كشفت قمة مجموعة العشرين الأخيرة عن تفاقم الانقسامات الحادة بين القوى الدولية الكبرى، إذ جاء انعقاد القمة في هامبورج في مطلع يوليو 2017 في خضم الاحتقان بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين حول الانسحاب الأمريكي من اتفاقية التغير المناخي والإجراءات الحمائية التي تعتزم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتخاذها في مواجهة تدفقات التجارة الحرة، بالإضافة إلى الصدام المحتدم بين روسيا والدول الغربية، وانعكست هذه الخلافات على نتائج قمة العشرين التي لم تعالج التباين في مواقف القوى الكبرى، مما سيؤثر سلباً على مستقبل التعاون الاقتصادي العالمي.
إشكاليات التعاون الدولي:
شهدت آفاق التعاون الدولي عدداً كبيراً من الإشكاليات في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي أدى إلى تصاعد التوقعات بتأثر البنية السياسية والاقتصادية للنظام العالمي الراهن، وتزايد احتمالات حدوث تغيرات في هيكل النظام الاقتصادي العالمي لتعويض تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها وتزايد الخلافات بين القوى الكبرى حول قضايا التجارة الدولية والتغير المناخي والتنمية الاقتصادية، وتتمثل أبرز هذه الإشكاليات فيما يلي:
1- الانسحاب الأمريكي: شهد النظام العالمي انقساماً غير معتاد حول مسائل التعاون الدولي، لاسيما فيما يتعلق بقضيتي تغير المناخ وحرية التجارة العالمية قبل انعقاد قمة العشرين بهامبورج بعدة أشهر، وذلك على خلفية تخلي الولايات المتحدة الأمريكية منذ بدايات عام 2017 عن تعهداتها السابقة، سواء بدعم خفض الانبعاثات الكربونية أو تعزيز الانفتاح التجاري، فخلال يونيو الماضي، أعلن الرئيس دونالد ترامب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، والتي لم يمض على توقيعها أكثر من عامين.
وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت موقع الراكب المجاني، حيث ستعتمد بطبيعة الحال على إجراءات خفض الانبعاثات التي تتخذها الدول الأخرى.
وفي اتجاه مضاد للانفتاح التجاري العالمي أيضاً، أقر في يناير الماضي أيضاً الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ بدعوى حماية مصالح الشركات الأمريكية وكذلك العمالة الوطنية، وهي الخطوة التي اعتبرها العديد من المحللين تهديداً لحلفاء وشركاء الولايات المتحدة على المستوى السياسي والاقتصادي.
2- تفاقم الصراعات: يبدو أن الصراعات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط في طريقها للتصاعد على الرغم من الجهود والمبادرات الإقليمية والدولية المبذولة لتسويتها، كما لا تزال الصراعات محتدمة في مناطق أخرى في العالم مثل: أوكرانيا، بالإضافة إلى النزاعات الإقليمية الناشئة بين الصين وجيرانها، فضلاً عن التهديدات الراهنة لكوريا والشمالية وإيران للبلدان المجاورة لهما.
3- تباطؤ النمو: أدى المناخ العالمي المضطرب والصراعات الدولية المتصاعدة، بالإضافة إلى عوامل أخرى، مثل تراجع أسعار السلع الأولية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سبباً في ترجيح تباطؤ تعافي كثير من الاقتصادات العالمية، لاسيما الاقتصادات النامية. وبحسب صندوق النقد الدولي فمن المتوقع أن يحقق الاقتصاد العالمي نمواً متواضعاً بمقدار 3.5% في عام 2017 ولكنه صعوداً من 3.1% في العام الماضي.
قضايا قمة العشرين:
تناول البيان الختامي لقمة العشرين بهامبورج العديد من الموضوعات التي أكدت استمرار اضطلاع القوى المشاركة بدورها في تعزيز العولمة وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي العالمي، بالإضافة إلى التنمية المستدامة وتحسين المستوى المعيشي لسكان العالم.
وتنفيذاً للأهداف السابقة، وضع بيان القمة مجموعة من الآليات التي يستهدف تحقيقها على المديين المتوسط والطويل، وحظيت بعض الأهداف الموضوعة باتفاق دولي مثل: مكافحة الفساد، وتنمية الريف، وتنظيم المشاريع النسائية، في حين أثارت بعض القضايا جدلاً بين الدول المشاركة في القمة ويمكن إبرازها فيما يلي:
1- التغير المناخي: أظهر بيان قمة العشرين الجدل الدائر حول اتفاقية باريس للمناخ، والذي برز في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية في يونيو الماضي، حيث اعترف البيان وربما للمرة الأولى بأنه لا يمكن التوصل إلى توافق في الآراء حول هذه القضية، وأشار البيان إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ أدى إلى تراجع واحد من أهم الداعمين لهذه القضية.
ومع ذلك، أكد البيان في الوقت نفسه ضرورة استكمال مهمة القوى المشاركة في تخفيف انبعاثات الكربون من خلال عدد من الآليات
منها: زيادة الابتكار على نحو مستدام والطاقات النظيفة والكفاءة في استخدام الطاقة، وربما سينحصر الدور الأمريكي في قضية التغير المناخي بحسب البيان عند حدود التعاون مع البلدان الأخرى لمساعدتها على الوصول إلى الوقود الأحفوري بشكل أكثر نظافة وكفاءة، وهو إشارة إلى طموحات ترامب في تعزيز صادرات الغاز الطبيعي.
2- التدابير الحمائية: وبخلاف القضية الخلافية السابقة، يبدو أن بيان القادة أوجد حلاً توفيقياً نظرياً حول مسائل حرية التجارة، حيث أشار إلى أهمية دعم النظام التجاري العالمي القائم بجانب مواصلة الجهود نحو الحد من جميع الممارسات التجارية غير العادلة من خلال الأدوات الاقتصادية المختلفة. ولم يوضح البيان كيف سيتم التعامل مع التهديد الأمريكي المستمر بزيادة التدابير والإجراءات الحمائية مما سيؤدي إلى ضعف النظام التجاري العالمي.
بيد أن أحد النتائج الجيدة التي توصل إليها البيان في هذا الصدد، أنه أعاد التأكيد على ضرورة فض الاشتباك بين سياسات الإنتاج المحلية والتجارة العالمية وما يرتبط بها من ممارسات الإغراق، وعالج البيان قضية الطاقات الزائدة في القطاعات الصناعية كالصلب، على سبيل المثال، وما يمكن أن تسببه من آثار سلبية على الإنتاج والتجارة والعمال.
3- الشراكات التنموية: استمراراً لتعهدات القمم السابقة بدعم الاقتصادات الأقل نمواً، أطلقت القوى المشاركة في مبادرة جديدة تحت مسمى شراكة مجموعة العشرين في أفريقيا G20 Africa من أجل دعم تنمية المجتمعات الأفريقية وتمكين الحكومات الأفريقية في التعامل مع التحديات الاقتصادية التي واجهتها في الآونة الأخيرة.
وفي إطار التعامل مع بعض القضايا الملحة التي تواجه القارة الأفريقية، مثل المجاعات، تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هامش القمة بتقديم 639 مليون دولار على هيئة مساعدات غذائية للدول التي تعاني المجاعة بسبب الجفاف والصراع، وهي الصومال وجنوب السودان ونيجيريا بجانب اليمن.
4- التهرب الضريبي: حاول بيان المجموعة معالجة قضية التهرب الضريبي عبر عدة آليات، منها تبادل المعلومات الضريبية بين الدول، وقد سبق وأثارت القمم السابقة هذه القضية في إطار السعي لعدم تكرار ما يعرف بتسريبات بنما في أوائل أبريل 2016، والتي اتهمت عدداً من الشخصيات العالمية ورجال الأعمال بالتورط في الفساد الضريبي.
وفي هذا الإطار، أكد البيان أهمية تعزيز نظام عالمي للضرائب عادل وشفاف ويدعم تحقيق النمو الاقتصادي. وكمرحلة أولى نحو تحقيق الشفافية المطلوبة، شدد البيان على ضرورة امتثال الدول لمسألة تبادل المعلومات الضريبية بدءاً من سبتمبر 2017 وبحد أقصى سبتمبر 2018، لتتماشى بذلك مع ما توصل إليه اجتماع وزراء مالية دول مجموعة العشرين في الصين في يوليو 2016، عندما بادرت الدول المشاركة بإعداد قائمة سوداء بالدول التي لا تشارك في تبادل المعلومات الضريبية، مع احتمالية اتخاذ إجراءات عقابية ضدها في المستقبل.
تحديات الاقتصاد العالمي:
يمكن اعتبار انعقاد قمة العشرين في هامبورج في ظل الاضطراب الراهن للأوضاع العالمية، فرصة جيدة للنقاش حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية التي لاتزال غير محسومة وتسبب إثارة الخلافات والانقسامات بين القوى الكبرى، وهو ما قد يمهد لتبني حلول يمكن البناء عليها لتسوية الصراعات السياسية أو تعزيز جهود التنمية الدولية المستدامة.
ويظل التزام القوى المشاركة بتعهداتهم خلال القمة هو المحك الرئيسي لنجاح القمة من عدمه، فمن خلال مراجعة القمم السابقة، يتضح أن كثيراً من البلدان المشاركة في هذه القمم لم تلتزم بالتعهدات التي قطعتها، وهو ما تؤكده نتائج دراسة صادرة عن جامعة تورنتو الكندية في يوليو 2017 حول تقييم الامتثال لالتزامات مجموعة العشرين.
حيث أشارت هذه الدراسة إلى أن هناك 213 تعهداً في 19 مجالاً مختلفاً التزم بهم قادة مجموعة العشرين خلال قمة هانجتشو بالصين سبتمبر 2016، ولم يلتزم سوى عدد ضئيل من الدول بتنفيذ هذه التعهدات، فعلى سبيل المثال، نجحت دول، مثل كندا وأستراليا وألمانيا والصين، في تنفيذ تعهداتها بما يعادل حوالي 80%، فيما أخفقت دول أخرى في تنفيذ هذه التعهدات، مثل إيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة.
وختاماً، يمكن القول إن التحدي الرئيسي للقمم السابقة، وهو إخفاقات القوى الكبرى في الامتثال لالتزاماتها، لم يعد هو الأكثر خطورة بعد تصاعد احتمالات قيام الولايات المتحدة بالتخلي عن التزاماتها ضمن العديد من الاتفاقات الدولية، وهو ما سيؤدي لإحداث تغير كبير في مفاهيم العمل الجماعي في مجموعة العشرين، حيث ستتحول بحسب اتجاهات عديدة لآلية جديدة وهي "19+1"، وهو الخيار غير المقبول بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، الذين من المحتمل أن يفقدوا فرصاً اقتصادية وشراكات تجارية واسعة في السوق الأمريكية.