أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

فجوة الأولويات:

لماذا يفضل الرأي العام الأمريكي سياسة خارجية "متحفظة"؟

11 مارس، 2019


عرض: محمد بسيوني - باحث في العلوم السياسية

شكّلت العلاقة بين السياسة الخارجية الأمريكية والرأي العام الداخلي واحدةً من القضايا الجدلية في النظام السياسي للولايات المتحدة، التي أنتجت سياقًا للتباين بين صانعي القرار وقطاع عريض من الرأي العام، حيث اعتقد العديد منهم أن "الاستثنائية الأمريكية" تسمح بدور خارجي لواشنطن لا يمكن الاستغناء عنه لاستقرار النظام العالمي. وهذا الدور، بما انطوى عليه من أبعاد قيمية وأخلاقية -من وجهة نظرهم- يستدعي كافة أدوات تنفيذ أهداف السياسة الخارجية بما فيها التدخل العسكري.

بيد أن ثمة قطاعًا من الرأي العام الأمريكي يعارض هذا الدور الخارجي المتعاظم لاعتبارات متعلقة بأولويات قضايا الداخل، والإشكاليات المترتبة على التدخل الخارجي الأمريكي خلال العقود الماضية.

وفي هذا الصدد، يتناول "مارك هانا" خلال دراسته الاستقصائية "عالمان متباعدان: السياسة الخارجية الأمريكية والرأي العام الأمريكي"، الصادرة عن مؤسسة مجموعة أوراسيا في فبراير 2019، العلاقة الجدلية بين السياسة الخارجية للولايات المتحدة والرأي العام داخلها. وتتعرض الدراسة لوجهات النظر تجاه القضايا والتوجهات الرئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية، والتي تشكلت ملامحها الأولية إبان الحرب الباردة، وتم التكريس لها بصورة أعمق في عصر القطبية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

تنطلق الدراسة من فرضية رئيسية مفادها أنه في ظل قيم الديمقراطية التي أسس عليها النظام السياسي الأمريكي، يجب أن تؤخذ توجهات الرأي العام تجاه قضايا السياسة الخارجية على محمل الجد من قبل صانعي القرار، ولا سيما أن تجاهلها وتبني سياسة خارجية لا تحظى بدعم شعبي كبير ليس في صالح الولايات المتحدة؛ لأن الحكومات الأخرى ستنظر إليها كحليف أقل موثوقية أو عدو أقل صلابة. ومن ثم تتنامى المشكلات المتعلقة بالتزام واشنطن على المستوى الخارجي، وتتراجع الثقة الشعبية في النخب الحاكمة على المستوى الداخلي. 

المقاربات الأمريكية

بالرغم من الأهمية المركزية التي تحظى بها فكرة "الاستثناء الأمريكي" فإن ثمة تباينًا بشأن مصدره. ويعتقد "هانا" أن صانعي القرار عادةً ما يربطونه بالدور الذي اضطلعت به الولايات المتحدة على المستوى الدولي. ويستدل على ذلك بتصريح الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" في فرنسا عام 2009، حينما أكد على إيمانه "بالاستثناء الأمريكي" وربطه "بتضحيات القوات الأمريكية في الحروب الخارجية" و"الكم الهائل من الموارد" التي خصصتها الولايات المتحدة لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

وتوضّح الدراسة أن استطلاع الرأي الذي أُجري لعينة من الأمريكيين أثبت أن النسبة الغالبة (48.8%) يعتقدون أن الولايات المتحدة "استثنائية" نتيجة لما تمثله من قيم، بينما اعتقد 17.7% أنها كذلك بسبب ما فعلته للعالم، فيما كان هناك 33.5% يرفضونها من الأساس؛ إذ إن لكل دولة سماتها المميزة، وتعمل في النهاية وفقًا لمصالحها.

ويتصل بهذه المعطيات طبيعة الرؤية الحاكمة للدور الأمريكي في النظام الدولي، والتي تتراوح -وفقًا لأطروحة "آيان بريمر"- بين ثلاث مقاربات رئيسية، وهي:

أولًا- مقاربة "أمريكا المستقلة"، التي تفترض أن الولايات المتحدة يجب أن تركز بشكل أكبر على تحدياتها المحلية.

ثانيًا- مقاربة "أمريكا التي لا غنى عنها"، التي تفترض أن القيادة الأمريكية ضرورية من أجل الاستقرار العالمي.

ثالثًا- مقاربة "حسابات التكلفة"، التي تعتقد أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يجب أن تكون مدفوعة بحسابات التكلفة والعوائد.

وتستدعي الدراسة أيضًا المقاربات الأربع التي طرحها "والتر راسيل ميد" وهي:

أولًا- المقاربة "الجيفرسونية"، حيث الاعتقاد بأن السياسة الخارجية الأمريكية يجب أن تكون أقل اهتمامًا بنشر الديمقراطية في الخارج لتهتم بحماية الداخل.

ثانيًا- المقاربة "الويلسونية"، التي تؤمن بأن الولايات المتحدة لديها مصلحة والتزام أخلاقي بنشر القيم الديمقراطية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم مما يخلق مجتمعًا دوليًّا مسالمًا.

ثالثًا- المقاربة "الجاكسونية"، التي تعتقد أن أهم هدف للحكومة الأمريكية داخليًّا وخارجيًّا يجب أن يكون تحقيق الأمن المادي والرفاهية الاقتصادية للشعب الأمريكي.

رابعًا- المقاربة "الهاميلتونية"، التي تستند إلى فرضية التحالف بين الحكومة الأمريكية والشركات الكبرى باعتباره مدخلًا أساسيًّا للاستقرار الداخلي والعمل الفعال في الخارج.

وفي هذا السياق، تكشف الدراسة عن تباينات في الآراء بين الأمريكيين العاديين والخبراء إزاء المقاربات المشار إليها، حيث إن النسبة الأكبر من الأمريكيين العاديين (44%) يُرجّحون مقاربة "أمريكا المستقلة"، ناهيك عن ترجيح مقاربة "الجيفرسونية" بنسبة 26%، وتليها مقاربة "الويلسونية" بنسبة 25%. وعلى النقيض من ذلك، فإن استطلاع رأي الخبراء أوضح ترجيحهم لمقاربة "أمريكا التي لا غنى عنها" بنسبة 47%، كما أن النسبة الأكبر (بمعدل 49%) يؤيدون مقاربة "الويلسونية".

التهديدات الرئيسية

تستمر معضلة التباين في وجهات النظر مع التعرض لقضية التهديدات الرئيسية للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، كانت الانتماءات الحزبية هي المحدد الرئيسي في تقدير خطورة تلك التهديدات، حيث إن النسبة الأكبر من المنتمين للحزب الجمهوري يعتقدون أن أهم تهديد يواجه الدولة يتمثل في تزايد الخوف من فقدان الهوية الوطنية، بسبب مستويات الهجرة العالية. وفي المقابل، وضع الديمقراطيون في المرتبة الأولى التهديد الناجم عن تزايد تأثير الحكومات الشعبوية والاستبدادية، والتي تُلقي بتبعات سلبية على قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحكم القانون في جميع أنحاء العالم.

وتنتقل الدراسة من هذا المستوى المتعلق بالمدركات العامة إلى التهديدات الإيرانية والروسية كقضايا مهمة للولايات المتحدة. فعلى صعيد التهديد الأول، أبدى غالبية من استُطلعت آراؤهم تأييدهم للحلول الدبلوماسية مقارنة بالتدخل العسكري، إذ اختار 42,4% آلية العمل مع الحلفاء لفرض عقوبات اقتصادية على طهران للتخلي عن سلاحها النووي. كما أن 37,1% يفضلون سياسة إحياء المفاوضات معها، وتبني الخيار الدبلوماسي.

 وأيد 12,5% آلية عدم التدخل لأن إيران لها حق الدفاع عن نفسها حتى لو اقتضى ذلك امتلاكها السلاح النووي كأداة ردع. وأخيرًا، اختار 8,1% تنفيذ هجمات عسكرية استباقية ضد طهران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، حتى لو أدت إلى حرب شاملة. وتدلل تلك النتائج على تراجع الرغبة لدى الرأي العام الأمريكي في تنفيذ عملية عسكرية ضد إيران نظرًا لتكلفتها المرتفعة.

وعلى صعيد التهديد الروسي، سألت الدراسة المبحوثين عن كيف ستستجيب الولايات المتحدة في حال قيام موسكو بغزو دولة إستونيا، وهي دولة حليفة لواشنطن في حلف شمال الأطلنطي (الناتو). وفي هذا الإطار، أيد 54% من المستطلع آراؤهم التدخل العسكري الأمريكي في تالين لمواجهة القوات الروسية. وقد ارتبط هذا التأييد حيال هذا التساؤل الافتراضي بعددٍ من المبررات في مقدمتها التزامات واشنطن التعاهدية، ومن ثم فإن عدم وفائها بالتزاماتها تجاه حلف الناتو سيظهرها كحليف لا يمكن الوثوق به.

وفي المقابل، عارض 46% التدخل العسكري في إستونيا. وقد ارتبطت هذه المعارضة بعددٍ من المبررات في مقدمتها تكلفة الحرب المرتفعة بالنسبة للحكومة والاقتصاد الأمريكي. ولذا، فإن القضايا الداخلية يجب أن تكون ذات أولوية. كما أن ثمة تخوفًا من القوة النووية الروسية، وبالتالي قد يكون للتصعيد ضد موسكو نتائج كارثية. ناهيك عن الاعتقاد بأن حلف شمال الأطلنطي يضع مصالح الدول الأخرى في مرتبة متقدمة على مصالح الولايات المتحدة. 

مسئولية الحماية والإنفاق العسكري 

تشير الدراسة إلى أن التدخل العسكري الخارجي شكّل أحد مظاهر السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدار العقود الماضية. وبالرغم من تعددية محفزات هذا التدخل؛ فقد تمترست أغلب الإدارات الأمريكية (الديمقراطية والجمهورية) خلف فكرة "مسئولية الحماية" والالتزام الأخلاقي لواشنطن بالدفاع عن حقوق الإنسان في الخارج ضد الأنظمة الاستبدادية وانتهاكاتها الصارخة. وتضيف الدراسة أن التدخل الخارجي، من وجهة نظر صانعي القرار الأمريكي، يُعد مدخلًا لتحقيق الاستقرار الدولي.

يُشير "هانا" إلى أن مقاربة "مسئولية الحماية" و"التدخل العسكري الخارجي" لا تحظى بتأييد كبير داخل الرأي العام الأمريكي، ولا سيما بين الفئات العمرية الأقل من ستين عامًا. ووفقًا لاستطلاع الرأي فإن الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عامًا هم الأكثر رغبة في أن تمتنع الولايات المتحدة عن التدخل العسكري في حالات انتهاكات حقوق الإنسان. ويعتقد هؤلاء أنه ينبغي على واشنطن الاهتمام بإصلاح مشكلاتها الداخلية قبل التركيز على الدول الأخرى.

وتكشف المقارنة بين آراء الأمريكيين العاديين والخبراء إزاء التدخل الخارجي عن اختلافات جوهرية، إذ إن 43% ممن تم استطلاع آرائهم من الجمهور يرغبون في فرض قيود على عمليات التدخل الخارجي، في حين يؤيد 34% قيادة منظمة الأمم المتحدة لتلك العمليات، ويدعم 21% التدخل العسكري الأمريكي. أما الخبراء فقد أعطوا الأولوية للتدخل العسكري الأمريكي بنسبة 61%، بينما جاء مطلب تقييد التدخل في المرتبة الثانية بنسبة 28%، وفي المرتبة الأخيرة جاء خيار قيادة الأمم المتحدة للتدخل بنسبة 11%. 

وتأسيسًا على ما سبق، استحوذ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة على اهتمام الرأي العام الأمريكي، والذي يصل -بحسب الدراسة- إلى 610 مليارات دولار، وهو ما يجعلها في المرتبة الأولى عالميًّا. وقد كان هذا المعدل من الإنفاق محور اختلاف بين المستطلع آراؤهم، إذ افترض 45% منهم أنه يجب الحفاظ على مستوى الإنفاق الحالي. وفي المقابل، شكّل من يعتقدون بتخفيضه نحو ضعف نسبة من يعتقدون بزيادته.

وتشير الدراسة إلى أن اتجاه تخفيض الإنفاق العسكري الأمريكي ارتبط بعددٍ من العوامل، من أهمها: أن الولايات المتحدة لديها أولويات أخرى للإنفاق، ناهيك عن الاعتقاد بأن مستوى الإنفاق العسكري الحالي غير مجدٍ من الناحية المالية. وفي المقابل، فإن اتجاه زيادته يرتهن بعدد من الدوافع أهمها: الاقتناع بأن الجيش الأمريكي تعرض للتراجع والضعف خلال السنوات الأخيرة بسبب التخفيضات في ميزانية الدفاع، ومن ثم يجب زيادة الإنفاق العسكري لاستعادة قوة الجيش كاملة. 

وختامًا، يخلص "مارك هانا" إلى أن ثمة رغبة عامة لدى الرأي العام الأمريكي في سياسة خارجية أكثر تحفظًا بشكل أو بآخر، وأن تُعطي الحكومة الأولوية لقضايا الداخل، وتتجنب الانخراط المتزايد في الأزمات الدولية واسعة النطاق. وينتج عن هذه الرغبة هوة متنامية بين ما يراه كثير من الأمريكيين كدور ملائم لبلدهم في الخارج، وبين مدركات ومعتقدات النخبة المسئولة عن صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية. 

 المصدر

 Mark Hannah, “U.S. Foreign Policy and American Public Opinion”, Eurasia Group Foundation, February 2019.