في الربع الأخير من عام 2024، شهدت العملية الانتخابية في بعض دول شرق أوروبا ظاهرة سياسية جديرة بالتحليل؛ وهي التعرض لأزمات دستورية غير مسبوقة بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات فيها. وتمثلت هذه الأزمات في التشكيك في صحة الانتخابات ونزاهتها، وإلغاء بعضها بدعوى وجود تلاعب من أطراف أجنبية، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية في الشوارع والميادين من القوى الرافضة للاعتراف بالهزيمة. ويعني ذلك أن الانتخابات في بعض الدول الأوروبية تحولت من كونها آلية سلمية لحل الخلافات بين الفرقاء السياسيين، إلى سبب رئيسي للدخول في حلقة مفرغة من عدم الاستقرار السياسي.
وفي هذا الإطار، أصدرت المحكمة الدستورية العليا في رومانيا، يوم 6 ديسمبر الجاري، قراراً تاريخياً بإلغاء نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 24 نوفمبر الماضي، وذلك قبل يومين من عقد الجولة الثانية، حيث استندت إلى ما وصفته بوجود تلاعب في النتائج يستوجب إعادة الانتخابات برمتها. وفي جورجيا أيضاً، أصرت أحزاب المعارضة على عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات البرلمانية التي عُقدت في 26 أكتوبر الماضي بدعوى عدم نزاهتها، فقاطعت البرلمان الذي بدأ أولى جلساته في 25 نوفمبر الماضي، ووصفته بأنه "غير دستوري"، ولجأت إلى التظاهر في الشوارع والميادين لعدة أسابيع مضت للمطالبة بإعادة الانتخابات البرلمانية.
ومن اللافت في هذا الصدد، أن العامل المشترك بين إلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية في رومانيا، ومطالب المعارضة بإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية في جورجيا، هو التذرع بوجود تدخل أجنبي مباشر من روسيا لدعم الشخصيات والأحزاب الموالية لها في المشهدين الانتخابيين، والتلاعب بالنتائج لإسقاط الشخصيات والأحزاب المؤيدة للغرب. ومن اللافت أيضاً، أن تكرار الأزمات الانتخابية وتصاعد حدتها في هاتين الحالتين يتصل بصراع أكبر بين روسيا والاتحاد الأوروبي على التحكم في توجهات السياسة الخارجية للبلدان المُطلة على البحر الأسود، والقريبة جغرافياً من مدار النفوذ التقليدي لموسكو.
وفي ضوء ما تقدم، يتناول هذا التحليل الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تكرار الأزمات الانتخابية في حالتي رومانيا وجورجيا، مع تسليط الضوء على التُّهم المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات. كما يستعرض المسارات التي من المُحتمل أن تتخذها هذه الأزمات سواء في طريقها إلى التسوية أم المزيد من التصعيد.
دوافع الأزمات:
تتنوع الأسباب التي يمكن القول إنها قادت إلى تكرار الأزمات الانتخابية والدستورية في عدد من الدول الأوروبية المُطلة على البحر الأسود، وخصوصاً رومانيا وجورجيا، ومن بين أبرز هذه الأسباب ما يلي:
1- اتهام روسيا بالتأثير في نتائج الانتخابات: رفع رئيس رومانيا، كلاوس يوهانيس، السرية عن تقارير استخباراتية عُرضت على المجلس الأعلى للدفاع الوطني، كشفت عن تعرض الانتخابات الرئاسية لهجمات إلكترونية عنيفة شنتها روسيا عبر توظيف آلاف الحسابات الوهمية على منصة "تيك توك" بهدف الترويج للمرشح اليميني الموالي لموسكو، كالين جورجيسكو. وأفادت مصادر رومانية بأن تصدر الأخير للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية بنسبة 22.94%، في حين أنه لم يحقق أكثر من نسبة 5% في أغلب استطلاعات الرأي؛ يرجع إلى تلقي حملته تبرعات روسية بقيمة مليون يورو. كما أشارت وزارة الداخلية الرومانية إلى اضطلاع أجهزة الدعاية الروسية بعمليات اختراق سيبرانية ضد الانتخابات في البلاد بنفس الطريقة التي حاولت بها توجيه نتائج الانتخابات في مولدوفا في أكتوبر الماضي.
وفي سياق مشابه، وصف قادة أحزاب المعارضة في جورجيا نتائج الانتخابات البرلمانية بأنها "انقلاب دستوري" تم بإشراف كامل من "الأجهزة الروسية". وصرحت رئيسة جورجيا، سالوميه زورابيشفيلي، والتي تقود جبهة المعارضة، في كلمتها أمام البرلمان الأوروبي يوم 18 ديسمبر الجاري، بأن تشكيل البرلمان الجورجي جاء نتيجة "تكتيكات روسية خالصة". وبعدها بيومين، أضافت أن هذه التكتيكات مثّلت "حرباً انتخابية روسية" استخدم فيها حزب "الحلم الجورجي" الحاكم العنف ضد الناخبين، وتزوير البطاقات، وانتهاك سرية البيانات، وتسييس الأحكام القضائية. كما أعلنت زورابيشفيلي عدم الاعتراف برئيس الجمهورية الجديد، لاعب كرة القدم السابق، ميخائيل كافيلاشفيلي، الذي انتخبه البرلمان في 14 ديسمبر الجاري؛ بدعوى عدم شرعية البرلمان ذاته، وأن الاعتراف به يعني خضوع تبليسي "للحروب الهجينة الروسية".
وهكذا، أدت الإشارات المتكررة إلى تدخل موسكو في الانتخابات الأوروبية لتعطيل عملية انتقال السلطة في رومانيا، فيما تعقد المشهد السياسي كلياً في جورجيا في ضوء إصرار المعارضة على إعادة الانتخابات البرلمانية، ورفض الحزب الحاكم التفاوض معها.
2- التنافس بين موسكو والغرب على النفوذ في منطقة البحر الأسود: الأمر الذي يجعل كل عملية انتخابية من شأنها تغيير الحكومة إلى حزب موالٍ لأحد الطرفين حدثاً مثار جدل وخلاف عميق، وتُهم متبادلة بالتدخل لتزوير الانتخابات. ويمكن تفسير ذلك بالأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأسود بالنسبة لروسيا والغرب. فمن ناحيتها، لا تزال موسكو تتحرك في هذه المنطقة بقواعد مؤتمر يالطا لعام 1945، التي هدفت إلى ضمان الهيمنة الروسية في جوارها الجغرافي. وبالرغم من تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ترتبط موسكو بعلاقات تاريخية وثقافية قوية مع تبليسي وبوخارست، وتتمتع بنفوذ هائل بين قطاع واسع من النخب والأحزاب السياسية، ويتصل ذلك بالمكانة الجيوسياسية للبلدين، حيث تقع جورجيا جنوب روسيا، وتشترك معها في حدود تبلغ مساحتها نحو ألف كيلومتر، وتسيطر موسكو فعلياً على خُمس أراضيها منذ احتلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008. فيما تتقاسم رومانيا الحدود مع جنوب أوكرانيا، وتمثل البوابة الرئيسية لإمدادها بالمساعدات الغربية؛ الأمر الذي دفع موسكو لمساندة حملات المرشحين والأحزاب الموالين لها؛ أملاً في قطع هذه الإمدادات.
وفي المقابل، ترغب الدول الغربية في تقويض هيمنة موسكو السياسية والثقافية على منطقة البحر الأسود، وهي تقدم دعماً للأحزاب والشخصيات الداعمة للغرب باعتبار أن دول هذه المنطقة تمثل حائط الصد الاستراتيجي الأول ضد أي تهديد روسي لدول حلف شمال الأطلسي "الناتو". فرومانيا مثلاً، بوصفها عضواً في الحلف، تستضيف قواعد عسكرية تضم أحدث أنظمة الدفاع الصاروخي، وتؤدي أدواراً لوجستية حاسمة لصالح أوكرانيا في حربها ضد الروس، فقدمت مساعدات عسكرية لكييف شملت صواريخ "باتريوت" للدفاع الجوي، وسهّلت عبور المساعدات الغربية عبر أراضيها، وأشرفت على تدريب الطيارين الأوكرانيين على استخدام طائرات "إف16" الأمريكية، وضمنت تأمين مرور سفن الحبوب والتجارة الأوكرانية عبر مياهها الإقليمية.
وفيما تنفي موسكو التدخل في انتخاباتيْ جورجيا ورومانيا، ذكر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، في بيان صدر بتاريخ 4 ديسمبر الجاري، أن بلاده "لن تسمح للجهات الأجنبية التي تسعى لتحويل سياسية رومانيا الخارجية بعيداً عن تحالفاتها الغربية". وفي اليوم التالي، اتهم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، روسيا باتباع أساليب متشابهة للتلاعب بنتائج الانتخابات في مولدوفا وجورجيا ورومانيا. فيما بدأت المفوضية الأوروبية، في 17 ديسمبر الجاري، التحقيق مع مسؤولين بشركة "تيك توك" حول تسهيل أنشطة سيبرانية روسية للتدخل في الانتخابات الرومانية.
وبالمثل، أيّد البرلمان الأوروبي مزاعم المعارضة الجورجية بتزوير الانتخابات التشريعية، وقرر في 26 نوفمبر الماضي، عدم الاعتراف بنتائجها. وبعد يومين، طالب بإعادة الانتخابات مرة ثانية تحت إشراف دولي. كما انتقد أيضاً ما وصفه بـ"التدخل الروسي المنهجي في جورجيا، وتضخيم المخاوف لدى الناخبين بالترويج لروايات مضللة حتى تبتعد تبليسي عن بروكسل". وعلى نفس المنوال، قررت واشنطن، في 30 نوفمبر الماضي، تعليق الشراكة الاستراتيجية مع تبليسي، وأعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، يوم 19 ديسمبر الجاري، فرض عقوبات على عدد من الشخصيات في حكومة جورجيا بدعوى انتهاك حقوق المتظاهرين ضد تزوير الانتخابات.
3- تصاعد الصراع الأيديولوجي بين الأحزاب السياسية على هوية البلاد: وخصوصاً في ضوء ارتفاع أسهم قوى اليمين المتطرف في الاستحقاقات الانتخابية؛ مما يجعل الوصول إلى مساحة مشتركة بين الأطراف الفاعلة تُنهي الأزمات الانتخابية أمراً صعب المنال. ويرجع ذلك إلى التناقض الجوهري بين قيم النخب والأحزاب الموالية لموسكو وتلك المؤيدة لبروكسل، وشيوع نظريات المؤامرة وعدم ثقة الفريقين في بعضهما، حيث يتهم كل منهما الآخر بالخيانة والعمالة لصالح تنفيذ أجندات خارجية، والعمل على تقويض الديمقراطية.
وفي هذا الإطار، يدور الصراع الأيديولوجي في جورجيا بين فريقين؛ الأول يؤمن بأفضلية القيم الليبرالية، ويذهب إلى أن رخاء البلاد مرهون بتنفيذ جميع متطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويتهم حزب "الحلم الجورجي" بالعمل على تحويل تبليسي إلى نسخة من "الأوتوقراطية الروسية". أما الفريق الثاني، فيُعد أكثر تأثراً بالثقافة الأرثوذكسية المحافظة، ويرى أن المعارضة منبطحة أمام "الإملاءات الغربية" للانضمام إلى بروكسل، ويميل أكثر إلى "الطريقة الروسية" في الحكم والإدارة، كما بدا في إصراره على تبني قانون "شفافية النفوذ الأجنبي"، المماثل لنظيره في موسكو، في يوليو الماضي والذي كان سبباً في تأجيج الشارع السياسي ضده. وزاد من الاستقطاب الأيديولوجي بين الفريقين، إعلان رئيس وزراء جورجيا، إيراكلي كوباخيدزه، تعليق مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028، وذلك رداً على رفض البرلمان الأوروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة. فمنذ ذلك الوقت، تشهد جورجيا مسيرات وتظاهرات ضخمة بصورة شبة يومية، ويرفع المتظاهرون علم الاتحاد الأوروبي احتجاجاً على قرار الحكومة.
كما أدى الصعود اللافت لقوى اليمين المتطرف الموالي لروسيا إلى تقليص مساحات العمل المشترك مع الأحزاب التقليدية، وتعميق مشاعر الاستقطاب الأيديولوجي والخوف من المستقبل. فعلى سبيل المثال، مثّل صعود القومي اليميني، جورجيسكو، في انتخابات الرئاسة الرومانية، صدمة للنخب السياسية، ولاسيما أنه لا ينتمي لأي حزب سياسي، ويأتي من خارج المؤسسات التقليدية، وقد استندت حملته إلى مجموعة من المقولات الشعبوية، جوهرها التشكيك في جدوى التزام رومانيا بالعمل الأطلسي، ورفض تقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا، وخفض مستوى التعاون مع مؤسسات الأمن الجماعي الأوروبي، وتبني منظومة قيمية محافظة تتناقض مع المبادئ الغربية.
إضافة إلى ذلك، تمكنت الأحزاب اليمينية المتطرفة في رومانيا، مثل "التحالف من أجل وحدة الرومانيين"، و"أنقذوا رومانيا"، وحزب "الشباب"، من زيادة عدد مقاعدها بصورة ملحوظة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الأول من ديسمبر الجاري، وهي تشترك بدرجات مختلفة مع الكثير من أفكار جورجيسكو ومقولاته، وذلك في الوقت الذي فشل فيه تحالف الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والليبرالية في الاحتفاظ بالأغلبية البرلمانية.
وعلى نفس المنوال، مثّل اختيار حزب "الحلم الجورجي" للقومي المتطرف، كافيلاشفيلي، لتولي رئاسة البلاد، مفاجأة للعديد من المراقبين. وعلى الرغم من أن منصب رئيس الجمهورية أصبح شرفياً تختاره هيئة انتخابية وليس الشعب بعد تعديلات عام 2017؛ فإن تزكية كافيلاشفيلي لهذا المنصب، وهو المعروف بمدحه لشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وانتقاداته اللاذعة للانفتاح على الغرب؛ مثلت تحدياً لنخب المعارضة؛ مما قاد إلى تعقيد مشهد الأزمة السياسية برمته.
مسارات مفتوحة:
تبدو الأزمة السياسية في جورجيا مرشحة للتفاقم بصورة كبيرة؛ إذ إن أفضل الاحتمالات لتسويتها يبقى محفوفاً بالمخاطر في ضوء تناقض مصالح وأهداف الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي. ولا يقل الأمر تعقيداً في الحالة الرومانية التي أقدمت على سابقة لا مثيل لها في تاريخ البلاد بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، والتي سوف تكون لها آثارها على مستقبل البلاد السياسي. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى مجموعة من السيناريوهات والتداعيات المُحتملة في كلتا الحالتين، وذلك على النحو التالي:
1- حالة جورجيا: توجد ثلاثة احتمالات رئيسية في ضوء المعطيات الراهنة، وتتمثل في الآتي:
أ- اتخاذ الحزب الحاكم خطوات لتسوية الأزمة سياسياً: صحيح أنه خلافاً للحالة الرومانية، أصدرت المحكمة الدستورية العليا في جورجيا، يوم 3 ديسمبر الجاري، حكماً نهائياً وغير قابل للاستئناف برفض الدعوى التي قدمتها رئيسة البلاد، زورابيشفيلي، للطعن على نتائج الانتخابات البرلمانية، غير أن ذلك لا يعني انسداد الأفق السياسي لحل الأزمة. فمن الممكن أن تقود الضغوط الداخلية والخارجية على حزب "الحلم الجورجي" إلى تعديل قانون "شفافية النفوذ الأجنبي"؛ إذ أكد الأمين العام لمجلس أوروبا، آلان بيرسيت، يوم 20 ديسمبر الجاري، أنه تلقى وعداً بذلك من الحكومة على هامش زيارته لتبليسي. كما قد تؤدي هذه الضغوط إلى التراجع عن قرار تأجيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولاسيما أن هذا القرار أعاد الحيوية للتظاهرات، بعدما كانت قد فقدت بريقها تدريجياً، وأنه أيضاً يتعارض مع طموح الجورجيين الذين يتمنى 80% منهم الانضمام للاتحاد الأوروبي، وكذلك مع المادة 78 من الدستور التي تنص على مسؤولية الحكومة عن تذليل كل العقبات لانضمام تبليسي إلى بروكسل.
صحيح أن هذه التسوية لن تُرضي الطيف المعارض بأكمله خصوصاً الرئيسة زورابيشفيلي، التي أكدت في تصريحات صحفية، يوم 21 ديسمبر الجاري، إصرارها على إجراء انتخابات جديدة ولقاء زعيم الحزب الحاكم، بيدزينا إيفانيشفيلي، لإقناعه بأن ذلك هو الطريق السياسي الوحيد لحل الأزمة؛ إلا أن هذه الخطوات سوف تجلب الهدوء إلى الشارع السياسي تدريجياً، وتقطع الطريق أمام المعارضة لتعبئة الجماهير.
ب- اتساع رقعة الاحتجاجات واستنساخ تجربة "ثورة الزهور": من المُلاحظ أن التظاهرات في جورجيا اكتسبت زخماً جماهيرياً بعد قرار تأجيل مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ إذ انتشرت الاحتجاجات خارج حدود العاصمة، واجتذبت قطاعات أوسع من الجماهير، وانضم إليها موظفون من القطاع الحكومي ذاته قدموا عرائض علنية للحكومة تطالبها بالتراجع عن السياسات المناهضة لبروكسل، ثم قرر سفراء جورجيا في بلغاريا وهولندا وليتوانيا والولايات المتحدة الاستقالة احتجاجاً على هذه القرارات.
ويُنذر تعامل قوات الأمن العنيف مع الاحتجاجات بمزيد من التعبئة الجماهيرية التي تُعول عليها المعارضة لتكرار تجربة "ثورة الزهور" في جورجيا عام 2003 التي استبدلت آنذاك نظام حكم موالٍ لروسيا بآخر داعم للغرب، أو لإجبار الحزب الحاكم على إعادة الانتخابات البرلمانية تحت إشراف أوروبي على أقل تقدير. ومن المُرجح أن تسبق هذا السيناريو فوضى عارمة لفترة ليست بالقصيرة، حيث تتعطل المؤسسات الرسمية عن العمل، وتزداد وتيرة المواجهات العنيفة بين قوات الأمن والمحتجين.
ج- دعم روسي لإنهاء احتجاجات المعارضة: على الرغم من تزايد الضغوط الغربية على الحكومة الجورجية لإعادة الانتخابات البرلمانية، والتي وصفها المتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، في 18 ديسمبر الجاري، بـ"التدخل الغربي السافر"؛ من غير المُرجح أن تتدخل موسكو عسكرياً في جورجيا، خصوصاً في ضوء انشغالها في الحرب الأوكرانية. ومع ذلك، من الممكن أن تقوم روسيا ببعض الاستفزازات العسكرية في المناطق الجورجية الواقعة تحت سيطرتها لتخويف المعارضة، كما قد تقدم دعماً فنياً لقوات مكافحة الشغب الجورجية لتكرار سيناريو بيلاروسيا عام 2020، الذي قاد هناك إلى تراجع أحزاب المعارضة المؤيدة للغرب التي رفضت الاعتراف بنتيجة الانتخابات الرئاسية بدعوى تزويرها، من خلال استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وتشويهم إعلامياً، واعتقال قادة التمرد وتقديمهم للمحاكمة، وفرض الأمر الواقع.
وفي هذا الإطار، ثمة مؤشرات على الصدام المُحتمل بين قوات الأمن والمعارضة في جورجيا، خاصةً بعدما وصف رئيس الوزراء، في 2 ديسمبر الجاري، الاحتجاجات بأنها "ليست سلمية"، واتهم المحتجين بالتدرب على صناعة الفوضى برعاية منظمات أجنبية.
2- حالة رومانيا: تواجه البلاد مجموعة من التداعيات والسيناريوهات المُحتملة الناجمة عن قرار المحكمة الدستورية العليا بإلغاء نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ومن أهمها ما يلي:
أ- عرقلة محادثات الأحزاب السياسية لتشكيل ائتلاف حكومي: قرر "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، صاحب الأغلبية النسبية في البرلمان الروماني، يوم 19 ديسمبر الجاري، الانسحاب من التحالف الذي تشكل قبلها بأسبوعين، مع أحزاب وسطية مثل "الحزب الوطني الليبرالي"، و"الاتحاد الاشتراكي الروماني"، و"الاتحاد الجمهوري الموحد الروماني"، فضلاً عن الأقليات القومية، لتكوين ائتلاف حكومي. وبحكم أنه لا يمكن تكوين ائتلاف من دونه، أعلن رئيس الوزراء وزعيم "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، مارسيل تشيولاكو، أنه مستعد لدعم حكومة أقلية قد تنشأ عن المحادثات بين الليبراليين ذوي الميول اليمينية، وحزب "الاتحاد لإنقاذ رومانيا"، والحزب المجري العرقي الصغير.
ويرجع قرار "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" إلى عدم القدرة على التوافق مع الأحزاب الوسطية حول أمور الميزانية، ورغبته في اتخاذ سياسات أكثر حسماً توازن نفوذ اليمين المتطرف بعدما حقق نسبة تزيد على ثُلث مقاعد مجلسي النواب والشيوخ؛ وذلك باللجوء إلى تشكيل حكومة يمينية معتدلة ومؤيدة لبروكسل. وبالطبع، يهدد ذلك بإطالة أمد حالة الفراغ الدستوري التي تعيشها بوخارست؛ لأن تشيولاكو يسعى لتشكيل حكومة من أحزاب الأقلية البرلمانية؛ مما يجعل البلاد برمتها عُرضة لعدم الاستقرار السياسي.
ب- اهتزاز الثقة في الديمقراطية والمؤسسات السياسية والدستورية: يطعن اعتراف السلطات الرومانية بنجاح عمليات الاختراق الروسي في التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية، في قدرتها على ضمان نزاهة الانتخابات. ويقود ذلك ليس فقط إلى تسرب الشكوك إلى المواطنين في كفاءة النظام السياسي وقدرته على إدارة العملية الانتخابية، وإنما أيضاً إلى انكشاف البلاد لأزمات دستورية لا نهاية لها؛ إذ يفتح قرار المحكمة الدستورية العليا الرومانية الباب أمام كل حزب مهزوم في الانتخابات للتذرع بأنه كان فائزاً فيها لولا تدخل جهات أجنبية، روسية أو غربية، ضده.
ومن ثم يرى البعض أن موسكو حققت هدفها بقرار المحكمة، حتى لو لم يفز جورجيسكو بالانتخابات الرئاسية؛ لأنها استطاعت أن تعبث بثقة المواطنين في الديمقراطية الغربية. ولعل هذا ما دفع مرشحة الرئاسة الإصلاحية، إيلينا لاسكوني، التي حلت بالمرتبة الثانية في الجولة الأولى، إلى انتقاد قرار المحكمة، ووصفه بأنه "يجر رومانيا إلى الفوضى".
ج- صعود أسهم جورجيسكو للفوز بمنصب الرئيس: على الرغم من أن تقارير الاستخبارات الرومانية أكدت وجود دعاية إلكترونية وأموال روسية لدعم جورجيسكو؛ فإنها لم توضح إلى أي مدى أثّر ذلك في نتيجة الانتخابات الرئاسية. ويلعب جورجيسكو على وتر "المظلومية السياسية"، ويردد أن "المؤسسات دبرت انقلاباً ضد إرادة الشعب". وفي هذا السياق، يبدو أن الناخبين كانوا قد قرروا معاقبة النخب السياسية لفشلها في معالجة أزمة رومانيا الاقتصادية، وذلك بالتصويت لصالح جورجيسكو، ثم للأحزاب اليمينية في الانتخابات البرلمانية في نفس الوقت؛ مما يجعل تصدره للانتخابات مرة ثانية احتمالاً قائماً. وبحكم أن رومانيا تتبع نظاماً شبه رئاسي، فإن احتمالية فوز جورجيسكو تعني المزيد من الاضطرابات بالدخول في صراعات مع الائتلاف الحكومي الموالي لبروكسل، والتأثير سلباً في علاقات بوخارست مع أوروبا.
ختاماً، يمكن القول إن بعض الدول الأوروبية المُطلة على البحر الأسود تتكرر أزماتها الانتخابية، بحكم أن هذه الأزمات ترجع في جانب كبير منها إلى التنافس بين روسيا والغرب على بسط نفوذهما على هذه المنطقة، وأنها أيضاً تدور حول صراعات هوياتية بالأساس تتعلق بخيارات سياسية واقتصادية وثقافية مؤيدة لأحدهما. ولكل ذلك، تسود الضبابية وعدم اليقين في المشهد الجورجي الراهن، والتي قد تصل إلى أقصاها يوم 29 ديسمبر الجاري، حيث من المُفترض أن يتسلم الرئيس الجديد، كافيلاشفيلي، مهام منصبه، فيما أعلنت رئيسة البلاد الحالية، زورابيشفيلي، رفضها تسليم السلطة. ومع أن مستقبل بوخارست يبدو أقل سوءاً من تبليسي؛ فإن عدم الاستقرار السياسي فيها مرشح أيضاً للتصاعد في ضوء أن القرار التاريخي للمحكمة الدستورية العليا يفتح باب الطعن في نزاهة أية انتخابات مستقبلية.