان والنيل الأزرق (فرع الشمال) بالنسبة للحركة الشعبية لتحرير السودان من الجنوب، وقادت عملية انفصاله عن الدولة السودانية. فيما تمسّكت حركة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان بجناحيها، وحركات التمرد الأخرى في دارفور، برفع السلاح في وجه النظام منذ فبراير 2003، بهدف إسقاطه وإيجاد البديل القادر على تحقيق العدل والمساواة بين أبناء الوطن. وبالمثل، دعت الحركات المسلحة بشرق السودان، خاصة حزب مؤتمر البجا، وجبهة أسود الشرق؛ إلى نقض اتفاقها مع نظام الإنقاذ في أكتوبر 2006، والتنسيق من أجل الإطاحة به.
وبالرغم من انتهاجها طريق العمل المسلح، فقد خاضت الحركات المسلحة جولات تفاوضية عديدة مع نظام الإنقاذ، في إنجامينا وأديس أبابا وأبوجا والدوحة وغيرها. كما شارك بعضها في الحكومة بعد تحولها لأحزاب سياسية. لكن أغلبها انضم إلى تحالفات موسعة، تستهدف إسقاط النظام، وأهمها: الجبهة الثورية، وتحالف نداء السودان، الذي رفض مبادرة "البشير" للحوار الوطني في يناير 2014، بدعوى إصرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم على إدارة البلاد بعقلية الحزب الواحد، وأن الحوار لم يكن سوى مناورة لشق صفوف المعارضة، والالتفاف حول مطالبها بالإصلاح الجذري، بتقديم تنازلات طفيفة تسمح بمشاركة رمزية للأحزاب في السلطة، دون الوصول لتسوية سياسية شاملة.
وانخرطت معظم الحركات المسلحة المنضوية تحت لواء نداء السودان في الحراك الثوري ضد الإنقاذ في ديسمبر 2018. فوقّعت على إعلان "الحرية والتغيير" الذي حدد مطالب الثوار، وتضمن رؤيتهم لسودان ما بعد الإنقاذ. كما شارك أنصارها في الاعتصام أمام قيادة القوات المسلحة بالخرطوم، حتى تحقق هدفها الأول بعزل "البشير" في 11 أبريل 2019، لتنتقل البلاد إلى المرحلة الانتقالية التي تتوخى تحقيق التوافق بشأن شكل الدولة، وهويتها، ودستورها، والمؤسسات الانتقالية، وطبيعة النظام السياسي الجديد. وهي بالطبع مسائل أكثر تعقيدًا من مجرد الإطاحة برأس النظام.
وفي هذا السياق، أكدت جميع الحركات المسلحة تمسكها بوحدة السودان، وعدم وجود نوايا انفصالية لديها، وأنها ليست في خصومة مع الشعب السوداني، وأن قضيتها الأساسية تتمثل في مقاومة التهميش الذي تعانيه المناطق الطرفية بالبلاد. لكن تلك الحركات ظلت تمثل هاجسًا لدى السودانيين، نظرًا لتشرذمها، واختلاف رؤاها لإدارة المرحلة الانتقالية، وتحديد أولويات التفاوض، وآليات تسوية الصراع في البلاد، وتباين مواقفها من قضايا المرحلة الانتقالية.
ملامح خريطة الانقسامات:
تفتقر الحركات المسلحة للتوافق فيما بينها، الأمر الذي يُفسّر الانقسام في مواقفها والاشتباكات المسلحة فيما بينها. كما أنها تفتقر للتماسك الداخلي، وهو ما يبرر كثرة الانشقاقات داخلها، والتي كان آخرها إعلان قادة حركة/جيش تحرير السودان في مايو 2019 تجميد صلاحيات رئيس الحركة "عبدالواحد محمد نور"، وتكوين مجلس قيادي مفوَّض من المؤسسين والقيادة العامة لجيش الحركة، والإدارة العامة للنازحين واللاجئين، وممثلي الحركة بدول المهجر، ولجان الطلاب والشباب لإدارة شئون الحركة في المرحلة المقبلة لحين انعقاد مؤتمرها العام.
وقد وقّعت حركة العدل والمساواة بقيادة "جبريل إبراهيم" على إعلان الحرية والتغيير في يناير 2019، ووقّعته أيضًا حركة تحرير السودان بقيادة "منى أركوي مناوي"، والحركة الشعبية لتحرير السودان/قطاع الشمال، مؤكدةً أنها تُمثل جزءًا أساسيًّا في النضال الشعبي ضد هيمنة المركز على الدولة السودانية.
في المقابل، أكدت حركة/جيش تحرير السودان ترحيبها بالحراك الثوري، لكنها رفضت الاعتراف بإعلان الحرية والتغيير، بحجة أنها لم تكن جزءًا منه، وأن انضمامها اللاحق للإعلان سيجعل مَن أنجزوا الوثيقة أصلاء والآخرين تابعين. ويمثل ذلك امتدادًا لموقف الحركة الرافض للتفاوض مع الحكومة، كما يفسر استمرار هجمات الحركة ضد الأهداف الحكومية بمنطقة جبل مرة بدارفور، وهو موقف تكاد تتفرد به الحركة عن الحركات الأخرى التي أعلنت تجاوز آلية العنف المسلح، ليصبح خيارها الأخير مع تغليب آليات أخرى أبرزها: الحرك الجماهيري، والتفاوض، والضغط الدولي.
وهنا يبرز موقف الحركة الشعبية/قطاع الشمال بتعليق القتال لمدة ثلاثة أشهر، تنقضي بنهاية يوليو 2019، وذلك استجابة لقرار المجلس الانتقالي بوقف القتال بالبلاد، وكبادرة لإثبات حسن النوايا، رغم تأخر المجلس في إلغاء أحكام الإعدام التي أصدرها نظام الإنقاذ بحق قيادات الحركة، وعلى رأسهم نائب رئيس الحركة "ياسر عرمان".
الجدل حول الاتفاق الثنائي:
بالنسبة لموقفها من الاتفاق الثنائي بين المجلس الانتقالي وقوى الحركة والتغيير في 14 مايو الماضي، والذي أسند إدارتها لثلاث آليات هي: المجلس السيادي، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي؛ فقد أعلنت معظم الحركات المسلحة رفضها للاتفاق، مؤكدةً أن وفد الحرية والتغيير لا يمثلها، وذلك لتعمّد تجمع المهنيين (الكيان الأبرز بصفوف المعارضة) تغييبها والتصرف بشكل منفرد، دون التشاور معها، وكأنه الوحيد الذي يقف في ميدان الثورة، خاصة أن الاتفاق يمنحه الحق في تشكيل مجلس الوزراء بالكامل، والاستحواذ على 67% من مقاعد السلطة التشريعية.
لذا حذّر تحالف نداء السودان التي يضم أغلب الحركات المسلحة، من الحلول الجزئية لأزمات السودان، مؤكدًا أنها ستكرر تجارب الماضي، وتعيد إنتاج الأزمة. وأكد التحالف أن أي محاولة لإقصائه من الترتيبات الانتقالية ستكون لها تبعات خطيرة على الاستقرار والتحول الديمقراطي.
هنا اقترحت بعض الحركات المسلحة التفاوض المباشر مع المجلس الانتقالي في منابر مختلفة عما يجري بالخرطوم، مع تقسيم الفترة الانتقالية إلى مرحلتين؛ تخصص أولاهما لمخاطبة الحركات المتمردة والجلوس معها لتحقيق السلام، فيما تُرتّب الثانية لإجراء انتخابات عامة. وعلى ذلك، أكد تجمع المهنيين حرصه على وجود تمثيل موسع لمكونات الشعب السوداني، دون إقصاء أو تهميش لأحد، والسعي لإيجاد صيغة تربط بين قضايا السلام والديمقراطية والمواطنة.
لكن معظم الحركات المسلحة شككت في إمكانية تسوية الصراعات القائمة بالسودان خلال ستة أشهر فقط، مثلما نص اتفاق الرابع عشر من مايو، خاصة وأن النظام السابق فشل في ذلك على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا، وأن إحلال السلام يتطلب توحيد صفوف الحركات المسلحة أولًا، واتخاذ إجراءات لبناء الثقة بينها وبين الإدارة الانتقالية، وذلك بإلغاء أحكام الإعدام ضد قياداتها، ووقف ملاحقات الإنتربول لهم، حتى يكون بوسعهم العودة لوطنهم، وإطلاق سراح المعتقلين، ووضع سياسة للتعويضات والعدالة الانتقالية، ونزع السلاح، وإدماج المتمردين في الجيش الوطني، وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وإعادة الإعمار، والإفراج عن الأسرى، والبحث عن المفقودين.. إلخ. وهي إجراءات من المرجح أن تمتد إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
التفاعلات مع "المجلس السيادي":
توافقت الحركات المسلحة على ضرورة إشراك المدنيين بشكل أكبر في عضوية ورئاسة المجلس السيادي. ويعود ذلك لتمتعه بصلاحيات واسعة، لا تجعله مجلسًا شرفيًّا كما يريد البعض، وإنما تمنحه السلطة الأكبر في توجيه دفة الأمور خلال سنوات المرحلة الانتقالية الثلاث.
فرئيس هذا المجلس سيكون هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي ستؤدي الحكومةُ الانتقالية اليمين الدستورية أمامه. كما ستكون للمجلس سلطة التصديق على القوانين الصادرة عن المجلس التشريعي، والمصادقة على القوانين المتعلقة بأحكام الإعدام وإعلان الحرب، بالتشاور مع مجلس الوزراء والمجلس الشريعي، وتعيين حكام الأقاليم وعزلهم بموافقة مجلس الوزراء، وتعيين وإعفاء سفراء السودان بالخارج، واعتماد الممثلين الدبلوماسيين الأجانب، وتعيين مجلس القضاء الأعلى.
من جهة أخرى، ما زال مناخ الشك وعدم الثقة يخيم على العلاقات بين عناصر المجلس الانتقالي والحركات المسلحة، التي ترى أن المجلس يُعد امتدادًا للنظام السابق، بدعوى أنه يضم عناصر موالية للرئيس "البشير"، وأنه أبقى على الكثير من قادة الإنقاذ في مناصبهم، ولا يزال مترددًا في اعتقال بعضهم، وأنه قرر رفع الحظر عن تجميد النشاط النقابي، لتوثيق صلاته بعناصر الثورة المضادة، والضغط على قوى إعلان الحرية والتغيير حسب رؤيتهم. وبالتالي، تتخوف الحركات المسلحة من أن يكون المجلس الانتقالي ضالعًا في إدارة عملية سياسية تُعرف بـ"الهبوط الناعم"، لإعادة إنتاج النظام السابق.
وفي ظلّ الصعوبات سالفة الذكر، التي قد تحول دون نجاح المفاوضات المباشرة بين المجلس الانتقالي والحركات المسلحة، تبدو الحاجة إلى وجود وسطاء خارجيين لتيسير المفاوضات، وهو أمر أضحى ممكنًا في ظل حرص الحركات المسلحة على عدم التصعيد، وكذا مع عدم مشاركتها في الإضراب العام الذي دعت إليه قوى الحرية والتغيير في 27-28 مايو.