يشعر العربي بالفخر والغضب والألم حين يتابع البطولات التي يسجلها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال. يشعر بالفخر لأن طول الإقامة وراء القضبان لم يكسر إرادة هؤلاء المطالبين بأرضهم وحقوقهم وحريتهم. ببديهيات يزعم العالم أنه لا يقبل انتهاكها.
إنها إرادة السجين تتحدى جلاّدَه مهما برع في القهر وتفنن في التعذيب. ضربات السجين على جدران زنزانته تغتال طمأنينة السجان وتحوله أحياناً سجيناً يرسف في أغلال ظلمه. وأكاد أقول إن قبضات الأسرى تكاد تحقق بإصرارها ما تعجز عنه الفصائل. القبضات تجدد شبابَ الحلم الفلسطيني، في حين تهرم معظم الفصائل تحت وطأة حساباتها الضيقة أو ارتباطها ببرامج تحوّلها أوراقاً في مساومات كبرى.
ويشعر العربي بالغضب لأن حال الأمة لا يسمح بمواكبة إصرار الأسرى على إضاءة مشعل الحرية لوطنهم المحتل. ولأن إسرائيل حققت في السنوات القليلة الماضية انتصاراً تاريخياً مذهلاً ومن دون أن تحارب. كان باستطاعة جنرالات العدو أن يراقبوا بالمناظير انحدار الأمة السريع نحو الهاوية. شطب الجيش العراقي ويقظة الجزر العراقية. شطب الجيش السوري من المعادلة وانسحابه إلى سكب غضبه على قسم من شعبه. لم تعد سوريا خطراً على إسرائيل. صارت خطراً على نفسها وعلى جيرانها الآخرين.
يشعر العربي بالألم لأن القضية المركزية لم تعد مركزية في الاهتمامات العربية والدولية، رغم جهود القمة العربية الأخيرة. مؤلمة هذه الحقيقة وجارحة. لكن هل يجب أن نستمر في إخفاء رؤوسنا في الرمال؟ فرضت ملفات أخرى نفسها على جدول الاهتمامات وتصدّرته. الإرهاب واختراقات الحدود والانقلاب الإيراني والتغيير الديموغرافي والنزاع السني - الشيعي وارتباك دول المنطقة بأكرادها. وواضح أن العالم منشغل اليوم بتطوير أساليب مواجهة الانتحاريين والذئاب المنفردة والشرارات المنطلقة من الدول الفاشلة والمفككة.
المؤسف هو أن مشاهد مأساة الأسرى الفلسطينيين تجري في منطقة تعج بالأسرى. لا نبالغ إذا قلنا إن دول المنطقة تعيش أسيرة شعور عميق بالخوف يتحكم في سياساتها وردود فعلها. خوف على الحدود الدولية التي تتعرض لمحاولة إسقاط حصانتها على أيدي الإرهابيين وعلى أيدي مهندسي الانقلابات الإقليمية. وخوف داخل الحدود من يقظة مشاعر تتجاوز حدود الخريطة أو تقل عنها.
فضحت ويلات السنوات الأخيرة هشاشة الدول. بدت العواصف قادرة على اقتلاع أعمدتها. تحول الشعب مجموعات قلقة ومتصادمة تحتكم إلى النداء العميق لعصبياتها وتفتش عن قوة ضامنة خارج المؤسسات الرسمية. تقدمت فكرة الميليشيات والجيوش الصغيرة والرديفة. جيش لبعض الوطن ضد بعضه الآخر. جيوش صغيرة للفتك والثأر ومحو الملامح لا يحكم سلوكها دستور ولا تعوق حركتها ضوابط. مجموعات أسيرة وجيوش أسيرة.
كشفت أهوال المذبحة السورية ومجريات سنوات الاضطراب الكبير أننا أبناء إقليم لا يزال عالقاً في كهوف الماضي. أيقظ الزلزال الأحقاد والشهوات والأحلام المكبوتة. الدول النائمة على ذاكرة إمبراطورية تتوهم القدرة على تصحيح ما تعتبره ظلماً ألحقته بها مراحل تاريخية سابقة. تصاعدت شراهة التدخل وقلب المعادلات. والدول التي قامت على تسويات عاجلة بين مكوناتها وجدت نفسها في غمار مفاوضات دموية شاقة حول إعادة توزيع الوطن على المكونات. وليس من السهل على الإطلاق القبول بولادة خرائط جديدة للنفوذ داخل الخريطة الواحدة بعد ولائم الدم واستحكام قواميس التنابذ والكراهية.
ندفع اليوم ثمن الإصرار على الإقامة المديدة في الماضي. ثمن قرارات لم نجرؤ على اتخاذها. لو استسلم الفرنسيون والبريطانيون للذاكرة لكانت حروبهم مستمرة حتى الآن. والأمر نفسه بالنسبة إلى الفرنسيين والألمان. الخروج من جروح الذاكرة شرط لا بد منه لبناء سياسة الجسور على أنقاض سياسة الكراهية والجدران.
ندفع اليوم ثمن غياب قرار كبير بالتعايش العادل والآمن بين المكونات الكبرى في الإقليم، أي العرب والفرس والأتراك والأكراد. وثمن غياب قرار بالتعايش العادل والآمن داخل الخرائط نفسها. تصرف القوي كأسير لمنطق القوة وتصرف الضعيف كأسير لمنطق الضعف الذي يكمن ليتحيّن الفرصة. ندفع أيضاً ثمن غياب قرار كبير بالانتماء إلى العصر ومنجزاته ومواثيقه وفكرة الدولة. انتخاباتنا نفسها تنتج أسرى. وجامعاتنا ومدارسنا تنتج أسرى. وشاشاتنا تعمق إقامتنا وراء قضبان معتقداتنا القديمة.
مأساتنا ثقافية قبل أن تكون سياسية. يجرحنا مشهد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. وواجبنا أن نرفع الصوت ضد التكلس الذي أصاب الضمير العالمي. واجبنا أيضاً أن نخاف على أبنائنا وأحفادنا إذا استمر الشرق الأوسط مقيماً في كهوف الماضي بوصفه إقليم الأسرى.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط