يلقي ملف إدلب الضوء مجددًا على تعقيدات الصراع السوري بكل أبعاده الرئيسية، مع عودة النظام إلى الاستناد للقوة المسلحة، وتكرار الاتهامات الموجهة من جانب بعض القوى الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، للأخير باستخدام الأسلحة الكيماوية، وزيادة معدلات النزوح وعبور الحدود إلى دول ومناطق الجوار، واستمرار النفوذ المناطقي للتنظيمات الإرهابية على غرار "هيئة تحرير الشام"، والتقاطعات الحادة بين القوى الفاعلة المنخرطة في الصراع، لا سيما تركيا والنظام، في ظل صعوبة استمرار الدور الذي تقوم به روسيا في احتواء الخلافات بين الطرفين.
وثمة عوامل عديدة ساهمت في تشكيل وضع إدلب على هذا النحو، كونها "الخزَّان" الذي استوعب كافة مخرجات الصراع خلال الأعوام الماضية، خاصة المكونات التي تم ترحيلها من على خط المواجهة مع النظام، على نحو ما جرى في اتفاق درعا، وهو ما يشير إلى أن النظام يتعامل، في الغالب، مع إدلب بمنطق "المرحلة الأخيرة" التي يتعين عليه حسمها كخاتمة للصراع المسلح.
معركة مُؤجلة:
أدى تصاعد حدة المواجهات المسلحة بين النظام السوري من جهة وفصائل المعارضة والتنظيمات الإرهابية من جهة أخرى إلى نزوح ما يقرب من 200 ألف شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة في 26 مايو 2019، على نحو دفع أطرافًا معنية إلى بذل جهود من أجل وقف تلك المواجهات والعودة من جديد إلى إبرام تفاهمات للتهدئة ووقف إطلاق النار. لكن لا يبدو أن هذه الجهود يمكن أن تحقق نتائج بارزة، إذ ربما تتمكن فقط من تأجيل حسم الأزمة، دون أن يكون لديها القدرة على تعزيز فرص الوصول إلى تسوية لها، وهو ما يعود، دون شك، إلى موقع إدلب على خريطة الصراع المسلح في سوريا.
فقد ظلت إدلب المعركة المُؤجلة على طول مسار الصراع السوري خلال الأعوام الأخيرة، حيث كان النظام دائم التركيز، بعد انتهاء كل معركة في محيط دمشق وجنوبها، على أن إدلب وجهته القادمة. لكن جدول الصراع وتفاعلاته فضلاً عن تشابك مصالح القوى المعنية به والمنخرطة فيه ظل يدفع باتجاه تأجيل تلك المعركة، حتى تحولت إدلب إلى ما يشبه "العقدة الكبيرة" في الصراع كونها أصبحت "خزَّان الحرب" الذي استوعب فائض الصراع من جهة، وتحول إلى وعاء لتفاعلات أقطابه من جهة أخرى.
وربما يفسر ذلك إقدام روسيا على خطوة إبرام اتفاق سوتشي مع تركيا، في 17 سبتمبر 2018، ثم الإصرار على الاحتفاظ به رغم تعثره، أو التعامل معه بما يتوافق مع مصالح الطرفين، على نحو يبدو جليًا في ما يثيره النظام وروسيا في بعض الأحيان من أن الاتفاق يتضمن عمليات مكافحة الإرهاب. إذ يحاول الطرفان الاستناد إلى ذلك لتبرير العمليات العسكرية التي يشنها الأول بغطاء جوي توفره الثانية، التي توجه اتهامات مستمرة لـ"هيئة تحرير الشام" بمهاجمة قاعدة حميميم.
وقد كشف تقرير منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية لعام 2018 أن عدد سكان إدلب تجاوز 2.65 مليون نسمة، بينهم 1.16 مليون نازح من مناطق أخرى، وهو ما يضاعف من حدة الأزمة في تلك المحافظة، خاصة في ظل التشابكات التي نشأت تحت ضغط الوضع السوري في العلاقات بين المكون المدني في إدلب وبين مكون المعارضة السورية المسلحة من جهة والتنظيمات الإرهابية التي تمت إزاحتها إليها من جهة أخرى، والتي كان من نتائجها، على سبيل المثال، تشكيل ما يسمى بـ"حكومة الإنقاذ" في إدلب، على نحو يوحي بأن حاصل هذه التشابكات في بيئة إدلب من شأنه أن يفرض خسائر كبيرة في أوساط المدنيين بالتوازي مع العمليات العسكرية التي يتم شنها.
تفاهمات صعبة:
على الرغم من تمسك تركيا بالتفاهمات التي توصلت إليها مع روسيا، إلا أن هناك تحديات يمكن أن تواجه استمرارها، يتمثل أهمها في إصرار النظام السوري على أن عمليات مكافحة الإرهاب في إدلب خارج الاتفاق بهدف توسيع هامش الحركة المتاح أمامه للتعامل مع التطورات الميدانية فيها، خاصة فيما يتعلق بمحاولات "هيئة تحرير الشام" تعزيز نفوذها وسيطرتها داخلها.
ومن هنا، يمكن القول إن هناك صعوبات في الوقت الراهن تواجه استمرار عملية ضبط التوازنات التي تقوم بها روسيا بين النظام وتركيا في إطار اتفاقيات مناطق خفض التصعيد واتفاق سوتشي بخصوص إدلب، بشكل يزيد من احتمالات اندلاع مواجهة بين الطرفين إن لم تتمكن روسيا من نزع فتيل تلك المواجهة على الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها بسبب تركيبة بيئة الصراع في إدلب.
كما تبدي اتجاهات عديدة شكوكًا في استمرار التفاهمات القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في الوقت الحالي، بعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى سوتشي في 14 مايو الجاري، خاصة بعد أن قامت أطراف أوروبية بتحذير واشنطن من تداعيات التعويل على مثل تلك التفاهمات، في ظل السياسة التي تتبناها موسكو، والتي تقوم، وفقًا لتلك الأطراف، على تقديم وعود دبلوماسية بالتوازي مع منح الضوء الأخضر للتدخل عسكريًا لحسم الملف.
وفي النهاية، يمكن القول إن مؤشرات الوضع الراهن في إدلب تكشف عن احتمال عودة الملف السوري مجددًا إلى نقطة الصفر، في ظل العديد من التعقيدات والتشابكات التي ظهرت على الساحة بعد جولة التصعيد الأخيرة، بل إن الوضع قد يصل إلى حد حدوث تدخل دولي مجددًا مع تزايد الحديث عن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية وارتفاع مستوى النزوح، وهو ما يعني أن فصول الصراع السوري لا تزال ممتدة وأن الحديث عن الاقتراب من الحل لا يعبر عن واقع الأزمة، خاصة مع فشل المسار السياسي لتسويتها عبر آلية حوار الآستانة.