بلغت العلاقة التركية الأميركية نقطة حرجة جداً، بل نقطة لا رجوع فيها لأي من الدولتين. والمسألة ليست بسيطة في الظاهر ولا في المضمون، أي أنها لا تقتصر على خلاف في شأن «صفقة تسلّح» وإنما تضع الطرفين، لاسيما تركيا، أمام خيار استراتيجي خطير. أنذرت واشنطن أنقرة بأن اقتناء صواريخ «اس 400» الروسية لا يحرمها فقط من الحصول على طائرات «اف 35» الأميركية فحسب، بل يعرّضها لعقوبات عسكرية ومالية، لأن ميلها إلى روسيا يغيّر اصطفافها الاستراتيجي المزمن إلى جانب الغرب. ومن شأن هذه العقوبات، إذا فُرضت، أن تُحدث اضطراباً غير مسبوق في الاقتصاد التركي، علماً بأن الهزيمة النسبية التي أصابت الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة تُعزى عموماً إلى التراجع الاقتصادي، وهذا بدوره رُبط بعدم الاستقرار السياسي، سواء بفعل التطوّرات الإقليمية أو بسبب العلاقات المتشنّجة بين تركيا من جهة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
الاختيار بين أميركا وروسيا، بين الغرب والشرق، ماضٍ أكثر فأكثر في وضع تركيا أمام خيار الاستمرار في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبين احتمال أن تُطرد منه، لمجرد أن «تعايش» سلاحَين عدوَّين في دولة أطلسية أمرٌ غير مقبول. لم تتردّد أنقرة ولم تطلب مهلة لمراجعة أخيرة بل أعلنت أنها أنهت عملياً الإجراءات المتعلقة بصفقة «اس 400»، وبالتالي فهي تضع الشركاء الأطلسيين أمام الأمر الواقع. بالطبع تدرك تركيا التداعيات الصعبة للخروج من «الناتو»، وهي لا تسعى لمغادرة الحلف، إذ لا مصلحة لها في ذلك، لكنها تراهن على إثبات معطى جديد مزدوج في العلاقة مع الشركاء، عنوانه الأول «الاستقلالية» في السياسة الخارجية، والثاني اعتبار التنويع في مصادر التسلّح «قراراً سيادياً» حتى ولو كان من روسيا.
قبل ستة أعوام رغبت أنقرة في شراء منظومة صواريخ صينية وكان رد فعل «الناتو» موحّداً وصارماً، ما اضطرّها لطيّ الصفحة سريعاً، معتبرةً أن الظروف لا تسمح بالمجازفة. لكن المتغيّرات التي طرأت منذ 2014 (انتشار تنظيم «داعش» ووجوب محاربته بتحالف دولي) ثم في 2015 (تدخّل روسيا في سوريا وحصول مواجهة بعد إسقاط تركيا طائرة «سوخوي» روسية ثم قطيعة اقتصادية) ثم في 2016 (المحاولة الانقلابية على نظام رجب طيب أردوغان وما تلاها من تقارب بين بوتين وأردوغان)، ساهمت على ما يبدو في مراجعة تركية جذرية وفي بلورة توجّه سياسي استراتيجي غير مسبوق. ترافق ذلك مع تنامي عداء داخلي لأميركا راح يظهر بشيء من التحفّظ في أوساط حزب «العدالة والتنمية» على أساس تواطؤ أميركي مفترض مع انقلابيي 2016. لكن الخلافات التي تصاعدت بين واشنطن وأنقرة بشأن التسليح الأميركي للأكراد في شمال سوريا والاعتماد عليهم في قتال «داعش» وهزيمته، ما لبثت أن دفعت بذلك العداء إلى الخطاب الأردوغاني نفسه وإنْ ظلّ في إطار براغماتي باحث عن تسويات. لكن مجمل ما اقترحته واشنطن لم يرقَ يوماً إلى درجة الاستغناء عن الأكراد، بل العكس ترافق مع تعزيز العلاقة معهم.
كان واضحاً بالنسبة للعديد من المراقبين أن المسألة الكردية تشكّل جوهر الموقف التركي، لا بتفاصيلها (تسليح وتدريب وتنسيق وعدم اهتمام بكون «حزب العمال الكردستاني» مصنفاً إرهابياً حتى من الجانب الأميركي) وإنما بأهدافها بعيدة المدى التي أحجم الأميركيون عن توضيحها أو إعطاء إيضاحات وضمانات مكتوبة أو شفوية بشأنها. لذلك اعتبرت تركيا أن أميركا لا تعاملها كحليف بل تساوي بينها وبين «تنظيم إرهابي»، وبالتالي فإنها لا تكترث بما تشكّله من خطر على أمنها القومي. بالمقابل حصلت أنقرة من الجانب الروسي على اعتراف بـ «مصالح» لها في سوريا، ما لم يعترف به «الناتو» ولا واشنطن في أي وقت.
صحيح أن الأزمة السورية هي التي قادت تركيا إلى هذا المنعطف الذي قد ينهي علاقة خاصة عمرها اثنتان وستون عاماً مع الكتلة الغربية، إلا أن إدارة أردوغان نفسه للتدخّل في تلك الأزمة هي التي خلقت الصعوبات لتركيا تحديداً بسبب دورها في تسمين «داعش» والرهان عليه قبل أن ينقلب عليها. ولم تكن مصادفة أن يشهد عام 2014 النقاش الأوسع في تركيا وخارجها حول الجدوى من وجود تركيا في «الناتو»، وهو النقاش الذي تصاعد وسخن أخيراً على وقع الرهان الصعب الذي يخوضه أردوغان لتغيير المعادلة، أي أن يبقى في «الناتو» ويتسلّح من الغرب وروسيا في آن واحد.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد