أطاحت انحيازات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإسرائيل، دفعة واحدة بكل المراهنات، أو التوهّمات، التي حكمت القيادة الفلسطينية، منذ ربع قرن، أي منذ توقيعها اتفاق أوسلو (1993)، إن في شأن انتهاجها خيار عملية التسوية، كخيار وحيد، أو في شأن رهانها على الولايات المتحدة، كراع نزيه لهذه العملية، إذ بدا أن تلك القيادة فقدت فجأة عالمها الذي اعتادت عليه، لا سيما ما يتعلق بالتغطية السياسية والمالية لوجود السلطة.
هذا ما يمكن استنتاجه من خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام مجلس الأمن الدولي (20/2)، الذي تضمن اعترافات صريحة ومهمة تخصّ واقع السلطة الفلسطينية (وهذه ليست المرة الأولى)، لا سيما ما جاء في قوله: «أصبحنا سلطة بدون سلطة وأصبح الاحتلال بدون كلفة، نحن نعمل عند الاحتلال...فلتتحمّل إسرائيل مسؤولياتها كقوة احتلال... بالضفة وغزة، أما أن يبقى الوضع على ما هو عليه، فهذا غير مقبول».
بيد أن الحديث بهذه الدرجة من الواقعية والجرأة لا يغطّي حقيقة أخرى مفادها أن القيادة الفلسطينية ذاتها مسؤولة، أيضاً، عمّا وصلت إليه، بحكم خياراتها وطريقة عملها، وبحكم أنها لم تنتقد النهج الذي سارت عليه. مثلاً، فهي التي وقعّت اتفاق أوسلو (1993)، من دون الارتباط بقرارات المرجعية الدولية، التي أضحت تطالب بها الآن، هذا أولاً، ثانياً، هي التي رضخت لقبول مرحلة الحكم الذاتي الانتقالي، وتأجيل البتّ بالقضايا الأساسية (اللاجئون- القدس- المستوطنات- الحدود- الترتيبات الأمنية) إلى مرحلة ثانية من المفاوضات، تاركة الأمر لمزاج إسرائيل أو «كرم» أخلاقها، التي تبيّنت عن أوهام خطيرة ومكلفة. ثالثاً، هي التي استمرت على خيار»أوسلو»، منذ ربع قرن، في حين أن إسرائيل تملّصت منه (منذ 1999) برفضها تنفيذ استحقاقات الحل الانتقالي، وبإصرارها على فرض املاءاتها في القضايا الأساسية المذكورة، كما ظهر من مواقفها المتعنّتة في مفاوضات كامب ديفيد2 (2000). رابعاً، هي التي وضعت رهاناتها على الولايات المتحدة، باعتبارها لها راعياً نزيهاً ووسيطاً محايداً وضامناً موثوقاً لعملية «السلام»، وهي التي أقلعت عن ذلك الآن بسبب مواقف ترامب، رغم أن كل الرؤساء الذين سبقوه لم يقوموا بما عليهم من أجل الضغط على إسرائيل، ولو بالوسائل الناعمة. ويلفت الانتباه إلى أن تلك القيادة لم تفعل شيئاً (إبان توقيع أوسلو) للطلب من الولايات المتحدة إزالة اسم منظمة التحرير من قوائم الإرهاب، ووقف الجدل الذي كان يدور منذ ذلك الوقت (أواخر الثمانينيات) في الكونغرس في شأن الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل.
حسناً، لقد انقشعت أوهام تلك القيادة، بعد زمن طويل، لكن الوضع الفلسطيني نتيجة تلك الأوهام أو الرهانات الخاطئة بات مقيداً، وبالغ الهشاشة، إذ لم يعد قادراً على حمل أية توجهات أو خيارات جديدة أو مغايرة، إذ إنه في غضون تلك الفترة (ربع قرن)، تم تهميش منظمة التحرير، واستبعاد اللاجئين من معادلات الصراع ضد إسرائيل، واختزال قضية فلسطين بالأراضي المحتلة، والكفاح الفلسطيني بالمفاوضات، وحقوق الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة في جزء من أرض فلسطين (22 في المئة)، كأن الصراع بدأ مع إسرائيل منذ احتلالها الضفة والقطاع.
وباختصار فإن القيادة الفلسطينية أسهمت في تسهيل واقع من الاحتلال المريح، بل والمربح، لإسرائيل، مع علاقات التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، وفي وضع باتت فيه السلطة مدينة لهذا المسار السياسي، أو مثقلة به، بحكم وجود حوالي ربع مليون موظف، في السلكين المدني والأمني، وباعتماديتها على المساعدات الخارجية المتأتية من الدول المانحة، سيما من الولايات المتحدة، ومن العوائد الضريبية التي تجبيها إسرائيل من تجارة الأراضي المحتلة، والتي تقوم بالامتناع عن تسليمها أحيانا في سياق ضغطها على السلطة.
على أي حال، نحن إزاء صحوة بعد زمن قدره ربع قرن، مع كل ما مرّ من تطورات خطيرة، وأثمان مدفوعة، وجهود ضائعة، ومع استشراء الاستيطان، وبناء الجدار الفاصل، وترسيخ الهيمنة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، لذا يمكن طرح السؤال الآتي: ترى كم كانت وفّرت تلك القيادة من جهودها ومن تضحيات شعبها؟ أو كيف كان يمكن أن يكون الوضع لو أنها ركزت جهودها في معارك مفيدة ومجدية لو أنها قالت ما تقوله الآن، في شأن الحسم في قضايا الاستيطان والحدود والقدس؟
المهم الآن، أن تلك القيادة باتت تدرك بأنها أضحت اليوم في مواجهة عدة خيارات، لكن المشكلة هنا، أيضاً، أنها لم تهيئ ذاتها، ولا شعبها لخيارات بديلة أو موازية، بخاصة في وضع لا تبدو فيه الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل) قادرة على حمل أية مهمات أو مواجهة أي تحديات جديدة. والأهم من كل ذلك أن المحيط العربي والدولي لا يوجد فيه ما يشجّع الفلسطينيين على قلب الطاولة، أو الخروج عن التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، لا موسكو ولا باريس، إذا استثنينا توظيف الفلسطينيين في المناكفات السياسية الدولية، إذ إن معظم المداولات، مع الأطراف الدولية، في هذا الاتجاه أكدت أنه لا يمكن العمل من دون الولايات المتحدة.
بناء على ذلك، فقد يكون الأجدى للقيادة الفلسطينية، وبالنظر إلى تدهور أحوال المشرق العربي، انتهاج سياسات من شأنها تفويت الفرصة على إسرائيل القيام بأي عمل من شأنه التسهيل عليها إطاحة الكيان الفلسطيني، أو تغيير المعادلات السياسية والديموغرافية القائمة في القدس وفي الضفة الغربية. وربما أن الخيار المتاح، أو الأنسب، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة، إنما يتمثل في الالتفات إلى إعادة بناء البيت الداخلي (المنظمة والسلطة والفصائل) وباقي الكيانات الوطنية الجمعية، لأنه من دون بني قوية وصلبة، وقائمة على قواعد مؤسسية وديمقراطية وتمثيلية، لا يمكن لأي رؤية سياسية أن تصمد، بانتظار ظروف أخرى أفضل وأنسب للفلسطينيين في مقاومتهم العنيدة والمضنية ضد إسرائيل.
لذا ففي مثل هذه الأوضاع والمعطيات ليس سهلاً على الفلسطينيين انتهاج خيارات بديلة، كما لا يمكن وضع وصفات جاهزة، بعد كل ما حصل. ومثلاً، لا يمكن مقاطعة أو صدّ المطالبة الدولية باستمرار المفاوضات، لكن الرد على ذلك يكون بتسليم الملف التفاوضي للأمم المتحدة، وتحت رعايتها، ووفقاً للقرارات التي أصدرتها، وليس ممكناً إنهاء علاقات التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية مع إسرائيل، وفك تشابكات البني التحتية معها، لكن مطلوب انتهاج سياسات من شأنها تنمية اعتمادية الفلسطينيين على ذاتهم، وعلى مواردهم، وتطوير كياناتهم السياسية والمجتمعية. أيضاً، ليس من مصلحة الفلسطينيين حلّ السلطة، وإنما المطلوب تغيير وظائفها، بالتحرر من تبعات اتفاق أوسلو، الذي انهته إسرائيل منذ قرابة عقدين، والتحول إلى سلطة مهمتها إدارة المجتمع الفلسطيني، وتعزيز صموده وتنمية قدرته على صدّ سياسات إسرائيل الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية. وعلى الصعيد الذاتي، يفترض تعزيز الجهود لإعادة بناء الكيانات الفلسطينية، أي المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية، على أسس وطنية وتمثيلية وديموقراطية ومؤسسية وكفاحية، وضمن ذلك عقد اجتماع للمجلس الوطني، في مكان متفق عليه، بعد تجديد عضويته، بالقطع مع عقلية المحاصصة الفصائلية («الكوتا»)، لأن الوضع بات يتطلب إعادة تعريف الفصائل، بعد أن تآكل عديد منها، لا سيما التي لم يعد لها مكانة عند شعبها ولا في مواجهة إسرائيل، واعتماد العضوية في المجلس بناء على الكفاءة والأهلية المهنية والتمثيل، والانتخاب حيث أمكن ذلك. وأخيراً، فإن كل ذلك يفترض التحرر من الانحصار في الخيار السياسي الأحادي، المتمثل بالدولة في الصفة والقطاع، بالانفتاح على خيارات موازية، وضمنها خيار الدولة الواحدة الديموقراطية، دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، في كل أشكالها، في كل فلسطين، باعتبار ذلك الحل الأجدى والأنسب للمسألتين الفلسطينية واليهودية في فلسطين، وعلى أساس تقويض الصهيونية ومختلف تجلياتها الاستعمارية والعنصرية والاستيطانية والأمنية والأيديولوجية، إذ إسرائيل تصارعنا على كل شبر في الضفة والقدس، وباعتبار أن أية تسوية لابد ان تنبني على عنصري الحقيقة والعدالة، وعلى التطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين.
*نقلا عن صحيفة الحياة