مع اقتراب الموعد المحدد للانتهاء من الأهداف الإنمائية الثمانية التي وضعها رؤساء وقادة العالم في عام 2000، والتي يفترض أن يتم إنجازها قبل نهاية عام 2015، يشهد العالم زخماً جديداً لوضع البرنامج الإنمائي لما بعد عام 2015؛ إذ من المقرر أن تقدم كل دولة تقريراً إلى منظمة الأمم المتحدة عن أولوياتها للمرحلة التالية والتحديات المتوقعة، وذلك من خلال التشاور مع الفاعلين الرئيسيين في الدولة، الحكومة وممثلي المجتمع المدني، والقطاع الخاص.
الجديد في هذا السياق أن منظمة الأمم المتحدة تسعى إلى استكشاف اتجاهات الرأي العام العالمي، واعتباره شريكاً أساسياً في عملية المشاورات القائمة حالياً، فقد دشنت منذ مطلع العام الجاري آلية لتطوير التواصل المباشر مع الشعوب، من خلال تصميم استقصاء للرأي، باللغات الست المعتمدة لدى الأمم المتحدة، وأتاحته على شبكة الإنترنت تحت شعار (عالمي My World)، بحيث يمثل نافذة للناس من كافة دول العالم للتعبير عن أولوياتهم المستقبلية، وتحديد القضايا المهمة، والتغيرات التي من شأنها الوصول بالعالم إلى مستقبل أفضل من وجهة نظرهم، كما يمكن المشاركة في الاستقصاء عن طريق رسائل sms ومبادرات التصويت التي تعقدها منظمات المجتمع المدني المحلية. ويتم تحديث النتائج دائماً وإتاحتها إلكترونياً حتى انتهاء موعد التصويت، ووضعها أمام قادة العالم والحكومات المحلية لتطوير أجندة أولوياتها.
وربما يرجع حرص الأمم المتحدة على مشاركة الرأي العام إلى ما شهدته الأعوام الأخيرة من تحركات شعبية متواصلة، تمثلت في أحداث الثورات بالمنطقة العربية، وخروج الاحتجاجات المطلبية ضد إجراءات التقشف المالي في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها، وبروز تظاهرات عديدة تطالب الحكومات بالشفافية ومراقبة أعمالها الاقتصادية والمالية، هذا علاوة على أن عدم تحقيق الأهداف الإنمائية بالصورة المتوقعة يثير الانتباه إلى وجود فجوة بين أولويات النخب الحاكمة والأولويات الحقيقية للشعوب، في ظل إخفاق العديد من الحكومات في تلبية الاحتياجات الفعلية لمواطنيها، وهو الأمر الذي تحاول الأمم المتحدة تجنبه قدر الممكن في التخطيط للأجندة التنموية القادمة.
عناصر الاستقصاء
يطلب استقصاء (عالمي) من الأفراد تحديد أهم 6 قضايا يعتقدون أن من شأنها إحداث أكبر تغيير في حياتهم، وذلك من بين 16 قضية تم استخلاصها من خلال بحوث واستطلاعات الرأي التي تم إجراؤها مسبقاً، والتي تغطي الأهداف الإنمائية للألفية، والتنمية المستدامة، والأمن، والحكم الرشيد، والشفافية. ومن المقرر أن يستمر الاستقصاء في تجميع أصوات الشعوب حتى عام 2015، وسوف يتم إطلاع الأمين العام وقادة العالم على النتائج عند تحضيرهم لخطة التنمية التالية.
وتغطي القضايا المحددة مسبقاً في الاستقصاء الأبعاد التالية: 1 ـ دعم الأشخاص غير القادرين على العمل. 2 ـ حماية الغابات والأنهار والمحيطات. 3 ـ توفير مياه نظيفة ومرافق صحية. 4 ـ توفير الوصول إلى الهواتف والإنترنت. 5 ـ تحسين النقل والطرق. 6 ـ رعاية صحية أفضل. 7 ـ الحريات السياسية. 8 ـ المساواة بين الرجل والمرأة. 9 ـ توفير طاقة آمنة في المنازل. 10 ـ التعليم الجيد. 11 ـ الحماية من الجريمة والعنف. 12 ـ حكومة مستجيبة. 13 ـ اتخاذ إجراءات بشأن التغيير المناخي. 14 ـ فرص عمل أفضل. 15 ـ توفر الطعام وبأسعار معقولة. 16 ـ التحرر من التمييز والاضطهاد. 17 ـ اقترح أولوية (اختياري).
أولويات مواطني العالم
وصل عدد المصوتين منذ طرح الاستقصاء وحتى منتصف مايو 2014 إلى 2,106,880 فرد حول العالم. وزادت نسبة المصوتين من الذكور (54%) بفارق بسيط عن النسبة بين الإناث (45%)، وكانت أكثر الفئات المشاركة في الاستقصاء من الشباب في الفئة العمرية ما بين 16 إلى 30 عاماً، وذلك بنسبة 62%؛ باعتبارهم أكثر الفئات استخداماً لشبكة الإنترنت، ولأنهم أكثر الشرائح تأثراً بالأهداف الإنمائية والأكثر أملاً في صناعة المستقبل الذي تتحدد في إطاره ملامح حياتهم المستقبلية.
من ناحية أخرى زادت مشاركات المواطنين المنتمين للدول ذات المستوى الاقتصادي المتوسط والمنخفض (52%، و29% على التوالي) فهم الأكثر قلقاً على مستقبلهم والأقل ثقة في قدرة الواقع الحالي على توفير المستقبل الذي يطمحون إلى تحقيقه.
أما عن القضايا الست التي حازت على أعلى نسب تصويت، فجميعها يشير إلى أن متطلبات الحياة الكريمة لازالت مفقودة لدى كثير من مواطني العالم، إذ احتلت هذه المتطلبات أولويات التطلعات والآمال التي يطمح إليها العديد من الشعوب، وهي:ـ
1 ـ تحسين التعليم (70%). 2 ـ رعاية صحية أفضل (51%). 3 ـ توفير حكومة مستجيبة (49%). 4 ـ فرص عمل أفضل (48%). 5 ـ توفير مياه نظيفة ومرافق صحية (43.5%). 6 ـ توفير الطعام بأسعار معقولة (42%).
ويلفت النظر هنا إلى أن التعليم لايزال يحظى بثقة الشعوب كأحد أهم محددات الحراك الاجتماعي وتغيير حياة الشعوب إلى الأفضل، وأنه إذا كانت معظم الدول حققت إنجازات مهمة فيما يخص إتاحة التعليم، لكن لا تزال قضية جودة التعليم بحاجة إلى جهود مكثفة وإنجازات أكبر، خاصة أن ثمة توجهاً يسود بين الأفراد، خصوصاً من الطبقة الوسطى، يتعلق بالاستثمار في الذات، وأن الحصول على فرص تعليمية أفضل هو اتجاه راهن للمنافسة بين الشعوب؛ ولذا لم تختلف قائمة الأولويات كثيراً بين الدول الغنية والدول الفقيرة في هذا المطلب، إذ ظلت قضية التعليم هي الأولوية الأولى لكافة الشعوب باختلاف تصنيفاتها.
وبالمثل لم تختفِ أولوية وجود "حكومات أمينة ومستجيبة" من قائمة الدول المتقدمة والغنية، بل احتلت مرتبة أعلى في أولوياتها مقارنة بالدول الفقيرة، وقد يرجع ذلك إلى أنه كلما وصلت الدول لمراحل متقدمة، كلما زادت توقعات مواطنيها من حكوماتها؛ مما يضعها في موقف ترقب وضغط أكثر، على عكس الدول ذات المستوى الاقتصادي المنخفض التي يبدو أن شعوبها لا تركن كثيراً إلى الحكومة في تحقيق تطلعاتها.
أما بشأن توفير فرص عمل أفضل، فيلاحظ أن هذه الأولوية لم تأتِ بين القائمتين الأمريكية والأوروبية؛ بل حلت محلها أولوية الحماية من الجريمة والعنف؛ وهو ما يشير إلى نجاح هذه الدول بصورة كبيرة في تحسين بيئة العمل إلى حد كبير.
ماذا تريد الشعوب العربية؟
تفاعلت الشعوب العربية مع استقصاء "عالمي"، وتفاوتت أعداد المشاركة من دولة لأخرى، حيث زاد عدد المشاركين في اليمن (123875)، والأردن (40077)، ومصر (13789)، بينما انخفضت المشاركة في سوريا (604)، وليبيا (485).
ولم تختلف أولويات الشعوب العربية كثيراً عن القائمة العالمية، مع ملاحظة أن الحماية من الجريمة والعنف كانت من ضمن الأولويات الست الأولى لدى الشعوب العربية، واختلفت الأردن عن بقية الدول فيما يتعلق بأولوياتها الأولى، حيث كانت بها "فرص عمل أفضل"، ودخل ضمن الأولويات الأولى للأردنيين أيضاً "تحسين النقل والطرق"، فيما حل مطلب "توفير حكومة مستجيبة" على رأس أولويات المشاركين من لبنان.
ويلفت النظر إلى أن أولوية "الحريات السياسية" لم تأتِ ضمن الأولويات الست الأولى في دول الربيع العربي؛ مصر، وتونس، واليمن، وليبيا، وحتى سوريا؛ إذ يمكن القول إن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تتعرض لها تلك الدول جعلت الحديث عن الحريات السياسية مجرد رفاهية للمواطنين الذين يسعون إلى تحقيق الاستقرار وتوفير مقومات الحياة الضرورية.
وفي دول الخليج العربية، بلغ عدد المصوتين من السعودية (1878 فرداً) والإمارات (1757 فرداً) لتكونا الأكثر مشاركة من ضمن دول مجلس التعاون الخليجي. ولم تختلف أولويات شعوب الخليج بوجه عام عن الاتجاه العالمي؛ لكن ظهرت ضرورة "الحماية من الجريمة والعنف" كإحدى الأولويات الست الأولى لمواطني الخليج.
وبرز البحث عن "فرص عمل أفضل" باعتباره أكثر أهمية لدى سلطنة عمان، حيث حل مطلب مشكلة البطالة على رأس قائمة الأولويات الست للمشاركين في الاستقصاء. ومن النتائج اللافتة للنظر أيضاً اتجاه المشاركين من البحرين إلى تصعيد أولوية "التحرر من التميز والاضطهاد" ضمن أهم ست أولويات لديهم.
أخيراً، يمكن القول إن هذا الاستقصاء، وبغض الطرف عن وجود بعض الاعتبارات المنهجية التي قد لا تجعل نتائجه على قدر عال من الموثوقية، إلا أنه يقدم مؤشرات مبدئية مهمة حول توجهات ومطالب الشعوب حول العالم، وإنه قد يمثل مدخلاً خلال النصف المتبقي من العام الجاري لأن تقوم كل دولة بتحديد أولويات مواطنيها عبر الوسائل المختلفة لاستطلاعات الرأي، حتى يمكن توفير فرصة للشعوب للمشاركة بشكل أكبر في صناعة المستقبل.
** للاطلاع أو المشاركة في استقصاء My World) ):