بعد أسبوع من توقيع الاتفاق النووي بين القوي الكبرى وإيران في 14 يوليو الجاري، جاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر إلى المنطقة، والتي شملت بالترتيب الزمني: إسرائيل، والأردن والسعودية، ثم العراق وإقليم كردستان، في زيارة لم يعلن عنها مسبقاً، وفي سياق "مهمة مزدوجة" تستهدف في المقام الأول تأكيد محاولات إدارة الرئيس أوباما ـ"طمأنة" حلفائها، وتقليص مخاوفهم بشأن التداعيات المحتملة للاتفاق النووي على دور إيران في المنطقة، وتهدف في المقام الثاني إلى "تنشيط" استراتيجية محاربة "داعش"، التي أعلنها الرئيس أوباما في خريف العام الماضي، لاسيما عقب سيطرته على مدينة الموصل العراقية في 10 يونيو 2014.
وكان كارتر صرح قبيل وصوله إلى المنطقة أنه "يهدف إلى مناقشة الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة "العدوان" الإيراني في المنطقة، وكذلك محاربة تنظيم "داعش".
أولاً: طمأنة الحلفاء بعد الاتفاق النووي
أثار توقيع الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران عاصفة من القلق لدى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، خاصة دول الخليج العربية وإسرائيل والأردن؛ فإذا كان الاتفاق يفرض قيوداً قوية على الأنشطة النووية الإيرانية لمدة تتراوح ما بين 15 إلى 25 عاماً، فإنه ليس من المعروف ما هو المسار المحتمل لهذه الأنشطة، في ظل مخاوف من احتمالات سعي إيران لمواصلة طموحاتها في الحصول على القنبلة النووية، بعد الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج، والتي تتراوح ما بين 100 إلى 120 مليار دولار.
وهذا الأمر سوف يساعد إيران على تمويل أنشطتها، سواء لحيازة الأسلحة النووية أو لتوسيع تدخلاتها الإقليمية، لاسيما بعدما أكد علي خامنئي، خلال خطبة صلاة عيد الفطر في 17 يوليو الجاري، أن بلاده "لن تغير سياستها في مواجهة السياسة الأمريكية المتغطرسة"، ولا سياستها لدعم "أصدقائها" بالمنطقة.
وكانت إسرائيل وصفت الاتفاق مع طهران بأنه "خطأ تاريخي"، إذ ترى تل أبيب أن الاتفاق لا يمنع إيران من التحول إلى دولة تمتلك أسلحة نووية، لكنه يؤجل ذلك فقط؛ وهو ما يعرض "أمن ووجود" إسرائيل للخطر.
وفي هذا الإطار، جدد وزير الدفاع الأمريكي في تل أبيب التأكيد على أن أمن إسرائيل من أمن الولايات المتحدة، وأنه سيظل يحتل سلم الأولويات في واشنطن، وأن قدرة الدفاع الإسرائيلية ستبقى مضمونة، مع التشديد على أن بلاده ستراقب نشاطات طهران عن كثب، واصفاً إسرائيل بأنها "صديق حاسم وحليف حاسم"، وأن الولايات المتحدة معنية بالحفاظ على تفوق إسرائيل النوعي.
وأكد كارتر على أن الاتفاق النووي مع إيران لا يمنع الخيار العسكري "الواقع تحت مسؤوليتي"، وأن "للولايات المتحدة وإسرائيل التزاماً مشتركاً لمواجهة النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة"، مضيفاً "سنستمر في العمل مع إسرائيل وشركاء آخرين في المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني، حتى ونحن نفعل المثل بخصوص مواجهة داعش".
وتتمثل أبرز التطمينات الأمريكية بتقديم أحدث الأسلحة وأكثرها تعقيداً لإسرائيل، وفي مقدمتها طائرات "إف – 35" الأحدث في الأسطول الأمريكي.
وفي العاصمة الأردنية عمان، أكد كارتر أن "واشنطن لن تتخلى عن الدول الصديقة لها، لاسيما في محاربة "داعش" وأمن الحدود"، في ظل الحديث المتزايد عن نية الأردن في إقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا لحماية نفسها من الجهاديين.
كما ستشكل هذه المناطق الآمنة ملاجئ للنازحين السوريين، التي يمكن أن تتوافر فيها الإغاثة الإنسانية، وإعادة فتح المدارس، وتجنيد وتدريب القوات المقاتلة من المعارضة، بمساعدة وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية.
وفي العاصمة السعودية الرياض، حرص كارتر على تهدئة المخاوف السعودية عبر إعادة تأكيد جدية واشنطن في إقامة منظومة الدرع الصاروخية المشتركة لحماية الخليج، وتقديم ضمانات أمنية واسعة النطاق وتكثيف المناورات العسكرية المشتركة، وبحث التعاون في مجالات الأمن الإلكتروني والبحري، التي تشمل حرية الملاحة في مضيقي البحر الأحمر (باب المندب) والخليج (هرمز)، والتأكيد على عزم الولايات المتحدة التصدي للمتطرفين على غرار "داعش".
وقد تزامنت زيارة كارتر مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في 19 يوليو الجاري، التي أكد فيها أن "الاتفاق مع إيران مبني على الحذر والمراقبة وليس على الثقة"، وأن طهران كانت "عدواً للولايات المتحدة في الماضي.. ومازلنا أعداء ولسنا حلفاء أو أصدقاء".. نحن ما زلنا خصمين وهناك الكثير من القضايا العالقة".
وشدد كيري على أن المرحلة المقبلة ستشهد تنسيقاً بين واشنطن وحلفائها الخليجيين لـ"ضمان أمن المنطقة"، مشيراً إلى أن "الأولوية الأولى مكافحة تنظيم داعش ومواجهة المتطرفين في المنطقة وضمان شعور حلفائنا وأصدقائنا بأمان أكبر".
وأكد كيري في حوار مع صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية في 22 يوليو الجاري أن "إيران ستبقى معزولة بسبب دعمها للإرهاب، وبسبب دعمها لتجارة السلاح، ودعمها للحوثيين، ودعمها لحزب الله (اللبناني)، لأنه منظمة إرهابية، وسنصد التحركات التي تدعمها (إيران) في دول أخرى".
وكشف كيري أن لقاءه المرتقب في 3 أغسطس المقبل مع نظرائه في دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة يهدف إلى إطلاعهم على "كافة تفاصيل الاتفاق النووي"، إضافة إلى التنسيق معهم حول وضع استراتيجية لـ"صد تحركات إيران غير المشروعة في المنطقة".
ثانياً: العراق ومحاربة "داعش"
في زيارة مفاجئة إلى بغداد، وهي الأولى له منذ تسلمه منصب وزير الدفاع في فبراير الماضي، أكد كارتر استعداد بلاده "للقيام بالمزيد" في مواجهة تنظيم داعش، بشرط إعادة تأهيل القوات العراقية وإثبات جدارتها.
وكان كارتر أبدى امتعاضه من أداء الجيش العراقي بعد انسحابه من مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار، إثر هجوم "داعش" في 17 مايو الماضي، معتبراً أن سقوط المدينة التي صمدت نحو 18 شهراً أمام هجمات التنظيم كان بسبب عدم وجود "رغبة بالقتال" لدى القوات العراقية.
وكانت خسارة عاصمة المحافظة ضربة لحكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وللاستراتيجية الأمريكية التي أعلن عنها الرئيس أوباما العام الماضي، والقاضية بإضعاف وتدمير تنظيم "داعش".
لكن كارتر، الذي اجتمع مع ستة من زعماء العشائر خلال زيارته الأخيرة لبغداد قد فرض شرطاً أساسياً على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يكمن في دعم العشائر وتسليحها بنسبة لا تقل عن تسليح الميليشيات، وأبدى كارتر استياءه حيال التعامل الطائفي مع تلك العشائر، على الرغم من ثقلها العسكري على الأرض وأهميتها في التصدي لداعش، مؤكداً للعبادي أن الكونجرس يضغط باتجاه هذا الموضوع، ويرى في تهميش العشائر إرادة إيرانية لمنع تكوين أي قوة سنّية في العراق، قد تكون لها تأثيرات سياسية مستقبلاً.
وبلغ عدد مقاتلي العشائر المقدر بنحو 30 ألفاً لا يتلقون أي دعم من الحكومة العراقية، ويقاتلون بإمكاناتهم المتاحة لهم. وقاموا أخيراً بحملة تبرّعات داخل المساجد ودواوين العشائر لشراء أسلحة خاصة بهم، فضلاً عن العتاد.
وفي المقابل أثني كارتر بشكل واضح على قوات البشمركة الكردية خلال زيارته كردستان العراق، معتبراً أنها "النموذج" الأفضل لقتال تنظيم "داعش"، مؤكداً أن الاستراتيجية الأمريكية تسعى إلى تعميم هذا "النموذج" في سوريا، منوها بـ"نجاحات" البشمركة الميدانية التي حققتها بالتنسيق مع الولايات المتحدة والقوة الجوية للتحالف.
وتركز الولايات المتحدة على تدريب ثلاثة ألوية من البشمركة، بالإضافة إلى ستة ألوية من الجيش العراقي، بهدف استعادة المناطق التي يسيطر عليها "داعش"، ويشدد المسؤولون الأمريكيون على مشاركة حوالي 3 آلاف من الجنود العراقيين الذين دربتهم واشنطن في الهجوم المرتقب ضد "داعش" لاستعادة الرمادي، في محاولة لزرع الثقة في جدوى استراتيجية الرئيس أوباما لهزيمة "داعش"، لأنها المرة الأولى التي يتم خلالها نشر قوات مدربة على يد المستشارين الأمريكيين لشن هجوم كبير في العراق.
وتأمل الإدارة الأمريكية أن تسفر عملية نشر القوات التي دربتها عن إشارات تدل على استعادة مكانة الجيش العراقي عند السنّة بعد تراجعه أمام تنظيم "داعش"، كما أن المعركة المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً حول مدى كفاءة وحدات الجيش التي تدربها واشنطن منذ العام الماضي، إذ لم تقم هذه الوحدات حتى الآن بأكثر من مهمات دفاعية.
ثالثاً: تركيا تحارب "داعش"!
تزامنت زيارة كارتر إلى بغداد وأربيل في سياق مساعي واشنطن لدعم استراتيجيتها في محاربة تنظيم "داعش"، مع تطور "نوعي" مفاجئ سيغير "قواعد اللعبة" في محاربة التنظيم الإرهابي، تمثل في انضمام تركيا للحرب ضده، على خلفية حدثين هامين:
الأول، قيام مواطن كردي تركي، عضو في تنظيم "داعش"، تدرب في قواعدها في العراق، بعملية انتحارية في مدينة سوروج التركية في 20 يوليو الجاري، وتسبب في مقتل 30 شخصاً معظمهم من الأكراد، ما أدى إلى تغير موقف تركيا التي كانت تشترط سابقاً لدعم التحالف الدولي في محاربة "داعش"، إقامة منطقة حظر جوي ومنطقة آمنة داخل الأراضي السورية، تمهيداً لإطاحة نظام بشار الأسد.
والثاني، إجراء الرئيس أوباما اتصالاً هاتفياً بنظيره التركي أردوغان في 23 يوليو الجاري، اتفقا فيه على "تكثيف المعركة ضد "داعش"، وتعزيز جهودهما المشتركة من أجل القضاء على تدفق المقاتلين الأجانب الذين يتوجهون عبر تركيا للانضمام لتنظيم "داعش"، وكذلك إيجاد حل سياسي للنزاع في سوريا".
وهذا الاتصال جاء تتويجاً لاتفاق تركي ـ أمريكي، جرى التفاوض عليه مؤخراً بين الجنرال جون آلن، مبعوث أوباما الخاص لمحاربة "داعش"، والقيادة التركية، تنص أبرز بنوده على انضمام تركيا بقوة إلى التحالف الدولي (60 دولة) ضد "داعش"، الذي تقوده الولايات المتحدة منذ خريف العام الماضي.
ويقضي هذا الاتفاق بين واشنطن وأنقرة بفتح قاعدة "إنجرليك" وباقي القواعد العسكرية الجوية التركية المهمة، أمام سلاح الجو الأمريكي وعدد من طائرات الدول المشاركة في التحالف، لضرب قواعد "داعش"، ما يوفر على طائرات التحالف قطع ألفي كيلومتراً، هي المسافة التي تحتاجها للانطلاق من حاملات الطائرات في مياه الخليج إلى أهدافها.
وفي المقابل ستلبي واشنطن طلبات أنقرة في إقامة منطقة عازلة تم الاصطلاح على تسميتها: منطقة خالية من داعش محمية بحظر الطيران، على ألا يتمّ اعتبارها منطقة آمنة أو عازلة، لتجنّب استفزاز الدول الداعمة للنظام السوري، كروسيا وإيران، والتأكيد على أن العمل العسكري الأمريكي ـ التركي في الأراضي السورية موجّه في هذه المرحلة ضد "داعش"، لا ضد النظام السوري.
وسوف تمتد المنطقة الخالية من التنظيم في ريف حلب، بين كل من مدينتي جرابلس ومارع بطول 98 كيلومتراً وعمق 40 كيلومتراً، وسيتم تطبيق منطقة حظر الطيران عند الضرورة. وبحسب الاتفاق، ستقوم بالمهمة حينئذ الطائرات الأمريكية المتواجدة في قاعدة إنجرليك، كما سيتم استخدام الصواريخ التركية متوسطة المدى في حال احتاج الأمر.
وثمة احتمالات بوجود صفقة كبيرة بين أنقرة وواشنطن حول مستقبل الأزمة السورية تشمل منح أولوية لمحاربة "داعش" وقبول حل سياسي انتقالي يشرف عليه الرئيس السوري بشار الأسد، بحجة استمرار الحرب على "داعش"، في مقابل تعهد واشنطن ألا يكون الأسد جزءاً من التسوية النهائية في سوريا.