أحمد عبدالعليم - باحث دكتوراه في العلوم السياسية
تُعد قارة إفريقيا ذات أهمية عالمية متزايدة في ظل ما تمتلكه من موارد طبيعية كبيرة، وموارد بشرية هائلة، ما يجعلها دائمًا محطّ أنظار العديد من دول العالم والشركات متعددة الجنسيات التي تسعى لاستغلال تلك الموارد، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام محاولة استشراف مستقبلها من خلال رصد وتحليل الجوانب الاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع الجوانب السياسية والاجتماعية، من أجل وضع رؤية متكاملة يمكن من خلالها تَلَمُّس مسارات التنمية الشاملة بها.
وفي هذا الإطار، يأتي تقرير "رؤية للقارة الإفريقية في المستقبل: خرائط التغيير، التحوُّلات والمسارات نحو 2030"، الصادر عن المعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية (ISPI)، والذي يحاول أن يستشرف مستقبل القارة من خلال استعراض بعض المؤشرات الهامة. وقد تناول العامل الديموغرافي والاقتصادي، واستعرض أبرز التحديّات أمام تحقيق انطلاقةٍ قويةٍ للقارة الإفريقية. ويشارك في التقرير عدد من الباحثين المتخصصين في الشأن الإفريقي.
مؤشرات هامة:
يُشير التقرير إلى أن الحديث عن القارة الإفريقية، باعتبارها صورة للفقر والصراع، هو حديث لم يعد واقعيًّا أو معبرًا بشكل كامل. وفي مقابل ذلك، يمكن الإشارة إليها باعتبارها "القارة الصاعدة".
فعلى الرغم من وجود العديد من التحديّات التي تعوق التنمية؛ إلا أن ذلك لا ينفي وجود فرص كبيرة لإحراز تقدم أكثر من أي وقت مضى، سواء كان ذلك بالنسبة للسكان المحليين في القارة، أو حتى للأجانب الذين يريدون الاستثمار فيها، ليس فقط لوجود ثروات هائلة، لكن أيضًا لوجود مليار مستهلك غير مُستَغلَّين في ظل تضاعف عدد الأفارقة من 229 مليون نسمة في عام 1950 إلى 1,2 مليار نسمة اليوم. وتعود تلك الزيادة بالأساس إلى الانخفاض الحاد في معدلات وفيات الرضع، وارتفاع معدلات الخصوبة بشكل كبير بمتوسط 7,6 أطفال لكل امرأة، وهو أعلى معدل خصوبة في العالم.
ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد إلى 2,5 مليار نسمة بحلول عام 2050، بما يعادل ربع سكان العالم. وسوف تشكل القارة الإفريقية وحدها 65% من معدل النمو السكاني العالمي خلال السنوات الخمس والثلاثين القادمة. كما أن القوى الديموغرافية في القارة سوف تتجه صوب دول، مثل: الكونغو، وتنزانيا، وبوركينافاسو، وذلك بعد سيطرة بعض الدول، مثل: مصر، ونيجيريا، وإثيوبيا.
وفيما يتعلق بالشباب، يُشير التقرير إلى أنه بحلول عام 2050 سيظل متوسط عمر القارة دون الخامسة والعشرين، وسيكونون متعطشين للطاقة وللموارد، وهو ما يعني أن القارة سوف تصبح أبرز محركات الاستهلاك العالمي. ومن المتوقع زيادة الرقعة الحضرية بمعدل نمو قدره 3%، وسيؤدي تدفق السكان للمدن إلى ظهور مدن ضخمة مليونية تضم سكانًا أعدادهم ستتجاوز 10 ملايين مواطن، جنبًا إلى جنب مع ظهور مراكز حضرية متوسطة الحجم، مما يعني إجمالًا تراجع أهمية المناطق الريفية مقارنة بالحضرية بالنسبة لحياة الأفارقة في المستقبل.
ويُبرز التقرير أنه بالرغم من ارتباط الحياة الحضرية ارتباطًا إيجابيًّا بالتنمية؛ إلا أن أكثر سكان الحضر في إفريقيا -في الوقت الحالي- يعيشون في أحياء فقيرة. ومن المتوقع أن يصل إلى ثلاثة أضعاف الحجم الحالي بحلول عام 2050، مما يدلل على أن الزيادة السكانية لا ترتبط إلا بشكل جزئي بالثروة.
ويُشير التقرير إلى أن عشر دول من القارة الإفريقية ضمن عشرين دولة حول العالم من المتوقع أن يحقق اقتصادها أعلى معدلات نمو خلال الفترة من عام 2018 حتى عام 2022. ومن أبرز تلك الدول الإفريقية: إثيوبيا، وكوت ديفوار، وغانا. وبالتالي فإن هناك مستقبلًا واعدًا للعديد من بلدان القارة الإفريقية.
وكانت بلدان القارة الإفريقية قد حققت نموًّا اقتصاديًّا بمعدل غير مسبوق بلغ 5% في الفترة من عام 2000 حتى عام 2014. وهو نمو استمر على مدار فترة زمنية طويلة وممتدة. وكذلك شمل عددًا كبيرًا من بلدان القارة، وتنويعات مختلفة من القطاعات الاقتصادية، ليس فقط في الطاقة والمعادن، ولكن أيضًا في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والزراعة، وهو ما يؤكد أننا أمام إفريقيا الناشئة التي تحتاج إلى مزيد من الجهد من أجل تعزيز الفرص المتاحة ومواجهة التحديّات القائمة.
تحديات قائمة:
يُبرز التقرير أن عدم دقة ووضوح مسارات التنمية التي تبنتها القارة الإفريقية خلال الفترة الماضية، كان له تأثير في خلق بعض التجمعات والكيانات الإقليمية التي لا تُحقق تكاملًا متكافئًا على مستوى القارة، مثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AFCFTA).
وفي ضوء ذلك، يجادل "برندان فيكرز" (أحد المشاركين في التقرير) بأنه من أجل تحقيق تكامل حقيقي، فعلى قادة القارة عدم الاكتفاء بالبيانات النظريّة والخطابيّة، إذ من الضروري معالجة التحديات على أرض الواقع، التي من أبرزها: القصور الهائل في البنى التحتية، وتداخل العضويات في المجموعات الاقتصادية الإقليمية المختلفة، وهو ما يؤثر بشكل سلبي على القدرة التنافسية الإقليمية والعالمية. ويرى أنه إذا كان هناك تخطيط وتنفيذ دقيق للمناطق التجارية الإقليمية بشكل علمي، ووفق معطيات واقعية تعالج التحديات؛ فإنها من المتوقع أن تحقق مكاسب هائلة تصل إلى نحو 35 مليار دولار سنويًّا بحلول عام 2022.
ويتناول "مايكل مينجس" تحديات أخرى تواجه القارة الإفريقية، وهي تحديات متعلقة بالتجارة الإلكترونية في ظل الفجوة التكنولوجية الكبيرة بين القارة الإفريقية والعالم، حيث إن التقنيات الرقمية المتقدمة -مثل الإنترنت- لا يزال يتفاعل معها نسبة صغيرة مقارنة بإجمالي عدد السكان الضخم للقارة، وذلك بسبب محدودية الإمكانيات، وضعف القدرة على تحمل التكاليف.
ومع ذلك، يشير "مينجس" إلى أن القارة تشهد انتشارًا للابتكارات التكنولوجية الأقل تقدمًا، أي ذات الصلة بالهواتف المتحركة لا الهواتف الذكيّة. وقد ساعد على ذلك الاستثمارات الخاصة والأجنبية في مجال الاتصالات، وهي أعلى من أي قطاع آخر بالقارة، حيث بلغ معدل انتشار الهاتف المحمول بين سكان القارة 78% في عام 2017.
الاستقرار الأمني:
يُشير "كليوناده رالي" إلى أنه منذ عام 2010 لوحظت زيادة العنف في القارة، غير أنه لم يعد كما كان في العقود السابقة متمثلًا في الحروب بين بعض الدول، لكنه تغيّر وبات على مستوى الفاعلين المسلحين من غير الدول.
ويفسر "رالي" ذلك بوجود ضعف في العمليات السياسية المحلية، وهشاشة منافسة النخب الرئيسية، مما زاد من وتيرة العنف والتطرف العنيف والشغب والاحتجاجات، وهو ما يظهر في الأنظمة الاستبدادية والأقل استبدادًا في القارة على حدٍّ سواء.
ويُبرز الباحث جغرافيا هذا العنف المسلح عبر توضيح تجمُّع غالبية النزاعات المسلحة بشكل متزايد في منطقة تمتد عبر نيجيريا ومالي وجنوب السودان والصومال إلى الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى وبوروندي في الجنوب. وفي ضوء ذلك، تفاعلت الدول الإفريقية مع الجهود الدولية من أجل مواجهة العنف، وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، وذلك عبر إنشاء تحالفات عسكرية متخصصة، مثل: قوة تحالف الساحل (G5)، وفرقة العمل المشتركة متعددة الجنسيات في حوض بحيرة تشاد.
حركة الهجرة:
يشير "ريتشارد ماليت" إلى أن العوامل الديموغرافية والصراع لا يمثلان سوى نسبة بسيطة من الحركة عبر الحدود، فقد ثبت أن الضغط السكاني، لا سيما من الشباب، لم يكن في المرتبة الأولى كمحرك رئيسي للهجرة خارج القارة، حيث إن (86%) من الهجرة الدولية في إفريقيا ليست لها علاقة بالصراع.
كما يُبرز "ماليت" أنه يُنظر إلى ارتفاع نسب الفقر -بشكل عام- على أنه أحد الأسباب الرئيسية للهجرة خارج الحدود؛ إلا أن ذلك لم يتحقق في القارة الإفريقية، حيث إن أفقر البلدان بالقارة لديها مستويات منخفضة للغاية من معدلات الهجرة. ويُعتبر المحدِّد الرئيسي في حركة الهجرة هي سلوكيات دول المقصد، أو الدول التي يتم الهجرة إليها، حيث إن سياسات تلك الدول العامة والاقتصادية المتعلقة بالوصول إلى سوق العمل بها، ومدى وجود أنظمة جيّدة متعلقة بالهجرة؛ هي المحرك الرئيسي لهجرة الأفارقة خارج الحدود.
وتتقاطع هذه الرؤية مع ما تطرحه "سارة دي سيمون"، حيث تتناول الهجرة خارج الحدود بالقارة من زاوية التنمية البشرية، حيث توضح أن التعليم له تأثير على طموحات وقدرات الفرد، مثل فهم فرص العمل وسوق العمل بشكل جيد. وبالرغم من ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي في إفريقيا منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن التعليم الثانوي والعالي لم يَنْمُ بالقدر نفسه.
وقد أدى ذلك -بحسب "دي سيمون"- إلى زيادة اكتساب سكان القارة لمهارات القراءة والكتابة والحساب، دون أن يتجاوز ذلك إلى مهارات أخرى، وأنه بالرغم من هذ القصور فإن ارتفاع مستويات الالتحاق بالتعليم الابتدائي من شأنه أن يُعزز حرية اختيار الأشخاص، بما في ذلك خيار الانتقال إلى فرص حياة أفضل، والسعي إلى سوق العمل خارج الدولة.
التعاون الأوروبي الإفريقي:
يُقدّم الباحث "جيوفاني كاربوني"، والباحثة "تيزيانا كوردا"، نظرة عامة على مجالات الأولوية في التعاون الإيطالي مع القارة الإفريقية، والتي تدور أساسًا حول النمو الاقتصادي والسلام والأمن والتنمية البشرية. حيث يُرجعان لأسباب جغرافية وتاريخية أفضلية مناطق شمال إفريقيا والقرن الإفريقي للأنشطة الاقتصادية الإيطالية التي تضاعفت خلال العقد الماضي بشكل كبير حتى بلغت القيمة الاستثمارية الإجمالية لها حوالي 40 مليار دولار في عام 2016.
كما يُشيران إلى تنوّع طبيعة المؤسسات الإيطالية، ما بين مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم إلى مؤسسات وشركات كبيرة الحجم، وأنه جنبًا إلى جنب مع ذلك الدور الاقتصادي الكبير فإن هناك دورًا آخر أمنيًّا لإيطاليا التي زاد وجودها الأمني في القارة خلال السنوات القليلة الماضية عبر نشر المزيد من القوات، وتقديم تدريب محدد بهدف تحسين السيطرة على طرق الهجرة والاتجار بالبشر، سواء عن طريق البر أو البحر.
وبجانب الدور الحكومي وعبر الوكالات الحكومية في التنمية البشرية في مجالات مختلفة مثل الصحة والتعليم، فإن هناك دورًا آخر لمنظمات المجتمع المدني الإيطالية، حيث إن التنمية البشرية كانت دائمًا مجالًا أساسيًّا للمشاركة بين إيطاليا والبلدان الإفريقية، وقد زاد الاهتمام مؤخرًا بها لمعالجة حركة الهجرة الإفريقية باتجاه القارة الأوروبية.
ختامًا، يؤكد التقرير أن مسارات التنمية التي تتبناها البلدان الإفريقية مليئة بالتحديّات المتنوعة، ولكنها -في المقابل- مليئة بالفرص المتاحة التي يجب أن يتم استغلالها بالشكل الأمثل، وأنّ ذلك لن يتأتّى إلا بوعي حقيقي من القيادات الإفريقية والجهات الفاعلة بها، علاوةً على دور الشركاء الخارجيين، سواء كانوا دولًا أو منظمات وشركات دولية، وإن تحقق ذلك فإن القارة الإفريقية يمكن أن تصبح مكانًا متكاملًا ومزدهرًا على النحو المُبيَّن في وثيقة خطة التنمية للاتحاد الإفريقي بحلول عام 2063.
المصدر:
Giovanni Carbone (Ed.), A vision of Africa’s Future: Mapping Change, Transformations and Trajectories towards 2030, (Milan: Institute for International Policy Studies, October 2018).