لم يجد أبناء الشعب الفلسطيني في مواجهة الضربات التي مست أغلى مقدساتهم، أي القدس الشريف، في ظل انقسام نخبتهم السياسية وتفكك نظامهم العربي، سوى الانتفاض في وجه سلطات الاحتلال، وهو انتفاض بلغ ذروته فيما عُرِف بمسيرات العودة التي وصلت أوجها تزامناً مع الذكرى السبعين لتأسيس إسرائيل ونقل السفارة الأميركية فيها إلى القدس. وقد ترتب على ذلك سقوط ما يزيد على ستين شهيداً في يوم واحد. وعادة ما يوجه البعض انتقاداته إلى هكذا أعمال متذرعاً بأنها لا تعدو أن تكون أسهل وسيلة لإزهاق أراح الأبرياء دون جدوى مع التنديد بالنخب السياسية التي تحرض على هذه الأعمال وتوظفها لمصالحها الضيقة، ويتجاهل هذا المنطق أن القانون الدولي يقر بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال بما في ذلك المقاومة المسلحة، فما بالنا بالمقاومة المدنية التي يصل أقصى عنفها إلى قذف المحتلين بالحجارة فيما يمطرونهم بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي المحرم دولياً. ويتجاهل هذا المنطق كذلك أن الحراك الشعبي الفلسطيني هو الذي أتى بأفضل النتائج في النضال من أجل استرداد الحقوق، فمن الصعوبة بمكان النظر إلى اتفاقية أوسلو التي رغم عيوبها الفادحة كانت الوثيقة التي اعترفت إسرائيل بموجبها بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير كممثل شرعي له بعيداً عن «انتفاضة الحجارة» التي تفجرت أواخر 1987 ولم تنكسر حدتها إلا بعد كارثة غزو الكويت والموقف الفلسطيني الرسمي الخاطئ منها. كذلك فإنه من غير الممكن النظر إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة في 2005 وتفكيك المستوطنات المحيطة بها في سابقة هي الأولى من نوعها دون ربط هاتين الخطوتين بانتفاضة الأقصى التي تفجرت في سبتمبر 2000 ودامت حتى فرضت ذلك التطور النوعي في سلوك الاحتلال.. وفي هذه المرة من الواضح للعيان أن «مسيرات العودة» قد ضخت الدماء في الحراك الدبلوماسي العربي.
ومعلوم أن الموقف الدبلوماسي العربي من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل على صحته قد اقتصر، كما بدا في اجتماعات مجلس وزراء الخارجية العرب، على رفض القرار الأميركي وإدانته والتأكيد على وضع القدس الثابت بموجب مبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ولم يكن من شأن هذا وحده أن يحرك المياه الراكدة في القضية الفلسطينية، غير أن الحراك الشعبي الفلسطيني الغاضب والشجاع كان مناسبة جديدة لفضح السلوك الإجرامي للاحتلال الإسرائيلي، إذ لا تسعفني ذاكرتي بجريمة تضمنت قتل هذا العدد من الفلسطينيين العزل في يوم واحد منذ بدأت جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين إبان تأسيس إسرائيل. ولم يكن ممكناً بحال السكوت على هكذا جريمة، لذلك دعت السعودية إلى اجتماع طارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب انعقد الخميس الماضي وانتهى بمطالبة مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان بتشكيل لجنة تحقيق دولية في أحداث غزة.
ومعلوم أن مجلس الأمن مرتهن للفيتو الأميركي، لكن مجلس حقوق الإنسان انعقد في اليوم التالي مباشرة حيث وُجهت انتقادات حادة لإسرائيل وتم تبني مشروع قرار أدان الاستخدام غير المناسب والعشوائي للقوة من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية لاسيما في قطاع غزة، كما دعا القرار إلى إرسال «لجنة تحقيق دولية مستقلة» للتحقيق في «جميع انتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان الدولي بهدف تحديد الحقائق والظروف المحيطة» بالانتهاكات المقترفة، بما فيها تلك التي قد ترقى إلى جرائم حرب. ومن المهم أن 29 دولة قد وافقت على المشروع ولم تعارضه سوى دولتين، هما الولايات المتحدة وأستراليا فيما امتنعت 14 دولة عن التصويت.
وقد يُقال: وما الجدوى من تحقيق لا يُفضي إلى عقوبة ملزمة، غير أن قراراً كهذا هو جزء من عملية تاريخية تراكمية لمواجهة الكيان الصهيوني وفضحه لزيادة عزلته وتقويض المقوم المعنوي لدولة إسرائيل ذاتها لدى شعبها ويهود العالم على النحو الذي يُسَهل إجبارها على التسليم بالمطالب الفلسطينية العادلة، لاسيما عندما ترتبط الإنجازات الدبلوماسية بنضال فلسطيني حقيقي ومساندة عربية فاعلة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد