لم تشهد الانتخابات الرئاسية الروسية أية مفاجآت غير متوقعة، حيث حسم الرئيس "فلاديمير بوتين" السباق الانتخابي لصالحه بفارق كبير عن أقرب منافسيه، لتبدأ الولاية الرابعة له في خضم الجدل حول خليفته في الفترة الرئاسية المقبلة، فالصراع بين النخب السياسية بدأ مبكرًا نتيجة غموض مسارات انتقال السلطة في موسكو، واحتمالات قيام "بوتين" بتعديل الدستور لتولي الرئاسة لفترة جديدة، أو دعم مرشح من بين المقربين منه، على غرار دعمه للرئيس الروسي السابق "ديمتري ميدفيديف" في عام 2008.
صدارة متوقعة:
تمكَّن "بوتين" من حصد ما يقدر بحوالي 76.66% من إجمالي أصوات الناخبين، وهو ما أتاح له الفوز بفترة رئاسية جديدة دون الحاجة لخوض جولة ثانية، وهو الرقم الذي يفوق عدد الأصوات التي حصل عليها في عام 2012، حيث حصل على ما يقدر بحوالي 66.3%، وجاء في المركز الثاني "بافل جرودينين" المرشح عن الحزب الشيوعي بنسبة 11.80% فيما حصل مرشح حزبه "جينادي زوجانوف" على ما يقدر بحوالي 17.18% في انتخابات عام 2012، وحصل زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي "فلاديمير جيرينوفسكي" على المركز الثالث بما يقدر بحوالي 5.66% من الأصوات مقارنة بـحوالي 6.22% خلال انتخابات 2012.
وحلّت المرشحة عن حزب المبادرة المدنية "كسينيا سوبتشاك" في المركز الرابع بنسبة 1.68%، وحصل "جريجوري يافلينسكي" المرشح عن حزب "يابولكو" الليبرالي على 1.04%، بينما حصل "بوريس تيتوف" المرشح عن حزب "النمو" على نسبة 0.76% من إجمالي الأصوات، يليه "ماكسيم سورايكين" المرشح عن حزب "شيوعيو روسيا" بنسبة 0.68%، وأخيرًا حصل "سيرجي بابورين" المرشح عن "الاتحاد الشعبي الروسي" على نسبة 0.65%.
دلالات النتائج:
كشفت الانتخابات الرئاسية عن مجموعة من الدلالات الهامة التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- هيمنة الأحزاب الكبرى: لم تختلف نتائج انتخابات 2018 عن سابقتها، حيث لا يزال مرشحو الأحزاب الكبرى الذين يسيطرون على البرلمان أيضًا يتصدرون المراكز الأولى (حزب روسيا الموحدة، الحزب الشيوعي الروسي، الحزب الديمقراطي الليبرالي). بينما لم تتمكن الأحزاب الصغرى من حصد عدد كافٍ من الأصوات، مثل: حزب "يابولكو" الليبرالي، وحزب النمو، والاتحاد العام الشعبي الروسي، وحزب المبادرة المدنية، وحزب شيوعيو روسيا.
2-مواجهة التحديات: تمكن "بوتين" من إدارة الانتخابات بنجاح كبير، وتجاوز التحديات التي تواجه نظامه السياسي، واستطاع اجتذاب عدد كبير من المُصوِّتين، حيث يلاحظ ارتفاع عدد الناخبين المشاركين في هذه الجولة، كما تمكّن من الحد من تداعيات التدخلات الخارجية في الانتخابات الروسية.
3- استعراض القوة: على الرغم من أن روسيا تعاني العديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية جراء العقوبات الغربية، إلا أن "بوتين" تمكن من توظيف ملف السياسة الخارجية في التأثير على الداخل الروسي، لاستمالة أصوات الناخبين، كما حرص على تصدير صورة ذهنية للناخبين عن "بوتين" كمرشح لخدمة الشعب بشكل أساسي، من خلال دخوله في هذه الانتخابات مستقلًّا بعيدًا عن حزبه "روسيا الموحدة" في مواجهة مرشحين يعتمدون بشكل كامل على أحزابهم، وقام بجمع 300 ألف توقيع لقبول ملف ترشيحه كمستقل، في حين أن الدستور الروسي يتيح له الترشح مباشرة دون جمع توقيعات لو اتخذ من حزبه "روسيا الموحدة" إطارًا مؤسسيًّا لترشحه، كما يتيح له خوض الانتخابات بمذكرة تضم 500 مؤيد فقط، من ناحية أخرى، نجح "بوتين" في منع التدخلات الخارجية في الانتخابات ومحاولات الغرب دعم المعارضة، حيث قام بتأخير إعلان ترشحه للانتخابات، وبالتالي حدّ من المظاهرات المناوئة لترشحه.
4- ضعف المعارضة: أخفقت المعارضة الروسية في تقديم نفسها كبديل لـ"بوتين" أو حتى كمنافس حقيقي له، فلم يعد أعضاء "الحرس القديم" لديهم القدرة على التأثير في الناخبين على الرغم من خوض العديد منهم السباق الرئاسي مسبقًا، مثل: "فلاديمير جيرينوفسكي" زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي، و"جريجوري يافلينسكي" زعيم حزب يابولكو الديمقراطي، في ظل خطاباتهم التي تتأرجح بين الشعبوية والتشكيك، وكشفت نتائج الانتخابات عن تراجع ثقة الناخبين في بعض الأحزاب مثل "الحزب الشيوعي الروسي" الذي تراجعت نسبة أصواته في انتخابات 2018 بما يقدر بحوالي 5,38% مقارنة بانتخابات عام 2012.
5- راديكالية الخطاب: تبنى المرشحون الجدد من الشباب الذين خاضوا الانتخابات للمرة الأولى خطابًا سياسيًّا راديكاليًّا، مثل: "كيسنيا سوبتشاك" عن حزب المبادرة المدنية، و"ماكسيم سورايكين" عن حزب "شيوعيو روسيا". فعلى سبيل المثال، طالبت "سوبتشاك" بالاندماج في اقتصاد السوق إلى أقصى حد، وبناء علاقات تحفظ المصالح الغربية، بينما طالب "سورايكين" بالعودة للاقتصاد الاشتراكي وتأميم المؤسسات الكبرى، دون أن يأخذوا في حسبانهم طبيعة البيئة السياسية الداخلية الحالية، وقد ساهموا بهذا الخطاب الراديكالي بشكل غير مباشر في فوز "بوتين" بالانتخابات.
6- صعود المصالح الفئوية: لم يستطع كل من "سيرجي بابورين" عن حزب الاتحاد الشعبي العام الروسي، و"بوريس تيتوف" عن حزب النمو القيام، بصياغة برنامج انتخابي واضح ومقنع للناخبين، حيث ركز كل منهما على بعض الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وذلك لأنهما يمثلان مصالح فئوية، فمثلًا "بابورين" يمثل التيار الحقوقي، بينما يمثل "تيتوف" مصالح رجال الأعمال، ومن ثم لم يكن واضحًا الشق السياسي في برنامجيهما، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو ما أدى إلى حصولهما على نسبة ضعيفة من الأصوات.
7- إخفاق دعوات المقاطعة: لم تنجح دعوات معسكر "البحث عن بديل"، المتمثل في الملياردير "ميخائيل خودروكوفسكي"، والمحامي "أليكسي نفالي"، للتظاهر في الميادين ومقاطعة الانتخابات، إذ أظهرت النتائج مشاركة 67% من الناخبين مقارنة بـ65,24% في الانتخابات السابقة، وذلك بالرغم من غياب منافس حقيقي لـ"بوتين"، واستمرار حالة الركود الاقتصادي في روسيا.
8- غياب البديل: يواجه النظام الروسي معضلة حقيقية تتمثل في صعوبة إيجاد بديل قادر على قيادة البلاد بعد الفترة الرئاسية الحالية، وهو ما قد يدفع "بوتين" إلى دعم بعض الشخصيات التي يمكن أن تخلفه بعد انتهاء مدته الرئاسية
خليفة "بوتين":
يرتبط نجاح أي نظام سياسي بقدرته على إنتاج البدائل بشكل مستمر، وهو ما يتطلب من صانعي القرار في روسيا التفكير بشكل جدي في مجموعة من البدائل القوية لمواجهة سيناريو غياب "بوتين" عن السلطة. وفي هذا الإطار، يمكن طرح عدة سيناريوهات لترتيبات ما بعد عام 2024 التي ستشهد انتهاء ولاية "بوتين" الثانية، مع ملاحظة أن الدستور الروسي لا يتيح الترشح لأكثر من ولايتين متتالين:
1-التعديلات الدستورية: قد يقوم "بوتين" بتعديل الدستور الروسي ليتيح له الترشح لولاية ثالثة في عام 2024، وهو الأمر الذي يتطلب الحصول على تأييد شعبي كبير، بالإضافة إلى احتمالية تصاعد هجوم المعارضة عليه في حال طرح هذا الأمر.
2-التغيير من الداخل: قد يقوم "بوتين" بإتاحة الفرصة لبعض المقربين منه للترشح بدلًا منه في انتخابات 2024، وفي هذا الإطار تطرح بعض الأسماء كبدائل محتملة لـ"بوتين" مثل وزير الدفاع "سيرجي شويجو"، ووزير التنمية الاقتصادية "مكسيم أوريشكين"، والرئيس التنفيذي لشركة روسنفت الروسية للطاقة "إيجور سيتشين"، ورئيس الوزراء الروسي "ديميتري ميدفيديف".
3- استقالة "بوتين": يطرح بعض المحللين سيناريو آخر وهو استقالة "بوتين" خلال مرحلة معينة من ولايته الرابعة بعد التأكد من ترتيب السلطة لخليفته، وهو سيناريو مستبعد بعض الشيء.
ختامًا، نجح "بوتين" في تصدر الانتخابات الرئاسية لعام 2018، وحصوله على نسبة من الأصوات أعلى من كافة التوقعات، وسيسعى خلال الفترة المقبلة لاستعادة مكانة روسيا كقوة عظمى، مع التركيز على تحديث برنامجها النووي وترسانتها العسكرية في إطار برنامج التحديث العسكري (2016 - 2025)، دون إغفال تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.