اتخذت تركيا مؤخراً عدداً من الإجراءات التصعيدية في مواجهة كل من تنظيم "داعش" داخل تركيا وضد مواقعه في سوريا، وكذلك مواجهة الأكراد بالداخل التركي ممثلين في حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا.
وتأتي هذه الإجراءات التصعيدية ضد تنظيم "داعش" بعد الاتهامات التي وُجِهت لتركيا من قبل المعارضة الداخلية وعدد من القوى الإقليمية والدولية" بدعم التنظيم والتساهل مع المقاتلين الذين يعبرون حدودها للقتال بجانب التنظيم، كما يأتي التصعيد ضد الأكراد بعد عملية السلام الداخلي التي تبنتها حكومة حزب العدالة والتنمية لحل المشكلة الكردية؛ الأمر الذي يثير التساؤلات حول أسباب تحول السياسة التركية تجاه "داعش" وحزب العمال الكردستاني، وأهداف أردوغان وحكومة حزب العدالة التنمية من هذا التصعيد وتداعياته.
مظاهر التصعيد التركي ضد "داعش" والأكراد
بعد الرفض التركي الانخراط في التحالف الدولي ضد "نظيم "داعش" بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ورفض الطلب الأمريكي باستخدام قواعدها الجوية العسكرية، خاصة قاعدة إنجرليك القريبة من الحدود السورية، في ضرب مواقع التنظيم بسوريا والعراق، استهدفت طائرات إف 16 التركية مواقع "داعش" شمالي سوريا، لاسيما في محافظة حلب. كما قامت المدفعية التركية طويلة المدى بقصف مواقع للتنظيم؛ مما أدى إلى تدمير عدد من قواعد التنظيم وقتل خمسة من عناصره. ووافقت تركيا على استخدام التحالف الدولي لقواعدها العسكرية الجوية في هجماته ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، بما فيها قاعدة "إيجرليك".
وفي تطور خطير يهدد بنسف عملية السلام وعودة المواجهات الدامية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، قامت الطائرات الحربية التركية بقصف مواقع لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق؛ وهو ما دفع بحزب العمال الكردستاني لإعلان انتهاء الهدنة مع تركيا، ودعا "جميل باييك" أحد قادة حزب العمال الكردستاني الأكراد إلى تنظيم صفوفهم والتسلح للمرحلة المقبلة.
وعلى المستوى الداخلي، شنت أجهزة الأمن التركية عمليات أمنية متزامنة في 22 ولاية تركية أسفرت عن القبض على 320 شخصاً بتهم الانتماء للتنظيمين الإرهابيين "حزب العمال الكردستاني" وتنظيم "داعش" وعدد من التنظيمات اليسارية.
الأهداف الداخلية للتصعيد التركي
جاءت تلك الإجراءات التصعيدية من قبل الحكومة التركية نتيجة مجموعة من التطورات الأمنية الخطيرة التي شهدتها تركيا مؤخراً، والتي مثلت تهديداً للأمن القومي التركي، حيث:
1 ـ قام تنظيم داعش بهجوم انتحاري في مدينة "سوروتش" بجنوب تركيا الواقعة على بعد 10 كيلومترات من مدينة عين العرب السورية (كوباني)، استهدف احتفالاً أقامه شباب مؤيدون للأكراد تابعين لـ"اتحاد روابط الشباب الاشتراكي"، وكانوا يستعدون لاجتياز الحدود للمساعدة في إعادة إعمار مدينة عين العرب، مما أسفر عن مقتل حوالي 30 وجرح 100 آخرين. كما هاجم تنظيم "داعش" عدداً من الجنود الأتراك على الحدود مع سوريا بولاية "كيليس"، ما أسفر عن مقتل ضابط وإصابة جنديين تركيين.
2 ـ تبني "حزب العمال الكردستاني" عملية قتل شرطيين تركيين بمدينة "جيلان بينار" جنوب شرق تركيا قرب الحدود مع سوريا، رداً على الهجوم الانتحاري الذي وقع بمدينة سوروتش، كما شنت عناصر تابعة للحزب هجمات ضد عدد من المنشآت الشرطية في كل من ولايتي "هكاري" و "ديار بكر" جنوب شرق تركيا، مما أدى لإصابة 9 عناصر من الشرطة التركية.
ويمكن القول إنه على الرغم من تعرض تركيا لهذه التطورات الأمنية الخطيرة التي دفعتها إلى اتخاذ تلك الإجراءات التصعيدية في مواجهة "داعش" والأكراد، فإن الحكومة التركية والرئيس أردوغان قد سعيا إلى العمل على تحقيق بعض الأهداف الداخلية والخارجية أيضاً.
على المستوى الداخلي، يسعى أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية إلى تحقيق الأهداف التالية:
1 ـ زيادة شعبية حزب العدالة والتنمية بالداخل التركي، خاصة لدى القوميين الأتراك وجذب الناخبين القوميين المحافظين الذين صوتوا لحزب الحركة القومية في حال إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، مما يمكن العدالة والتنمية من الحصول على الأغلبية المطلقة، وبالتالي تشكيل الحكومة منفرداً.
2 ـ رغم إعلان حزب الحركة القومية رفضه الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب العدالة والتنمية وبقاءه في المعارضة، فإن أردوغان وحزب العدالة والتنمية يحاولان ضمان تصويت حزب الحركة القومية لصالح الحكومة التي قد يشكلها العدالة والتنمية منفرداً حال فشل المفاوضات التي تجرى حالياً مع حزب الشعب الجمهوري العلماني لتشكيل حكومة ائتلافية أو إرغام حزب الحركة القومية على الدخول في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية، بحجة مواجهة الصعود الكردي بالداخل التركي وبالشمال السوري والتهديدات التي تواجه تركيا من قبل تنظيم داعش.
ويدعم ذلك الموقف الذي اتخذه حزب الحركة القومية أثناء انتخاب رئيس البرلمان التركي، حيث رفض حزب الحركة القومية التصويت لمرشح الشعب الجمهوري بحجة أنه مدعوم من الأكراد، مما مكن مرشح العدالة والتنمية "عصمت يلماز" من الفوز برئاسة البرلمان.
3 ـ توريط حزب الشعوب الديمقراطية الذي يمتلك 80 مقعداً في البرلمان في العنف الدائر في تركيا بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، سواء بالتأييد (اتخاذ الحزب مواقف مؤيدة أو مبررة لممارسات حزب العمال الكردستاني) أو بالفعل (تورط أحد عناصره في هجمات إرهابية)؛ مما يقلل من شعبيته في الشارع التركي أو يصبح مهدداً بالحل من قبل المحكمة الدستورية بتهمة تأييد منظمة إرهابية ممثلة في حزب العمال الكردستاني.
4 ـ الدفع باتجاه إجراء انتخابات برلمانية مبكرة بحجة أن تركيا لا تتحمل وجود حكومة ائتلافية أو حكومة أقلية تفتقد للأغلبية البرلمانية في ظل الأزمات والتهديدات التي تمر بها تركيا، وهو ما قد يدفع عدداً كبيراً من الناخبين الأتراك إلى التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية حتى يتمكن من تشكيل حكومة أغلبية تضمن استمرار تحقيق الإنجازات الاقتصادية وتحافظ على أمن الدولة التركية.
5 ـ معالجة التداعيات السلبية الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تزايد أعداد اللاجئين السوريين بتركيا، والذين يبلغ عددهم حوالي 2 مليون لاجئ، من خلال إعادة توطين بعض اللاجئين السوريين بالشمال السوري عبر إقامة منطقة أمنة.
الدوافع الخارجية للتصعيد التركي
على المستوى الخارجي، يسعى أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية إلى تحقيق الأهداف التالية:
1 ـ منع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الموالي لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا من إقامة منطقة حكم ذاتي بشمال سوريا بموازاة الحدود التركية، خاصة بعد نجاح قوات حماية الشعب الكردية التابعة له بمساعدة ضربات الطائرات الأمريكية من السيطرة على مدينة عفرين في شمال غرب سوريا ومدينة كوباني في شمال وسط سوريا، والجزيرة في شمال شرق سوريا، وسعيه لربط المناطق الثلاث ببعضها البعض.
2 ـ إقامة منطقة آمنة بشمال سوريا تمتد لمسافة 100 كيلومتراً وبعمق 30 كيلومتراً من مدينة أعزاز في الغرب إلى مدينة جرابلس في الشرق، يعيش بها اللاجئون السوريون تحت حماية قوات المعارضة السورية المعتدلة، حيث ستمثل تلك المنطقة نقطة انطلاق لهجمات المعارضة ضد النظام السوري وتنظيم "داعش"، بما يحقق هدف تركيا في الإطاحة بنظام الأسد.
3 ـ السعي لتحرير منطقة "جرابلس" الموجودة بين منطقتي "عفرين" وكوباني" في سوريا والواقعة على بعد 70-80 كيلومتراً من الحدود التركية لتصبح تحت سيطرة المعارضة السورية بدلاً من سيطرة تنظيم "داعش" أو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري عليها، وما يمثله ذلك من تهديداً لأمن تركيا.
تداعيات التصعيد التركي ضد "داعش" والأكراد
ربما تترك الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها الحكومة التركية في مواجهة "داعش" والأكراد تداعياتها السلبية على الداخل التركي من خلال احتمال عودة الصراع الدامي بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وإمكانية تعرض تركيا لمزيد من الهجمات من قبل تنظيم "داعش"، خاصة أن الهجمات الأخيرة للتنظيم في تركيا والعناصر التي تم القبض عليها بتهمة الانتماء لـ "داعش" تشير إلى وجود خلايا نائمة للتنظيم داخل تركيا.
كما أن الانخراط العسكري التركي في سوريا قد ينعكس بالسلب على علاقات تركيا بروسيا وإيران الداعمين الأساسيين لنظام بشار الأسد في سوريا، خاصة في حال توغل قوات برية تركية في سوريا لفرض منطقة آمنة، وهو ما قد يدفع روسيا لاستخدام ورقة الطاقة كأداة للضغط على تركيا التي تشتري أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي والنفط من روسيا.
ورغم ما يثار عن احتمالية توغل تركيا برياً لفرض منطقة آمنة بالشمال السوري، فإن أن هذا الأمر من المستبعد حدوثه في الوقت الحالي، وذلك لارتفاع تكلفة هذا السيناريو وعدم قدرة تركيا على تحمل تداعياته داخلياً في ظل عدم وجود حكومة تتمتع بالأغلبية البرلمانية، وخارجياً بالدخول في مواجهة مع إيران وروسيا، فضلاً عن عدم وجود تحمس أمريكي لتلك الفكرة، ليقتصر الأمر على الضربات الجوية والمدفعية كأحد أشكال الدعم للمعارضة السورية التي تقاتل نظام بشار الأسد وتنظيم "داعش".