بدأت التباينات داخل إيران حول الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع السياسة التصعيدية التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتزايد خلال المرحلة الحالية، وهو ما انعكس في إعلان إيران، في 9 مارس 2017، عن إجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ "هرمز 2" الباليستي البحري، وفي تعمد قواتها البحرية اتخاذ إجراءات استفزازية تجاه بعض القطع البحرية الأمريكية، في بداية الشهر ذاته، على غرار اقتراب فرقاطة إيرانية من سفينة المراقبة الأمريكية "يو إس إن إس إنفينسبل" لمسافة 150 مترًا، بشكل دفع السفينة الأمريكية إلى تغيير مسارها لتجنب وقوع صدام.
ويبدو أن مساحة هذا التباين سوف تتسع تدريجيًّا خلال المرحلة المقبلة، خاصةً في ظل اتجاه إدارة ترامب، خلال الفترة الأخيرة، نحو إلقاء الضوء على النفوذ الإيراني في سوريا أيضًا، وهو ما عبرت عنه المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي، التي أشارت، في 9 مارس 2017، إلى ضرورة إخراج إيران من سوريا، ووضعتها مع حلفائها على قدم المساواة مع إخراج الإرهابيين منها.
رؤيتان مختلفتان:
وقد كشفت التصريحات التي أدلى بها قائد القوة "الجو فضائية" التابعة للحرس الثوري العميد أمير علي حاجي زاده، التي أعلن فيها عن إجراء تجربة ناجحة على الصاروخ الباليستي البحري الجديد في 9 مارس 2017، هذا التباين بوضوح، حيث قال إن "صاروخ إيران الحامل للأقمار الصناعية جاهز للإطلاق، لكن خوف البعض من أمريكا دفعهم لوضعه في المستودع"، مضيفًا أن "بعض المسئولين في الدولة يرون أن حل المشكلات ممكن إذا تم التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية".
هذه التصريحات تحديدًا التي توازت مع استمرار الانتقادات التي يوجهها بعض المسئولين الإيرانيين لأداء حكومة الرئيس حسن روحاني، ومن بينهم المرشد علي خامنئي الذي انتقد مؤخرًا النمو البطيء للاقتصاد والتعويل فقط على الاستثمارات الأجنبية؛ تشير إلى أن ثمة اتجاهين رئيسيين داخل إيران يتبنيان رؤيتين مختلفتين إزاء التعامل مع إدارة ترامب.
الاتجاه الأول، يدعو إلى عدم مقابلة السياسة المتشددة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية بمواقف تصعيدية من أجل تجنب منحها الفرصة لفرض مزيد من الضغوط على إيران، وإفساح المجال أمام إمكانية الوصول إلى تفاهمات معها، على أساس أن ذلك ربما يمثل -وفقًا لرؤيته- الخيار الأكثر إيجابية بالنسبة لمصالح إيران خلال الفترة الحالية.
وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن التصعيد مع الإدارة الأمريكية خلال الفترة الحالية قد يفرض تداعيات سلبية بالنسبة لإيران، إذ إنه يمكن أن يؤدي إلى إجهاض خطة الحكومة لمواصلة الاستفادة من عوائد الاتفاق النووي، من خلال محاولة استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وجذب الشركات والمصارف الغربية للتعامل مع إيران بعد فترة الغياب التي فرضتها العقوبات الدولية السابقة. وبالطبع، فإن ذلك يمكن أن يحدث في حالة ما إذا اتجهت الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي قد تدفع تلك الجهات الأجنبية إلى العزوف عن الانخراط في تعاملات مصرفية مع إيران خلال المرحلة القادمة، على غرار فرض مزيد من العقوبات بسبب التجارب الصاروخية، أو عدم التزام إيران ببعض البنود الخاصة بالاتفاق النووي.
فضلا عن ذلك، فإن التصعيد مع الإدارة الأمريكية يمكن أن يدفع الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة نفوذ إيران على الأرض، من خلال العمل، مثلا، على تصنيف الميليشيات الحليفة لإيران في سوريا كتنظيمات إرهابية، بما يفترض معه ضمها إلى قائمة التنظيمات التي سوف تتعرض لعمليات عسكرية من قبل التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، إلى جانب كل من تنظيم "داعش" و"جبهة فتح الشام"، وإن كان ذلك لا يبدو خيارًا سهلا في ظل احتمالات رفضه من جانب بعض القوى الدولية على غرار روسيا، التي رغم أنها لا تخفي امتعاضها من الممارسات التي تقوم بها تلك الميليشيات داخل سوريا إلا أنها لا تستطيع على الأقل في المرحلة الحالية الاستعاضة عن دورها الداعم للنظام السوري.
واللافت في هذا السياق، هو أن بعض مؤيدي هذا الاتجاه بدأوا في الترويج لضرورة تجنب المغامرة بالدخول في حرب "غير مرغوب فيها" مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال اتخاذ إجراءات لنزع فتيل التوتر بين الطرفين وعدم الاستمرار في الخطوات الاستفزازية في مياه الخليج، وربما الوصول إلى حلول وسط للخلافات العالقة.
ففي هذا السياق، كان لافتًا أن موقع "ديپلماسی ايرانی" (الدبلوماسية الإيرانية) القريب من بعض الدبلوماسيين الإصلاحيين، وعلى رأسهم نائب وزير الخارجية الأسبق صادق خرازي الذي كان من الشخصيات البارزة التي شاركت في تأسيس حزب "نداء إيران" المعتدل، نشر دراسة مهمة، في فبراير 2017، بعنوان "المنطق الاستراتيجي لحرب غير مرغوب فيها بين إيران وأمريكا في الخليج"، أشار فيها إلى أن تلك النوعية من الحروب تقع نتيجة سوء تقدير من جانب أحد الأطراف، وتتزايد مخاطر تلك الحرب عندما يكون التوتر والصراع هو العنوان الرئيسي للتفاعلات بين طرفيها على غرار طهران وواشنطن، وقدم في نهايتها توصيات عديدة تمثل أبرزها في العمل على فتح قنوات تواصل على المستويين السياسي والعسكري مع واشنطن، من أجل تفادي تحويل أي احتكاك عسكري صغير إلى مواجهة عسكرية مباشرة وواسعة النطاق في مياه الخليج، خاصة في ظل تكرار استفزازات القوات البحرية التابعة للحرس الثوري للقطع البحرية الأمريكية خلال الفترة الأخيرة. إلى جانب بذل مزيد من الجهود من أجل الوصول إلى تسويات للنزاعات الإقليمية المختلفة، على أساس أن ذلك يمكن أن يساعد في تقليص حدة التوتر في العلاقات بين الطرفين، لا سيما في ظل اتجاه الإدارة الأمريكية إلى عدم حصر خلافاتها مع إيران في الاتفاق النووي، وإنما مدها أيضًا إلى ملف دعم إيران للإرهاب، ودورها في زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
إجراءات مضادة:
أما الاتجاه الثاني فينتهج سياسة أكثر تشددًا تقوم على ضرورة اتخاذ مواقف تصعيدية موازية للضغوط الأمريكية التي تفرضها إدارة ترامب، ويبدو أنه يكتسب دعمًا أكبر من جانب القيادة العليا للدولة ممثلة في المرشد خامنئي.
وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن تبني سياسة مرنة في التعامل مع التصعيد الأمريكي سوف يدفع إدارة ترامب إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية المضادة لإيران، وفرض مزيدٍ من الضغوط على الأخيرة، وليس العكس، بما يعني، وفقًا لذلك، أن الخيار الأفضل يتمثل في توجيه رسائل شديدة إلى واشنطن بأن لدى إيران خيارات متعددة للتعامل مع الضغوط التي تمارسها، حتى في حالة اتجاهها إلى رفع مستوى العقوبات المفروضة على إيران، أو تصنيف بعض المؤسسات التابعة لها أو التنظيمات الموالية لها كمنظمات إرهابية.
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن مساحة هذا الانقسام سوف تتسع تدريجيًّا خلال المرحلة القادمة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية، إذ ربما تسعى المؤسسات القريبة من تيار المحافظين الأصوليين إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية من أجل إحراج الرئيس روحاني وفرض ضغوط قوية عليه، لا سيما في ظل إدراكها أن فرص الأخير في الفوز بولاية رئاسية ثانية ما زالت قائمة، خاصة أنه نجح في تأكيد ولائه للمرشد رغم الانتقادات المستمرة التي يتعرض لها من جانب الأخير بسبب تعويله على الصفقة النووية مع القوى الدولية.