أخبار المركز

مرحلة جديدة :

ماذا وراء رفع القيود عن ضرب العمق الروسي بالأسلحة الغربية؟

11 يونيو، 2024


قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 7 يونيو 2024، إن قرار السماح للقوات الأوكرانية بضرب أهداف داخل روسيا باستخدام أسلحة أمريكية قد يجر الغرب -نظرياً- إلى الصراع، مُشيراً إلى أن مثل هذا التطور "غير مُرجّح". جاء ذلك خلال مُقابلة تلفزيونية مع قناة ABC خلال زيارته إلى فرنسا. 

وقد أشارت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، قبل أيام من تصريح بايدن، إلى أن مُستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الدفاع لويد أوستن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية تشارلز براون أجروا مكالمة عبر تقنية الفيديو مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي طالب البيت الأبيض رسمياً برفع القيود عن استخدام القوات الأوكرانية للأسلحة الأمريكية والإسراع بتوريد وسائل الدفاع الجوي والأسلحة المُضادة للدبابات. 

دوافع مُتعددة:  

وفق الرؤية الأمريكية والغربية بشأن قرار رفع القيود عن استخدام أوكرانيا للسلاح الغربي لمهاجمة الأراضي الروسية، يمكن الوقوف على عدد من الحسابات والاعتبارات السياسية والميدانية على النحو التالي:

1. التقدم الروسي في خاركييف: يأتي الحديث عن رفع القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة الغربية لمهاجمة أراضي روسيا، بعد التقدم الذي أحرزته موسكو في مقاطعة خاركييف بشمال شرقي أوكرانيا، إذ رأت الأوساط الغربية أن استمرار التقدم الروسي قد يقود إلى انهيار الدفاعات الأوكرانية، كما أن خطوط الإمداد الرئيسية للجيش الروسي التي تستهدف خاركييف تقع على بعد 90 كيلومتراً من الحدود الروسية الأوكرانية، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع الروس من السيطرة على خاركييف هي السماح لأوكرانيا بضرب التجمعات والمستودعات العسكرية الروسية في منطقتيْ كورسك وبيلغورود على الجانب الروسي من الحدود الروسية الأوكرانية القريبة من خاركييف.

ويجري الحديث بشكل خاص عن رفع القيود عن استخدام صواريخ "أتاكمس" الأمريكية، و"ستورم شادو" البريطانية، و"سكالب" الفرنسية، وكلها صواريخ يتراوح مداها من 250 إلى 300 كيلومتر، بالإضافة إلى القاذفات الأرضية بعيدة المدى مثل: "هيمارس" الأمريكية وغيرها من القاذفات الأرضية البريطانية والألمانية والنرويجية التي يمكن أن تطلق قذائف على بعد 300 كيلومتر، ويراهن الأوكرانيون أن يشمل رفع القيود الغربية على السلاح كلاً من الطائرات المُقاتلة مثل: "أف 16"، والطائرات الأخرى من دون طيار خاصة الطائرات البريطانية والتركية.

2. خلاف أوروبي حول قرار رفع القيود: تزامن القرار الأمريكي مع مُوافقة دول أوروبية أخرى في الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي "الناتو" على استخدام أسلحتها في ضرب العمق الروسي مثل: فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا والنرويج في مقابل دول أخرى في "الناتو" تخشى أن تقود هذه الخطوة لحرب مُباشرة مع روسيا، ومن هذه الدول إيطاليا وتركيا والمجر التي يعتبر رئيس وزرائها فيكتور أوربان أن السماح بضرب الأراضي الروسية بأسلحة "الناتو" هو المقدمة الطبيعية لصراع عسكري واسع ومباشر بين روسيا من جانب، وحلف "الناتو" من جانب آخر. 

3. الخيار الأفضل لدعم أوكرانيا: وفق كل حسابات حلف "الناتو" بقيادة واشنطن، فإنه لا يوجد خيار آخر لاستعادة الزخم على الجبهة الأوكرانية دون رفع القيود الغربية عن استخدام الجيش الأوكراني للأسلحة الغربية؛ لأن هذا الخيار، ورغم مخاطره، يظل هو الأقل خطورة ضمن الخيارات الأخرى التي جرت مُناقشتها بالفعل مثل: إرسال قوات "الناتو" للجبهة الأوكرانية، أو استخدام "المضادات الجوية للناتو" من أراضي بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا لإسقاط المسيرات والصواريخ الروسية وهي في طريقها نحو أوكرانيا، وهناك ثقة أمريكية كبيرة في أن استخدام "أنظمة أتاكمس" سوف يقلل من قدرة روسيا على استخدام أراضيها كملاذ للعمليات البرية في خاركييف ولوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون. 

واستجاب البيت الأبيض من خلال هذا القرار لعشرات المقالات في الصحافة الأمريكية وغيرها من نداءات بعض النواب الأمريكيين وأعضاء مجلس الشيوخ الذين طالبوا بنوع من "المخاطرة" ليس فقط لإنقاذ أوكرانيا، بل لعدم الاضطرار لإرسال الجنود الأمريكيين لقتال روسيا في أوروبا، انطلاقاً من أن الغرب لديه بالفعل مخزونات سلاح وذخيرة عملاقة مُخصصة لحالات الطوارئ في مناطق كثيرة في العالم، وأن ما يتعرض له الجيش الأوكراني من انتكاسات وتراجع مُستمر هو "أكثر حالة طارئة" تحتاج المخاطرة لنقل هذه الأسلحة والذخيرة والسماح باستخدامها من دون شروط في أوكرانيا. 

4. الحفاظ على رهان بايدن: لا يمكن لواشنطن وحلفائها أن يتركوا روسيا تسيطر على خاركييف في ظل تقدم روسي على جبهة طولها نحو 1350 كيلومتراً من خاركييف شمالاً حتى زاباروجيا وخيرسون جنوباً؛ لأن ذلك من شأنه أن يقوّض الاستراتيجية التي اعتمدها بايدن وحلف "الناتو" منذ 24 فبراير 2022 باستثمار مليارات الدولارات لوقف تقدم روسيا في الجزء الشرقي والجنوبي الشرقي من الأراضي  الأوكرانية، وأن اختراق روسيا وسيطرتها على أوكرانيا سوف يفتح شهيتها للسيطرة على دول أخرى، خصوصاً الدول الصغيرة في الجناح الشرقي لحلف "الناتو" مثل: بلغاريا والتشيك وسلوفاكيا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وهو ما يقود إلى حرب واسعة، وقد تكون عالمية مع روسيا، لهذا قال الرئيس بايدن إنه لا يريد أن يكون مسؤولاً عن "الحرب العالمية الثالثة" التي يمكن أن تبدأ شرارتها من أوكرانيا، ولهذا تعتقد واشنطن أن قرارها جاء من أجل المحافظة على حظوظ أوكرانيا في حسم المعركة لصالحها. 

5. محدودية "رفع القيود": رغم أن الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا وفرنسا تتحدث عن رفع القيود بشكل "مُطلق" عن استخدام أسلحتها من جانب أوكرانيا، وسبق أن قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إنه يدعم حق أوكرانيا في الدفاع عن النفس حتى لو تطلب هذا الأمر ضرب العمق البعيد في الأراضي الروسية؛ فإن الولايات المتحدة ما تزال تؤكد أن رفع القيود يتعلق فقط  باستهداف القواعد العسكرية والمطارات ومخازن السلاح والذخيرة التي تشكل قاعدة الدعم اللوجستي لعمليات الجيش الروسي في خاركييف، وأنها لم تعط الضوء الأخضر لقصف المدن الروسية والمدنيين الروس في العمق الروسي في موسكو مثلاً أو سان بطرسبورغ، وهي إشارة أمريكية لعدم استفزاز روسيا حتى لا تتوسع الحرب كما يهدد دميتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي. 

6. إلهام القيادة الأمريكية: كان البرلمان الفرنسي أول من ناشد الرئيس إيمانويل ماكرون وباقي دول حلف "الناتو" لرفع القيود عن استخدام أوكرانيا للسلاح الغربي، كما أن دولاً أخرى مثل: ألمانيا والنرويج قبلت بذات الأمر، ولتأكيد قيادتها ونموذجيتها في الدفاع عن أصدقائها، وأنها القائد الملهم لـ 31 دولة أخرى في حلف "الناتو" قبلت واشنطن برفع القيود عن استخدام الأسلحة الأمريكية من جانب الجيش الأوكراني، حتى تؤكد إلهام القيادة الأمريكية للعالم القائم على القواعد الموروثة منذ الحرب العالمية الثانية. 

7. التكيف مع المتغيرات: تعتقد الولايات المتحدة أن رفع القيود عن استخدام الأسلحة الأمريكية والغربية كان ثمرة "استراتيجية التكيف" التي انتهجتها واشنطن مع المتغيرات في ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، وخلال نحو عامين ونصف من الحرب استطاع حلف "الناتو" بقيادة أمريكية أن يرسل كل الأسلحة والذخيرة لأوكرانيا دون أن يستفز روسيا. ففي البداية تم إرسال الأسلحة والذخيرة ومنها الدبابات السوفيتية إلى أوكرانيا من دول مجموعة بودابست التسع "بولندا وبلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا والتشيك وليتوانيا وإستونيا ولاتفيا"، وتطور الأمر لإرسال الدبابات الغربية مثل: "ليوبارد 2" الألمانية، و"تشالنجرز" البريطانية، وصولاً إلى منظومات دفاع متطورة للغاية مثل: "باتريوت" و"أتاكمس" الأمريكية. 

معادلات روسية: 

سبق للولايات المتحدة ودول حلف "الناتو" أن راهنت من قبل على أسلحة كثيرة، لكن الواقع يقول إن روسيا استطاعت أن تتعامل معها، بداية من الدبابات الثقيلة، وكل أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الأمريكية والأوروبية، وحتى قرار إرسال الطائرات المقاتلة مثل "أف 16"، ولهذا يجب النظر إلى القرار الغربي في ضوء سلسلة من "المحددات الروسية" وهي: 

1. التهديد الروسي بالرد بالمثل: حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه إذا أجاز الغرب لأوكرانيا أن تضرب بلاده بصواريخ بعيدة المدى، فإنه سيقدم أسلحة لـ"دولة ثالثة" تستخدمها لضرب مصالح الغرب، مُضيفاً أن "ذلك يعني مشاركتهم المباشرة في الحرب ضد روسيا، ونحن نحتفظ بالحق في التصرف بنفس الطريقة". وقد كرر نفس التحذيرات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، في 31 مايو الماضي. 

كما ترى موسكو أن هذه الخطوة ليست مجرد رفع قيود على مدى الصواريخ الغربية فقط، بل "مُشاركة مُباشرة" من "الناتو" في الحرب على روسيا؛ لأنه وفق رؤية الرئيس بوتين فإن الصواريخ وحتى القاذفات الأرضية ذات المدى البعيد تحتاج إلى "تنسيق فضائي" عبر الأقمار الاصطناعية، وهو عمل لن يقوم به الأوكرانيون بل حلف "الناتو" نفسه، ولهذا تنظر روسيا للأمر باعتباره تطوراً خطراً ودخولاً مباشراً لـ"الناتو" في الحرب ضد موسكو.

2. القنابل الانزلاقية الروسية: تعتقد موسكو أن الخطوة الأمريكية لن تكون فعّالة أمام "القنابل الانزلاقية الروسية المعروفة باسم "KAB" وهي قنابل يجري إسقاطها من القاذفات الروسية العملاقة، وهذا يتطلب فقط استهداف هذه الطائرات الروسية أثناء التحليق وقبل إسقاط حمولتها من تلك القنابل، وتعمل واشنطن منذ فترة طويلة على تدريب الأوكرانيين على استهداف هذه الطائرات قبل أن تصل لأهدافها في كييف أو خاركييف، وكل المحاولات السابقة تقول إن نسبة النجاح في إسقاط الطائرات الروسية التي تحمل قنابل انزلاقية في المدى القريب لن تزيد عن النسبة الحالية التي تقوم بها المضادات الأرضية الأوكرانية. 

3. الأسلحة النووية التكتيكية: رداً على القرار الغربي بدأت روسيا في تدريبات ضخمة في الأراضي الروسية والبيلاروسية على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية وفرط الصوتية، وهو منحنى خطر يختلف عن التدريبات الدورية التي كانت القوات الاستراتيجية الروسية تقوم بها في فبراير من كل عام، خاصة في ظل نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا، واستعداد بولندا التي تجاور بيلاروسيا وأوكرانيا لنشر قنابل نووية أمريكية على أراضيها. 

وفي التقدير يمكن القول إن سماح بعض الدول الغربية التي قدمت أسلحة لأوكرانيا باستخدامها لضرب أهداف داخل روسيا يُعد تطوّراً ينقل الحرب إلى مستوى جديد من التصعيد بين الغرب وروسيا. ولطالما كانت المواقف الغربية ترفض إخراج الحرب من حيّزها في أوكرانيا، لكن من الواضح أن التقدم الذي سجلته روسيا مؤخراً في أوكرانيا دفع هذه الدول إلى هذا التطوّر.

ومن جهة أخرى، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الأسلحة الأمريكية والغربية التي تم إرسالها لأوكرانيا منذ فبراير 2022 أسهمت في صمود أوكرانيا في وجه الهجوم الروسي، لكن كل هذه الأسلحة فشلت في إنجاح "هجوم أوكرانيا المُضاد" الذي بدأ في 4 يونيو 2023؛ وهو ما يقول إن قرار "رفع القيود" عن استخدام أوكرانيا للأسلحة الغربية قد "يعرقل فقط" التقدم الروسي في خاركييف، وقد يؤدي مرة أخرى إلى "تجميد الجبهات" بمعنى عدم تحقيق اختراق كبير لأي طرف، ويمنع في نفس الوقت موسكو من تحقيق إنجاز يتشابه مع "سيناريو سبتمبر 2022" عندما استعادت أوكرانيا كل أراضي خاركييف من الجيش الروسي، وهي الأراضي التي سيطرت عليها روسيا في الأسابيع الأولى من الحرب.