يُفرز اللجوء الجماعي القسري بوصفه إحدى إشكاليات التحركات السكانية الناجمة عن مناخات الحروب والصراعات والأزمات الأهلية، تحديات سياسية وديمغرافية حادة أمام الدولة المضيفة، نظير الثقل السكاني الوازن الذي أُضيف -مجبرًا- إلى تركة معطياتها المجتمعية القائمة، والتي قد تتأثر سلبًا عند ضعف الموارد والبنية التحتية المُهيِّئة لاستضافتهم.
ومع امتلاك الدولة المضيفة لخبرات سابقة في اللجوء، فإن إضافة موجة جديدة من اللاجئين إلى ساحتها يفرض أعباء متفاقمة، لا سيما عند محدودية عنصرها السكاني الأصيل وضيق نطاقها الجغرافي، ما يُحدث خللا في ميزانها الديمغرافي وتركيبتها السكانية، وبالتالي تماسكها المجتمعي، عندما يفوق عدد اللاجئين أعدادَ سكانها الأصليين أو يضاهيه أو يقل عنه قليلا، فيصبح بذلك بلدَ اللاجئين والمهاجرين، فيما تُصبح ملامح "الهوية" الوطنية ضبابية.
في هذا السياق، تواجه الأردن تحديات أزمة لجوء سوري، تطرح بدورها إشكاليات عديدة ومضافة للبنية الديمغرافية والسياسية الأردنية، والتي عَرفت من قبل موجات أخرى من اللجوء الفلسطيني والعراقي، الأمر الذي يستدعي محاولة فهم طبيعة إجراءات وحسابات الأردن تجاه تدفقات اللاجئين.
إجراءات "ضابطة" للاجئين
تلجأ الدولةُ المضيفة للاجئين، سواء أكانت منضوية في إطار عضوية الاتفاقية الدولية للاجئين عام 1951 أم لا، في مرحلة معينة عند إطالة أمد الأزمة وغياب حل قريب في أفق البلد الأصيل للاجئين؛ إلى طلب الدعم الدولي لمساعدتها في تحمل كلائف "الاستضافة"، واتخاذ إجراءات ضابطة للحد من تأثير تدفق اللاجئين في بنيتها القومية وتفاعلاتها السياسية والديمغرافية الداخلية، على النحو التالي:
1- قيام بلد الملجأ بحصر وجود اللاجئين ضمن مخيمات اللجوء التي نصبتها، ابتداءً، عند الحدود المجاورة لمصدر الهجرة والنزوح، وتقديم خدمات الحماية والمساعدة والإيواء لهم، بالتنسيق مع المفوضية السامية لشئون اللاجئين المعنية باللاجئين وملتمسي اللجوء بمختلف أنواعه، ضمن ساحات دول العالم، باستثناء اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وذلك من دون السماح لهم بالاندماج أو الانخراط ضمن البيئة المجتمعية المحلية، لا سيما في المرحلة الأولى من اللجوء.
2- ضبط آلية دخول موجات لجوء جديدة، سواء بالحد أو المنع، عبر إغلاق الحدود البينية، وفرض القيود الأمنية للإقامة، تحت طائلة الإبعاد أو تأمين طرف ثالث "بلد آخر" للجوء، خاصة مع تفاقم الأوضاع لدى الدولة المضيفة. غير أن عملية ترحيل الأفراد "اللاجئين" تشكل انتهاكًا لمبدأ "عدم الإعادة القسرية" الوارد في القانون الدولي العرفي.
3- إزاء طول فترة اللجوء، وعدد اللاجئين؛ قد يكون من الصعب على الدولة المضيفة وضع الحدود والفواصل لتواجدهم، أو منع انتشارهم ضمن ساحتها الداخلية، بما يدفعها أحيانًا إما إلى تيسير سبل إقامتهم، أو تحديد أطر إقامتهم وتضييق ظروفهم المعيشية، ما يسمح بمسارات محدودة أمام اللاجئين، إما عبر البقاء ضمن حدود المخيمات الضيقة، أو تجاوزها صوب الاندماج في المجتمع المحلي، بحثًا عن فرص العمل والتعليم، أو الانتقال من بلاد اللجوء الأولى نحو ساحات أخرى، بطرق قانونية وأخرى غير نظامية، مقابل من يختار منهم العودة للوطن الأصيل رغم الأزمة التي تعتري أوصال ساحته، بعيدًا عن شظف حياة اللجوء القاتمة.
4- قد تلجأ الدولة المضيفة، في مرحلة ما، إلى منح جنسيتها للاجئين، أو لبعضهم، واعتبارهم مواطنين. غير أن احتكام مسألة "المنح" لاعتبارات سياسية مرتبطة بظروف مؤقتة قد يؤدي، لاحقًا، عند تغيرها، إلى إجراءات عملية، قد توصف باللا إنسانية أو اللا قانونية، تحت ذريعتي "القرار السيادي" و"حق" عودة اللاجئين إلى بلدانهم، مثل عمليات سحب الجنسية وبقاء حقوق المواطنة في نطاق حيزها النظري، وغياب السند القانوني في المطالبة الحقوقية والافتقار للإطار القانوني المحدد، ما يؤدي إلى تحديات اجتماعية واقتصادية متداخلة تطال مجمل المجالات الحياتية المتعددة التي تمس الحد الأدنى للحقوق الأساسية في الصحة والتعليم والعمل والحماية والأمان.
وتبعًا لذلك، يُصبح وضع اللاجئين مهددًا وخاضعًا للتشريعات الوطنية في الدول المضيفة لهم، وسط قيود مفروضة على حقوق الإقامة والحركة والتوظيف والتملك والانتفاع بالخدمات الحكومية، والتي تُعد -إن مُنحت- مجرد امتيازات يمكن تجريدهم منها دون ترتب أية مسئولية قانونية على الدولة، بحيث تصبح الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية الممنوحة أقل من تلك الواجبة لهم بحكم المعايير الدولية، ومرهونة بالمتغيرات السياسية، تزامنًا مع غياب آلية لمتابعة ووقف انتهاكات حقوق الإنسان للاجئين، والتي تبرر عادةً تحت شعارات وطنية باسم رفض "التوطين" لتسويغ سياسة حرمانهم من حقوق الإقامة الدائمة والجنسية، وذلك خلافًا لقواعد القانون الدولي التي تنص على "أحقية" الجنسية، الواردة في المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إضافة إلى العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 1966.
5- عدم منح اللاجئين حقوق "المواطنة"، أو انتقاء الجوانب الخدمية والحياتية منها دون السياسية والمدنية، والاحتكام إلى قيود وضوابط قانونية تحدد وجودهم وعملهم وتعليمهم، ما يترتب عليه عدم المشاركة في الحياة السياسية العامة، بما يشمل "لاءات" خوض الانتخابات، تصويتًا وترشحًا، والالتحاق الحزبي والنقابي والانضواء في منظمات المجتمع المدني، فضلا عن منع التملك والعمل في القطاع الحكومي، مقابل ضآلة الفرص في القطاع الخاص، شريطة الموافقة الأمنية، بما يجعل وضعيتهم المجتمعية "هشة" و"غير حصينة" أمام ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين صفوفهم.
وإذا كان الحد الأدنى لاعتبار دولة ما مراعية لمبدأ المواطنة من عدمه، يتمثل، وفق آراء مختصة، بجانب منه، في عد جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة أو الذين لا يحوزون عليها ولكنهم مقيمون على أرضها وليس لهم وطن غيرها، مؤقتًا على الأقل، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بدون أن يلغي الحق الطبيعي المنصوص عليه في قرارات الشرعية الدولية بالعودة إلى الوطن، متى تسنى ذلك، باعتباره متطلب دولة المواطنة.
بيد أن تعرض المواطنين وغير المواطنين، المقيمين في الدولة بصفة مؤقتة أم دائمة، إلى تحديات إبعادهم وتهميشهم عن الحياة السياسية أو وضعهم ضمن مراتب سياسية واقتصادية واجتماعية متباينة، أو حصرهم في وضع قانوني وسياسي أدنى بفعل مقاومة الدمج باسم تأكيد الهوية، من شأنه أن يخلق توترات عميقة قد يصعب احتواؤها أحيانًا تضر بمصلحة الدولة نفسها ووحدتها، حيث تنسحب هنا أشكال القهر السياسي، بالضرورة، على الجوانب الحياتية الأخرى، متغلغلة إلى دائرة القهر الاجتماعي لتشمل فئات اجتماعية ظلت في منأى عن الحرمان، من دون أن يساعد انطواء دستور الدولة على مقتضيات ذات صلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبمبدأ المساواة بين الجميع، في ردم الهوة، طالما بقيت الممارسة بعيدة عن النفاذ إلى روح المواطنة الكاملة، مما يخلق تحديات الدمج والهوية والتفاوت في التمثيل.
مخاوف ديمغرافية أردنية
يحضر البعد السياسي في مواطن القلق الرسمي الأردني من استضافة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، نتيجة الأزمة السورية الممتدة منذ خمس سنوات تقريبًا، مما أفرز ضغوطًا بنيوية ثقيلة، أصابت التركيبة السكانية والمجتمعية للمملكة، التي استقبلت أراضيها "بحفاوة" الرعاية والحماية، عبر مفاصل تاريخية حاسمة، تجارب سابقة من اللجوء الفلسطيني والعراقي، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف الظروف والحيثيات البينية المعروفة.
فقد فتح الأردن حدوده أمام استقبال عشرات الآلاف من السوريين الذين لجأوا إليه، من بينهم لاجئون فلسطينيون تهجروا للمرة الثانية من بعد "نكبة" فلسطين في عام 1948، فاعتبرهم لاجئين، رغم أنه ليس طرفًا في الاتفاقية الأممية لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين والبروتوكول الإضافي لعام 1967، كما وفر لهم مستلزمات الحماية والإيواء والخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية المناسبة، في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية وضغوط البنية التحتية الوازنة التي تعاني منها المملكة.
غير أن تدفق اللاجئين السوريين إلى المملكة قد أحدث "ربكًا" إضافيًّا في ميزان المعادلة الديمغرافية القائمة، وذلك عند الإحالة إلى حصيلة التعداد السكاني العام الذي أصدرته "دائرة الإحصاءات العامة" في شهر إبريل 2016 عن عام 2015، وأشارت فيه إلى أن "عدد سكان الأردن يبلغ 9.531.712 نسمة، منهم 6.613.587 عدد السكان الأردنيين، بينما يشكل غير الأردنيين حوالي 30% من إجمالي السكان، نصفهم تقريبًا من السوريين، نتيجة النمو "السكاني الطارئ" جراء ارتفاع معدل الهجرات، بما فيها الهجرة القسرية واللجوء، فيما يبلغ عدد السكان المصريين حوالي 636 ألفًا، يتركز أغلبهم في محافظة العاصمة.
فيما يكتمل المشهد مع الوزن العددي المعتبر للأردنيين من أصل فلسطيني الذي يتجاوز، وفق تقديرات غير رسمية، 60 – 63%، من إجمالي تعداد المواطنين الأردنيين، وهم يتحدرون، في غالبيتهم العظمى، من اللاجئين الذين تهجروا من وطنهم فلسطين بفعل العدوان الإسرائيلي عامي 1948 و1967، إلى الأردن، الذي احتضن النسبة الأكبر منهم بنحو 42%، من إجمالي زهاء خمسة ملايين لاجئ فلسطيني.
سياسة تقييدية وحسابات متعددة
لقد اضطر الأردن في مرحلة معينة، تعود لما قبل عام تقريبًا، إلى اتخاذ إجراءات الحد من "حفاوة" إدخال اللاجئين السوريين لأراضيه، وفرض القيود على تواجد المقيمين منهم ضمن ساحته الداخلية، عبر محاولة حصر إقامتهم في المخيمات التي أنشأها على مقربة من حدوده المشتركة مع سوريا، مثل المخيمات الرئيسية الثلاثة "الزعتري" و"مريجيب الفهود" و"الأزرق"، وتضييق حيز حركتهم، وتقليص منسوب النطاق الخدمي المقدم إليهم، بعدما بلغ عددهم مليونًا و400 ألف سوري ما بين مسجلين لدى "مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين" وغير المسجلين، يقيم ما يقرب من 84% منهم في المجتمع المحلي.
ويدخل في حساب مقادير القرار الرسمي جملة مسوغات تحمل جانبي القلق والحذر معًا؛ إزاء ارتفاع حجم الكلائف الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم الضغوط المعتبرة على البنى التحتية والخدمية، مقابل ضعف استجابة المجتمع الدولي لتقديم الدعم والإسناد المطلوبين للأردن نظير العبء الذي يتحمله في استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين، فضلا عن تنامي مشاعر الإحباط العام بين صفوف المواطنين الأردنيين مما يعتقدونه تحملا مرهقًا لتبعات الوجود السوري، مما ينذر باتساع نطاق التوترات المحلية، وتهديد الاستقرار الوطني جراء الضغوط المجتمعية التي قد يُفرزها الوجود السوري، في ظل المشهد الإقليمي العربي المضطرب، وغياب حل سياسي للأزمة السورية، في الأفق القريب على الأقل.
بيد أن الإجراءات "التقييدية" التي فرضتها الحكومة الأردنية، في مرحلة لاحقة، على الوجود السوري، أثارت انتقادات المنظمات الإنسانية الدولية، و"سخط" اللاجئين السوريين أنفسهم، بما استنفر صفوف الأردنيين، لا سيما الشرائح الضعيفة منهم، في ظل ظروفهم المجتمعية الصعبة مسبقًا. كما أحيت سردية مظالم المواطنين "المهمشين" وذوي الدخول المتدنية بشأن الهوة البينية المتزايدة مع "فئات" نافذة المكانة في الأردن، مثلما استحضرت إشكاليات "الهوية" و"المواطنة" و"الدمج" نتيجة غياب سياسة واضحة عن التعاطي الأردني الرسمي مع اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في أراضيها، والتي عكست نفسها في وضعية سياسية قانونية مجتمعية "هشة"، شكلت -أساسًا- نتاج واقع اللجوء القسري الفلسطيني عامي 1948 و1967، وتبعات توالي سنوات الشتات دون حل قضيتهم بالعودة إلى أراضيهم وديارهم التي هُجِّروا منها آنذاك.
وبالرغم من احتكام الموقف الرسمي المعلن من الوجود الفلسطيني، إلى سندٍ مطلبي بحق العودة ورفض التوطين ومناهضة الطروحات الإسرائيلية المنادية "بالخيار الأردني" و"الوطن البديل" و"يهودية الدولة"، فإن الأخذ بناصية "تثبيت الحق" اعتمد مبررًا رسميًّا لإجراءات عملية، وصفت بغير الإنسانية وغير القانونية، مثل عمليات سحب الجنسية، وبقاء حقوق المواطنة في نطاق حيزها النظري، وغياب السند القانوني الحقوقي لوضعية شريحة فلسطينية واسعة تقيم في المملكة، مما جعل وضع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن الأكثر التباسًا من حال نظرائهم في الدول الأخرى.
وقد أسفرت السياسة الرسمية المستندة إلى تطبيق قرار فك الارتباط الإداري والقانوني الصادر عام 1988، عن خلق فئات متنوعة من الفلسطينيين المقيمين في الأردن، بتصنيفات "ملونة" وفق البطاقات التي بحوزتهم، والتي تفصل بين حدي المواطنة وعدمها، مما جعل مفهوم "المواطنة" لا ينطبق كليًّا على أكثر من مليون فلسطيني، حوالي 20% منهم من الفئة الشابة، يقيمون في الأردن، بدون إطار قانوني أو حماية لهم، ومنخرطين، بشكل أو بآخر، في هياكلها وأطرها ونسيجها المجتمعي، ومضطلعين بأدوار اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية متفاوتة، مما يخلق تحديات الهوية والتفاوت في التمثيل، بفعل مقاومة الدمج باسم تأكيد الهوية، وينذر بحدوث توترات عميقة قد يصعب احتواؤها أحيانًا تضر بمصلحة الدولة نفسها ووحدتها.
وفي المحصلة، فإن قيام الدولة المضيفة للاجئين باتخاذ إجراءات "ضابطة" للحد من التبعات السياسية والديمغرافية للجوء في ساحتها الداخلية، يحمل معه مبررات رسمية قد لا تجد قبولا عند المنظمات الحقوقية وأوساط اللاجئين أنفسهم، ولكنها تهدد بإثارة إشكاليات سياسية مستقبلية حيال "الهوية" و"أحقية" المواطنة.