صارت الموارد المائية أحد المدخلات الرئيسية التي يوظفها أطراف الصراعات الداخلية المسلحة العربية في مواجهة بعضها البعض، فيما يطلق عليه ماركوس كينج "عسكرة المياه" Weaponizing Water، لا سيما في ظل تعقد تلك الصراعات وإطالة أمدها وغياب بدائل المياه وتأثير التغيرات المناخية على الصراعات، وهو ما يتضح جليًا في حالات اليمن وسوريا والعراق، خاصة مع تصاعد أدوار الفاعلين العنيفين في تلك البؤر سواء كانوا ميلشيات مسلحة أو تنظيمات إرهابية ومنازعتهم للجيوش النظامية وتركيزهم على إضعاف إدارة البنية التحتية، على نحو أدى إلى عدم وضوح حقوق المياه في المنطقة العربية.
حوكمة المياه:
تعد ندرة المياه والتراجع الهائل في نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة – حيث تشير بعض الإحصاءات الدولية إلى أن الموارد المائية لكل فرد في العالم تتقلص بنسبة 50% خلال الفترة ما بين عامي 2000 و2025 مع الأخذ في الاعتبار أن نسبة الاستهلاك العالمي للمياه تزداد بمعدل 8,4% سنويًا- واحدة من الملامح الحاكمة لتحديات حوكمة المياه في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، لا سيما مع زيادة الطلب عن العرض، والتنافس بين القطاعات المستخدمة للمياه (الصناعية والزراعية والمنزلية).
فقد حذر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط، في كلمته أمام الدورة الثامنة لمجلس وزراء المياه العرب بالقاهرة في 26 أكتوبر 2016، من خطورة الشح المائي في المنطقة وتأثيره على الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، إذ قال في هذا السياق: "إن موارد المياه العذبة في العالم العربي تعد ضمن الأقل في العالم من بين 33 دولة تمثل الأكثر معاناة من الشح المائي، حيث أن هناك 14 دولة عربية تراجعت حصتها من المياه بنسبة الثلثين خلال الأعوام الأربعة الماضية".
وأوضح أبوالغيط أن "أبعاد الأزمة لم تعد خافية على أحد. فالسكان يتزايدون بمعدلات متسارعة في أغلب بلدان العالم العربي بينما الموارد المائية ثابتة، بل إنها تتراجع في بعض الأحيان سواء في حجمها أو نوعيتها، وإن النتيجة هى أن نصيب الفرد من المياه يُدخل معظم بلدان المنطقة، إن لم يكن كلها في دائرة الفقر المائي". وطبقًا لذلك، فإن تصاعد حدة الأزمة المائية في المنطقة العربية مرجعها ارتفاع عدد السكان دون مواكبة تطوير مصادر المياه، وكذلك إساءة التصرف بموارد المياه عبر استخدام الأساليب الخاطئة والقديمة التي تتبعها العديد من الدول وفي مختلف المجالات، وخاصة الزراعية التي تؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من موارد المياه.
فضلا عن ذلك، تشير الممارسات الميدانية إلى أن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة المائية في المنطقة العربية يتمثل في التلوث الذي يجعل أكثر مصادر المياه غير صالحة للاستخدام البشري، نظرًا لاستخدام الأسلحة الكيميائية في الصراعات والمبيدات الزراعية في عمليات التصنيع، وهو ما يؤثر بدوره على درجة "نقاء" مياه الصرف الصحي التي تلقى في مجاري الأنهار وتحتوي على الكثير من الملوثات. هذا بخلاف عامل أطماع دول الجوار الجغرافي في السيطرة على الموارد المائية.
أطماع الجوار:
وقد حذر حسن الجنابي وزير الموارد المائية العراقي، في كلمته أمام مؤتمر وزراء المياه العرب الأخير، من "السيطرة التركية المفرطة على منابع الرافدين وتعثر التوصل إلى اتفاق دائم حول قسمة المياه، إذ أن تركيا أوشكت على تشغيل سد أليسو على نهر دجلة والذي سيستهلك أكثر من نصف الموارد المائية للعراق"، وأشار إلى أن بلاده "على استعداد للتفاوض مع تركيا لدرء مخاطر هذا السد على العراق، بحيث يتم الحفاظ على مسار العلاقات المائية مع تركيا باردًا ومنفصلا عن الجوانب السياسية والأمنية".
وفي الإطار نفسه، صرح الدكتور محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي، في مؤتمر المنتدى العربي للبيئة والتنمية في بيروت في 9 نوفمبر 2016، قائلا: "إن الدول العربية هى أكثر بلدان العالم ندرة في المياه، وبعضها من الأدنى في معدلات إنتاجية المياه. وتوفر الحكومات العربية أعلى مستوى من الدعم الحكومي عالميًا، وهو دعم غير متكافئ، يستحوذ عليه من هم أكثر ثراءًا. وسوف تحاول مجموعة البنك الدولي توفير المشورة للدول حول كيفية إدخال تكنولوجيا لرفع كفاءة الماء والطاقة، وإقامة مجتمعات محلية متكاملة من خلال برامج سريعة لتقديم الخدمات مع المشاركة القوية للمواطن، وتأسيس إدارة مياه متكاملة في الحضر وتطوير نظم لإنتاجية المياه الزراعية تحقق في الوقت نفسه استدامة الخدمات والمصادر المائية، وتوسيع اتفاقات إدارة المياه الدولية".
غير أن المتغير الأبرز في المرحلة الراهنة أنه لا يمكن فصل تحديات الوضع المائي في الدول العربية عن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية بداخلها، لا سيما بعد تحول الثورات الشعبية إلى صراعات مسلحة. وهنا تعد اليمن من بين الدول الأكثر افتقارًا للمياه في المنطقة، حيث ضاعف الصراع الداخلي – الذي دمر البنية التحتية العامة وعطل الخدمات الأساسية - من أزمة نقص المياه وقلص من استخدام المياه في الأغراض الزراعية والصحية والمعيشية.
ومن المرجح أن تعزز ندرة المياه، إضافة إلى نقص المرافق الصحية من احتمال انتشار الأمراض المنقولة بالمياه، على الرغم من الأدوار الإغاثية التي تقوم بها وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والعربية، في معالجة الاحتياجات المائية في اليمن وإعادة تأهيل شبكات المياه في المرافق الصحية وغيرها من مباني ومراكز توزيع المياه في المجتمعات المحلية، فضلا عن تنفيذ أنشطة لتعزيز الصحة العامة ومنع انتشار الأمراض في البلاد، وتقديم طرق لنقل المياه للسكان المتضررين من الصراع.
وتجدر الإشارة إلى أن كمية المياه المخصصة للشخص الواحد في اليمن لا تتعدى سنويًا 140 متر مكعب، في حين تعتبر المعايير الدولية أن 1700 متر مكعب سنويًا هو نقص حاد في المياه. وتشير بعض التقارير إلى أن العاصمة اليمنية صنعاء يمكن أن تصبح بلا مياه بحلول عام 2019، وفقًا لأسوأ سيناريو.
كما يعاني 5,5 مليون شخص في العاصمة السورية دمشق من نقص حاد في المياه على مدى 25 يومًا، مع تبادل أطراف الصراع الاتهامات بشأن المسئولية عنه، إذ يسود اتجاه يشير إلى استهداف النظام السوري لمحطات ضخ المياه في منطقة نبع عين الفيجة (التي تعد المصدر الرئيسي لمياه الشرب في دمشق)، حيث تخوض القوات النظامية مواجهات مسلحة ضد فصائل المعارضة في وادي بردى بريف دمشق، في حين يرى اتجاه آخر أن تنظيم "داعش" هو الذي قطع إمدادات المياه بهدف الضغط على النظام الذي يخوض معركتين ضد التنظيم في تدمر ودير الزور في شرق البلاد.
جرائم حرب:
لذا أكد يان ايغلاند رئيس مجموعة العمل في الأمم المتحدة حول المساعدة الإنسانية لسورية خلال مؤتمر صحفي في 4 يناير 2017 على أنه "من الصعب معرفة الجهة المسئولة عن هذا الوضع"، وأوضح أن "أعمال التخريب والحرمان من المياه جرائم حرب لأن المدنيين يشربونها ولأنهم هم الذين سيصابون بالأمراض في حال لم يتم توفيرها مجددًا". كما قالت ليز غران منسقة العمليات الإنسانية للأمم المتحدة في العراق في 30 نوفمبر 2016 أن "ما يقرب من نصف مليون من المدنيين الذين يعانون من مشكلة الحصول على الطعام يوميًا هم الآن محرومون من المياه الصالحة للشرب".
فقد استخدم تنظيم "داعش" المياه كسلاح سياسي بعد الاستيلاء على سد الموصل في منتصف يونيو 2014، وكررها في الفلوجة بعد تهديده للعاصمة بغداد بالغرق، وكذلك أقدم على قطع المياه في مدينة الرمادي كبرى مدن محافظة الأنبار في يونيو 2015، لكن سرعان ما تدخلت قوات الرد السريع وميليشيا البيشمركة الكردية للتعامل مع ذلك. وتكررت المسألة أيضًا في ديالي وتحديدًا في مناطق بعقوبة، غير أن الأهالي بالتعاون مع الجيش العراقي حرروا محطات المياه من "داعش".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ووفقًا لما التقطته صور بالأقمار الصناعية في نوفمبر 2016، ونشرته بعض وسائل الإعلام مثل صحيفة "الحياة" اللندنية في 20 يناير 2017، فإن التلوث النفطي بات يهدد نهر دجلة بعد إحراق مسلحي "داعش" آبار النفط في مختلف أنحاء شمال العراق، لدرجة أن الأمم المتحدة اعتبرت هذا التلوث "إبادة طويلة الأمد"، وهو ما يعيد إلى الأذهان إشعال القوات العراقية النار في أكثر من 650 بئرًا نفطيًا في الكويت في عام 1991، على نحو تسبب في كارثة بيئية ضخمة.
أبعاد جديدة:
ومن العرض السابق، تجدر الإشارة إلى عدة عوامل أكسبت "عسكرة المياه" في المنطقة العربية أبعادًا جديدة، وتتمثل في:
1- سيطرة التنظيمات الإرهابية: ففي أعقاب هيمنة تنظيم "داعش" على معظم أراضي "وادي الفرات" في سوريا، أنشأ وزارة زراعة تحدد المحاصيل التي يمكن زراعتها، وتفرض ضرائب على المزارعين، في الوقت الذي يشهد نقصًا متزايدًا من خبراء التنظيم العاملين في هذا المجال، مما أدى إلى تدهور خدمات الرى مقارنة بمرحلة ما قبل عام 2011. كما يفتقد المزارعون المحليون للأسمدة والمبيدات الحشرية التي أصبحت نادرة ومكلفة لأنه لا يمكن شراؤها سوى من منطقة تابعة لنظام الأسد بواسطة مهربين. بل إن جفاف الأراضي الزراعية وفساد المحاصيل ساهم في إشعال الحرب في سوريا.
2- الحد من تقدم الجيوش النظامية: يلجأ تنظيم "داعش" إلى ورقة المياه كلما زاد الخناق حوله بما يحول دون تقدم القوات النظامية، وهو ما ينطبق على حالتى الصراع في سوريا والعراق معًا، لا سيما بعد فقدان "داعش" ربع مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها خلال عام 2016، والمرجح فقدانه لمساحات أكبر خلال العام الحالي. وهنا يسمح تنظيم "داعش" عبر التفاوض مع شيوخ العشائر بدخول فرق الصيانة التابعة للهلال الأحمر داخل بعض مناطق الصراع لإصلاح الأضرار وإعادة مياه الشرب إلى تلك المناطق فيما يطلق عليه "هدنة المياه".
3- تفاقم المنافسة العشائرية: من المرجح أن تصبح المياه أكثر ندرة خلال العقود المقبلة، وإن كان ممكنًا الحد من بعض الهدر عبر استخدام تقنيات الرى الحديثة والتخلي عن المحاصيل التي تتطلب استخدامًا كثيفًا للمياه مثل القطن. وفي هذا السياق، يسود اتجاه في الكتابات يشير إلى أن السلطات التي ستحل "فراغ" المناطق التي يسيطر عليها "داعش" في سوريا والعراق سوف تواجه تحديًا كبيرًا، في حال عدم اتخاذها إجراءات ملموسة، بحيث ستؤدي ندرة الموارد إلى تزايد المنافسة العشائرية والقبلية حولها.
4- إثارة استياء القطاعات السكانية: وهو ما ينطبق على قاطني وادي بردى في سوريا –الذي خرج عن سيطرة نظام الأسد منذ العام الثاني للثورة السورية- لا سيما بعد انقطاع المياه لعدة أسابيع، وتحظى هذه المنطقة بأهمية استراتيجية لدى أطراف الصراع، لأنها تمثل مصدرًا مائيًا لدمشق العاصمة الخاضعة لسيطرته، كما أنها تعد بمثابة حلقة وصل بين القلمون والزبداني.
5- تدخلات القوى الإقليمية: نظرًا لأن الكثير من المصادر المائية العربية تأتي من خارج الحدود الجغرافية والسياسية، كما هو الحال بالنسبة لدجلة والفرات، تبرز أدوار القوى الإقليمية، حيث تسعى تركيا إلى إجراء تغيير في خريطة الجغرافيا السياسية، من خلال الربط المائي الإقليمي واستخدام الموارد المائية كورقة ضاغطة على كل من سوريا والعراق.
هشاشة مائية:
خلاصة القول، إن الانتقال المرحلي في بعض الدول العربية صاحبه تأثيرات كبيرة على قطاع المياه، بحيث لم تعد المياه مجرد أحد الموارد الطبيعية فحسب، بل صارت مصدرًا قائمًا للصراع، وهو ما يضفي عليها بعدًا عسكريًا، لدرجة أن بعض الكتابات ترى أن الأمن المائي بدأ يوازي الأمن العسكري في تحدياته في البؤر المشتعلة، في الوقت الذي تتعثر محاولات الموازنة بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية كهدف رئيسي للحوكمة الفعالة للمياه في الدول العربية المستقرة نسبيًا.