أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

سياسة الأمل:

اتجاهات دعم الخطاب الديني الرسمي لمكافحة "كورونا"

12 أبريل، 2020


أفرد فيروس كورونا مساحة جديدة لاستكشاف أدوار الخطاب الديني ووظائفه في حياة المجتمعات والقضايا والأزمات التي تواجهها، فالخطاب الديني يعبر عن -وفقًا لـ"أحمد زايد"- الأقوال والنصوص المكتوبة التي تصدر عن المؤسسات الدينية أو عن رجال الدين، أو التي تصدر عن موقف أيديولوجي ذي صبغة دينية أو عقائدية، والذي يكشف عن وجهة نظر محددة إزاء قضايا دينية أو دنيوية لها علاقة بحياة الأفراد. وهكذا، ظلت السمة المجتمعية سمة جوهرية للخطاب الديني الذي لم يكن في أي مرحلة من مراحله منعزلًا عن المجتمع، ولكنه ظل خطابًا مشتبكًا، سلبًا وإيجابًا، مع المجتمع وقضاياه. 
بالرغم من الإشكاليات التي نشأت داخل الخطاب الديني بفعل أزمة كورونا، لا سيما مع تعليق الشعائر والتجمعات الدينية، فقد كشف الاتجاه العام للخطاب عن درجة من الفعالية في التعاطي مع الأزمة عبر دعم الإجراءات الحكومية في مواجهة تفشي الفيروس، ومطالبة أفراد المجتمع بالالتزام بسياسات التباعد الاجتماعي ومتطلبات النظافة الشخصية كعوامل رئيسية في مواجهة الفيروس. وبالتوازي مع هذا الجانب العملي، اضطلع الخطاب الديني بدور في التكريس لسياسة الأمل (politics of hope) في المجتمعات لتعويض مساحات العجز البشري وما صاحبها من مفردات اليأس. 
الخطاب الديني والأوبئة:
استدعى فيروس كورونا الجديد تراثًا من الممارسات الدينية في مواجهة الأوبئة عبر تاريخ المجتمعات البشرية، إذ تكشف الإحالة إلى كتابات المؤرخين عن المساحة الهائلة التي يشغلها الخطاب الديني في أزمنة الأوبئة والأزمات الحادة. صحيح أن ثمة مشكلات نتجت عن بعض الممارسات والتفسيرات للنصوص الدينية في التعامل مع الأوبئة، مثل الطاعون، إلا أن الخطاب الديني استمر كفاعل هام في السياق المأزوم محاولًا التفسير وممارسة قدر من الضبط المجتمعي على أتباعه في مواجهة الوباء. 
وترتبط الأدوار الإيجابية للخطاب الديني في فترات الأزمات والأوبئة بطبيعة المشكلات التي تواجهها المجتمعات في تلك الفترات، إذ تطغى على المجتمعات حالة من التوتر والقلق الفردي، وربما اليأس من القدرة البشرية لمعالجة المرض، ومن ثم يكون الخطاب الديني آلية لإعادة الاستقرار النفسي والطمأنينة لأفراد المجتمع، فالدين -بحسب "كارن آرمسترونج"- يساعد الأفراد لكي "يحيوا حياة مثمرة في سلام، وأن يتقبلوا فرحين الحقائق التي ليس لها تفسير متاح، والمشاكل التي يعجزون عن حلها: كالموت، والألم، والحزن، واليأس". 
ويعمل الخطاب الديني على تهذيب النزعات الفردية التي قد تُصاحب حالة التوتر والقلق الناتجة عن تفشي الوباء. ولهذا كان يعتقد المفكر الفرنسي الشهير "توكفيل" أن الأنظمة الديمقراطية بحاجة إلى الطاقة الروحانية كي تقاوم الميل الطبيعي للإنسان نحو المبالغة في الأنانية الفردية والنزعة المادية والعقلانية الضيقة. وهذا الدور، الذي تحدث عنه "توكفيل"، كانت له تجليات في خطاب الأديان المختلفة وتعاطيها تاريخيًّا مع الأزمات والأوبئة، فعادةً ما يتم استدعاء النصوص الدينية التي تشجع الأفراد على التضامن والإيثار وتقديم المساعدة للآخرين، وهنا تشير المصادر التاريخية إلى رفض رجل الدين "مارتن لوثر" مغادرة مدينة فيتنبرج بعد تفشي الطاعون بها عام 1527، ليقدم "لوثر" خطابًا تضامنيًّا يقوم على ضرورة مساعدة ورعاية المرضى.
ثمة جانب آخر تطرحه التجربة التاريخية للخطاب الديني، وهو ذلك المتعلق بالوظيفة الإلزامية prescriptive function للخطاب، والتي من خلالها يتم طرح مجموعة من التعليمات والقوانين التي تهدف إلى تنظيم حياة الأفراد، والعمل على ضبط تصرفاتهم، ولا سيما في سياقات الأزمة، ويظهر هذا النمط -مثلًا- في الخطاب الديني الإسلامي عبر استحضار النصوص الدينية التي تضبط العلاقات بين الأفراد في وقت الوباء، وذلك على غرار الحديث النبوي الشريف حول الطاعون، وتوجيه الأفراد بعدم الدخول أو الخروج من الأماكن المنتشر فيها الوباء، وهو ما يؤسس دينيًّا لفكرة الحجر الصحي لمواجهة الأوبئة. 
ملامح الخطاب الديني الرسمي:
شكل ذلك الإرث التاريخي الملمح الرئيسي للخطاب الديني، ولا سيما في صبغته المؤسسية الرسمية، وطريقة تفاعله مع أزمة فيروس كورونا المستجد، والذي بدا محكومًا بثلاثة اتجاهات رئيسية تتمثل فيما يلي:
1- الاتجاه الإيماني: وهو ما ارتبط بمطالبة الأفراد، في الديانات المختلفة، بتجديد علاقاتهم بالله. وقد لجأ الخطاب الديني في هذا السياق إلى الاستخدام الطوطولوجي tautological usage للمفردات والأفكار عبر تكرار معنى معين أكثر من مرة في الخطاب الديني، كالتأكيد على قدرة الله غير المحدودة التي يمكن من خلالها مواجهة كورونا.
لقد ظهر هذا الاتجاه في خطابات القيادات الدينية المختلفة. ففي الرسالة التليفزيونية التي قدمها شيخ الأزهر الدكتور "أحمد الطيب"، يوم 29 مارس الماضي، طالب الأفراد باللجوء إلى ربهم بالصلاة وبالدعاء بأن يفرج الله هذا الكرب، ويكشف عن عباده هذه الغمة. واختتم الرسالة بالدعاء إلى الله، والتأكيد على صفات الرحمة والإحسان والغوث الإلهي. وتجلى هذا الجانب الإيماني في صلاة بابا الفاتيكان البابا "فرنسيس"، يوم 27 مارس الماضي، التي قال فيها: "نناجيك يا رب من بحر هائج، التفت إلينا يا رب ولا تتركنا في خضم العاصفة، وقل لنا من جديد لا تخافوا لنُلقي عليك جميع همومنا لأنك تعتني بنا".
2- دعم السياسات الصحية: فقد بدا المسار الغالب للاتجاه الديني متماهيًا مع السياسات التي تبنتها الحكومات، حيث اتخذت المؤسسات الدينية قرارات بإيقاف الشعائر الدينية الجماعية، وطلبت من الأفراد الالتزام بالإجراءات الحكومية لمواجهة الفيروس، ولا سيما فيما يتعلق بسياسات التباعد الاجتماعي. وبالرغم من حالة الجدل التي أنتجتها هذه القرارات، فقد دافع الخطاب الديني عن الشرعية الدينية لهذه القرارات، واعتبرها تخدم الأهداف الجوهرية للأديان، والتي قدمت فكرة الحفاظ على النفس على ما عداها من الأمور.
وفي هذا الإطار، حمل الخطاب الديني دلالتين رئيسيتين، أولهما: الاستعانة بالتجربة التاريخية والنصوص الدينية التي تجيز إغلاق دور العبادة وإيقاف الشعائر الدينية مثل الصلوات الجماعية والعمرة، فقد أصدرت المؤسسات الدينية في العديد من الدول الإسلامية فتاوى بضرورة إيقاف الشعائر الدينية الجماعية لمنع الضرر المترتب على تفشي فيروس كورونا، واستندت في ذلك إلى نصوص دينية. بل إن البعض شدد على هذه الإجراءات بصورة مثيرة للجدل، حيث قال المرجع الشيعي الأعلى في العراق "علي السيستاني" بعدم جواز مخالطة المصابين بفيروس كورونا لغير المصابين، واعتبر أنه يتوجب على المصاب دفع الدية في حال تسببه في إصابة شخص آخر ووفاته، بغض النظر عن الدين والمذهب.
وتتصل الدلالة الثانية بتحول الخطاب الديني إلى أداة من أدوات السلطة لمجابهة تفشي الفيروس وممارسة درجة من الضبط والسيطرة المجتمعية، فالاتجاه العام للخطاب الديني طالب الأفراد بضرورة الالتزام بالإجراءات التي تفرضها السلطة الرسمية لمواجهة كورونا، حتى إن شيخ الأزهر الدكتور "أحمد الطيب" اعتبر أن مخالفة الضوابط والإجراءات المعلنة من قبل السلطة في هذا الشأن بمثابة مخالفة شرعية، ومن يرتكبها يكون آثمًا.
3- الاتجاه القيمي والأخلاقي: ويرتبط هذا الاتجاه بطرح إطار قيمي وأخلاقي، مؤيد بالنصوص والمقاصد الدينية، لحركة المجتمع أثناء الأزمة. وارتكز هذا الإطار على عدد من القيم، مثل: التراحم، والتضامن المجتمعي، والإيثار، ومساعدة الآخرين. وفي هكذا سياق، استمرت المنظمات والمؤسسات الدينية في الدول الغربية في أنشطة التكافل الاجتماعي، وطالبت الأفراد بالتبرع والمساهمة في جهود مكافحة الفيروس. وأصدرت المؤسسات الدينية الإسلامية العديد من الفتاوى التي تُجيز إمكانية التعجيل بدفع الزكاة لسدّ حاجة الفقراء والمحتاجين في ظل الظروف المترتبة على أزمة كورونا. كما قرر شيخ الأزهر مضاعفة قيمة الإعانة الشهرية التي يصرفها بيت الزكاة والصدقات المصري لمستحقيها خلال شهري أبريل ومايو 2020. 
المساحات الإشكالية:
بقدر ما كشفت اتجاهات الخطاب الديني الرئيسي، أو الرسمي إن جاز التعبير، عن أدوار إيجابية للدين في التعامل مع فيروس كورونا؛ إلا أنها أماطت اللثام أيضًا عن مساحات إشكالية في الخطاب الديني بتجلياته وأبعاده المختلفة، وتبلورت هذه المساحات عبر أربعة مستويات أساسية:
1- تفسير الأزمة، والاستحضار المستمر لثنائية العقاب الإلهي أم الرحمة، ففي حين أصر قطاع عريض من منتجي الخطاب غير الرسمي، وخاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، على أن الفيروس عقاب من الله نظرًا لعدم امتثال أتباع الديانة للأوامر والنواهي الإلهية؛ ظل الاتجاه الغالب في الخطاب الرسمي يعول على استعادة الأمل، ومحاولة دفع الأفراد لتعزيز علاقاتهم الإيمانية بالله "الرحيم".
2- ثنائية الإنسانية أم الجماعة الدينية، فثمة سرديات دينية نشأت في كنف فكرة العقاب الإلهي، تؤسس لفرضية أن الفيروس جاء لنصرة بعض الجماعات الدينية على حساب الأخرى، فزعيم منظمة "هندو مهاسبها" (تجمع كل الهندوس) الهندوسية "تشاكراباني ماهاراج" اعتبر أن فيروس كورونا هو "عقاب من الإله فيشنو لمعاقبة غير النباتيين"، وأن الفيروس لا يهدد أي مؤمن بالهندوسية، في مقابل رفض الهندوسيون المعتدلون هذه السردية. وتكرر هذا الخطاب لدى بعض المؤمنين بالديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام).
وفي مقابل هذه السردية، تم طرح خطاب ديني ذي منظور إنساني أعم، يعتمد على مفردات التعارف الإنساني، ومساحات التشارك البشري، وعبّر عن هذا الخطاب الإنساني -على سبيل المثال- شيخ الأزهر في رسالته التليفزيونية يوم 29 مارس الماضي، حينما أكد تضامن الأزهر مع كل الدول والشعوب التي تكافح تفشي الوباء، وأشار إلى ضرورة "تقديم المساعدة من القادرين إلى كل المتضررين والمنكوبين في أية بقاع في الأرض، باعتباره واجبًا شرعيًّا وإنسانيًّا، بل هو تطبيق عملي للأخوة الإنسانية، التي تضعها هذه الأزمة على محك اختبار حقيقي، يكشف عن مدى صدقنا والتزامنا بتباينها السامية".
3- تراتبية المقاصد، والتي تشير إلى الأولويات الحاكمة للخطاب الديني، وهل يكون تأدية الشعائر الدينية مقدمًا على الحفاظ على سلامة وحياة المؤمنين؟. هذه الجدلية كانت حاضرة في الأديان المختلفة، وبالرغم من القرارات التي اتخذتها المؤسسات الدينية الرسمية بغلق أماكن العبادة وتعليق الشعائر الدينية الجماعية، فإن عددًا من الفاعلين الدينيين غير الرسمين عارضوا هذا القرار، وتم إصدار فتاوى ترفض إغلاق دور العبادة لأنها تساعد في مواجهة الفيروس عبر حث الأفراد على التضرع إلى الله وطلب الرحمة منه، بل إن بعض الفتاوى تجاوزت هذا المبرر، وفسرت قرارات إغلاق دور العبادة في إطار المؤامرة، ومحاولة توظيف فيروس كورونا لإعادة برمجة المجتمع والتحكم به.
4- العلاقة مع العلم، وهي واحدة من القضايا الإشكالية الأزلية في الخطاب الديني، وربما تكون أزمة كورونا أعادتها إلى الواجهة مجددًا. ففيما كانت المؤسسات والمنظمات العلمية تؤكد أن فيروس كورونا ينتشر بوتيرة متسارعة عبر التجمعات البشرية، كان الخطاب الديني يشهد تباينات داخلية حول طريقة التعامل مع الشعائر الدينية الجماعية.
 صحيح أن الخطاب الديني الرسمي عبّر عن درجة من التوافق مع العلم باتباع الإجراءات والسياسات الصحية اللازمة لمواجهة الفيروس، ومطالبة الأفراد بالالتزام بها؛ بيد أن ثمة اتجاهًا دينيًّا آخر لم يلتفت كثيرًا لهذه السياسات، وقدم خطابًا منعزلًا عن العلم. وكان لهذا الاتجاه الديني المنعزل عن العلم تأثيرات عكسية، ولعل هذا ما ظهر في كوريا الجنوبية حينما كشفت الحكومة عن دور أعضاء طائفة كنيسة شينتشونجي في تفشي فيروس كورونا أثناء إقامتهم الشعائر الدينية الجماعية، وهو ما دفع زعيم الكنيسة "لي مان هي" إلى الاعتذار العلني عن دور طائفته في نشر الفيروس.
وختامًا، فإن أزمة فيروس كورونا لن تُنهي الجدل لسنوات حول الخطاب الديني ودوره في الأزمة، وربما تكون خلقت محفزات جديدة للتعاطي مع قضية فعالية الخطاب الديني وأبعاد تجديده، لا سيما أن الأزمة أنتجت فرصًا جديدة للتغيير في ظل الأدوار الإيجابية التي اضطلع بها الخطاب الديني الرسمي في التعامل مع كورونا، ومحاولة استعادة الأمل في سياقات العجز البشري. ولكن مع ذلك، سيظل الخطاب الديني مطالبًا بمعالجة القضايا والمساحات الإشكالية التي كان الفيروس مجرد لحظة كاشفة لها.

المصادر الأساسية:
1-  أحمد زايد، "صور من الخطاب الديني المعاصر"، القاهرة: دار العين للنشر، 2007.
2- كارن آرمسترونج، "مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟"، ترجمة: فاطمة نصر وهبة محمود عارف، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتب، 2010. 
3- إريك يونس جوفروا، "المستقبل للإسلام الروحاني"، ترجمة: هاشم صالح، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016. 
Lyman Stone, "Christianity Has Been Handling Epidemics for 2000 Years", Foreign Policy, MARCH 13, 2020, accessible at, https://foreignpolicy.com/2020/03/13/christianity-epidemics-2000-years-should-i-still-go-to-church-coronavirus/