قبل ثلاثة أسابيع نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيل مصور، منسوب لما يُعرف باسم تنظيم «الدولة الإسلامية» في مصر، ظهر فيه الإرهابي الذي فجر الكنيسة البطرسية (أواخر العام الماضي)، وهو يدعو الإرهابيين في أنحاء العالم لـ «تحرير» القاهرة!، وإطلاق سراح المعتقلين الموالين للتنظيم، مهدداً بإرسال السيارات المفخخة. فيما هدد عنصر آخر في التسجيل المصور بأن تفجير الكنيسة لن يكون الأخير، مضيفاً أن الأقباط «هدفنا الأول وصيدنا المفضل». بعد هذا التسجيل، هدَّد التنظيم المسيحيين مطالباً إياهم بضرورة مغادرة سيناء، وإلا تعرضوا للقتل. ونفذ التنظيم تهديداته بالفعل من خلال عمليات إحراق وتدمير احدى الكنائس وبيوت المسيحيين، وقتل ثمانية أقباط في مدينة العريش في شمال سيناء بطرق وحشية، ما أدى إلى نزوح حوالى 250 أسرة مسيحية، في موجة تهجير طائفي لم تعرفها مصر في تاريخها الحديث. صحيح أن أغلب المسيحيين في العريش لم يغادروها، إلا أن التنظيم نجح جزئياً في تحقيق الأهداف الرمزية والمعنوية التي كان يسعى إليها، من خلال تكرار الضغط على المسيحيين، والإيحاء بمعاقبتهم نتيجة موقفهم المؤيد للنظام، علاوة على تحدي هيبة الدولة، ومحاولة إثبات عدم قدرتها على حماية مواطنيها.
ومن الواضح أن ما يجري هو محاولة يائسة لاستنساخ أفكار وسلوك «دواعش» العراق وسورية، ولكن في بيئة غير مواتية وظروف مختلفة تماماً، وذلك في ضوء الملاحظات التالية:
أولاً: أن الجماعة الإرهابية في سيناء (ولاية سيناء) تظل جماعة جهوية محصورة في مساحة صغيرة من شمال سيناء، وتحديداً حول مدينتي رفح والعريش، وفي جبل الحلال جنوب العريش، كما تفتقر «ولاية سيناء» الى الجاذبية الفكرية أو الدعائية، فهي لا تملك خطاباً إيديولوجياً متماسكاً يمكن أن ينتشر في ريف ومدن مصر، وأعتقد أن نجاح عملية تفجير الكنيسة البطرسية، أو بث شريط دعائي، أو حتى تغيير اسم التنظيم من «ولاية سيناء» إلى «الدولة الإسلامية في مصر» كما أعلنت أخيراً ... كل هذه الأمور غير كافية لتحقق الجماعة انتشاراً داخل مصر، خصوصاً أن هناك جماعات إسلاموية عديدة منافسة لها، وترفض أفكارها المتطرفة.
ثانياً: لا تحظى «ولاية سيناء» بحاضنة اجتماعية، ربما باستثناء قدرتها على استغلال وتوظيف بعض مشاعر الاستياء لدى بعض أبناء شمال سيناء، والتي تولدت نتيجة سنوات طويلة من إهمال الدولة لهم، وعدم الاهتمام بتنمية سيناء، إضافة إلى المعاناة الاقتصادية وانتشار البطالة في سنوات ما بعد الثورة. ويبدو أن الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضتها الحرب على الإرهاب قد ضاعفت من استياء بعض سكان العريش، وبخاصة بعد وقوع أخطاء وتجاوزات بحق الأهالي.
لكن مؤسسات الدولة في مصر لديها من الخبرات والقدرات ما يمكنها من احتواء هذه الأخطاء غير المقصودة وإصلاحها، ومن ثم لا وجه للمقارنة بين هذه المؤسسات، وحالة شبه الدولة في العراق وسورية التي استغلها «داعش» واستفاد منها. أيضاً لا يعني الفشل في إدارة أزمة المهجرين ونقص المعلومات، أن هناك تقصيراً كبيراً أو متعمداً، لأن الحرب على الإرهاب تدور على جبهة عريضة، وهناك أهداف كثيرة للإرهاب من الصعب على الأجهزة الأمنية حمايتها كلها.
ثالثاً: أن رهانات الإرهابيين على استنساخ تجربة «داعش» وتصديرها الى مصر غير صحيحة، بما في ذلك الرهان على استهداف المسيحيين المصريين أو كنائسهم، فالمسيحيون جزء أصيل من المجتمع المصري، وهم موزعون جغرافياً وسكنياً على كل أنحاء مصر، ويعملون في كل المهن، ولا يوجد تمييز متعمد أو ممنهج ضدهم، والحوادث الطائفية التي تقع أحياناً ذات طابع فردي، وقد يقع مثلها بين المسلمين الذين يمثلون غالبية المصريين.
وقد تعرض المواطنون المسيحيون تاريخياً لضغوط وإغراءات كثيرة منذ الحملة الفرنسية علي مصر سنة 1798، مروراً بمرحلة النفوذ الأجنبي ثم الاستعمار البريطاني، كي يحصلوا على امتيازات، أو يطالبوا بحماية أجنبية، لكنهم رفضوا وكانوا في طليعة الحركة الوطنية، بدعم كامل من كنيستهم. وتلعب الكنائس المصرية دوراً مهماً في دعم الدولة المصرية، باعتبارها دولة القانون والمساواة بين كل المصريين، مسلمين ومسيحيين. من هنا كانت معارضة الكنائس لمحاولة «الإخوان المسلمين» أسلمة الدولة، وأحاديث الرئيس المعزول محمد مرسي عن الأهل والعشيرة، عوضاً عن الحديث لكل المواطنين.
رابعاً: التوقيت السيئ الذي اختارته «ولاية سيناء» الإرهابية لـ «تمصير داعش»، إذا جاز القول، إذ إن داعش الأم يتعرض لضربات قاتلة في العراق وسورية وليبيا، ولم يترك خلفه أفكاراً أو برامج ذات قيمة، حيث إن وجوده المادي والرمزي كان أقوى بكثير من أفكاره. في السياق نفسه توشك «ولاية سيناء» على الزوال، بعد أن تعرضت لضربات قاسية، وحرب استنزاف طويلة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، وانتهت في الأسابيع الأخيرة باقتحام معاقلها في جبل الحلال، وتجفيف منابع التمويل والدعم الخارجي لها، وتجدر الإشارة إلى أن انفراج العلاقات بين مصر و «حماس»، وبالتالي التنسيق مع الأجهزة الأمنية المصرية، قد ساعد في حصار الإرهابيين وإضعافهم.
رابعاً: يبدو أن حالة الضعف التي تعاني منها الجماعة الإرهابية في سيناء وفشلها في مواجهة قوات الجيش والشرطة، قد دفعتها الى محاولة إثبات الوجود والقدرة على التأثير، وإرباك النظام من خلال تفجير الكنيسة البطرسية، وتهديد واستهداف المسيحيين العزّل في مدينة العريش، وذلك لتحقيق انتصار إعلامي ودعائي، ومحاولة إيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بأن «ولاية سيناء» لا تزال موجودة وقوية، وأن النظام غير قادر على السيطرة على مدينة العريش، ولا شك في أن هجرة بعض الأسر المسيحية ساعدت في تضخيم الحدث، الذي حظي بتغطية إعلامية مكثفة، تأتي قبل أسابيع قليلة من زيارة الرئيس السيسي الأولى إلى واشنطن.
الملاحظات السابقة تؤكد أن مخطط تمصير «داعش» مصيره الفشل، على رغم كل الضجيج الإعلامي المرافق لتهجير بعض الأسر المسيحية من العريش، لكن يبقى هناك قلق مشروع لدى بعض المسلمين والمسيحيين على الوحدة الوطنية، وعلى احتمال أن ينجح تنظيم «ولاية سيناء» في تسريب بعض عناصره، لتكرار سيناريو العريش في بعض قرى الدلتا أو الصعيد، أو حتى إحداث تفجيرات في القاهرة، وبالتالي لا بد من الحذر والقلق، والتفكير والعمل بأساليب غير تقليدية. وهنا لا بد من إعداد سيناريوات تتوقع الأسوأ، والتدريب على مواجهتها، وعدم استبعاد أي سيناريو، لأن العقل الإرهابي المحاصر، والذي يرى نهايته قريبة، يندفع غالباً لارتكاب حماقات وجرائم غير تقليدية، خصوصاً أن لديه آلية لتبرير أي سلوك، ومنحه غطاءً دينياً أو ثأرياً.
إن التعامل مع تنظيم إرهابي على وشك الموت يتطلب إدارة علمية شاملة للأزمة، إدارة تمسك بزمام المبادرة، ولا تنتظر أن تكون الدولة والمجتمع في موقع رد الفعل، ما يعني ضرورة إشراك المجتمع وفاعلياته، إلى جانب الأجهزة الأمنية، في مواجهة الإرهاب، وتحقيق قدر مناسب من التوازن بين الحريات العامة، وبخاصة العمل السياسي، وبين الإجراءات الأمنية.
لقد بذلت الأجهزة الأمنية والجيش جهوداً كبيرة، وقدمت تضحيات غالية في حربها على الإرهاب خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ومع ذلك فإنها لم تحسم المعركة، لأن تحقيق الانتصار يتطلب توسيع المجال العام للقضاء على الأفكار المتطرفة والظروف الاجتماعية التي تفرزها، وهي أمور لن تتحقق إلا من خلال إصلاح التعليم والإعلام وتجديد الخطاب الديني، وإشراك كل فعاليات المجتمع.
*نقلا عن صحيفة الحياة