أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"اتفاق بانكروفت":

هل تتجه إفريقيا الوسطى للتقارب مع الغرب وفك الارتباط بروسيا؟

14 أغسطس، 2024


شهدت الأشهر الأخيرة انفتاحاً ملحوظاً من قبل جمهورية إفريقيا الوسطى على القوى الغربية المختلفة، ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا؛ وهو ما تجسد بشكل ملحوظ في الاتفاق الأخير الذي أبرمته بانغي مع شركة "بانكروفت" العسكرية الخاصة الأمريكية؛ الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات بشأن دوافع تقارب إفريقيا الوسطى مع الغرب، وانعكاسات هذا التقارب على علاقاتها التقليدية بروسيا؛ ومن ثم ارتداداته المحتملة على التنافس الروسي الغربي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا. 

تحركات لافتة لبانغي:

أعادت القوى الغربية، كفرنسا والولايات المتحدة، التواصل مع السلطات الحاكمة في جمهورية إفريقيا الوسطى، في محاولة لتقليص نفوذ مجموعة فاغنر الروسية، التي أصبحت حالياً تحت مسمى "فيلق إفريقيا"، في بانغي؛ وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- استعادة العلاقات مع فرنسا: بعد سنوات من التحالف مع روسيا ومجموعة فاغنر، ثم مع فيلق إفريقيا الروسي حالياً، بدأت حكومة الرئيس، فوستان آرشانج تواديرا، مؤخراً محاولة استعادة العلاقات مع فرنسا. وفي هذا السياق، قام تواديرا بزيارتين إلى باريس، في سبتمبر 2023، وإبريل 2024، واللتان تمخضتا عن توقيع خارطة طريق مشتركة من أجل بناء شراكة بناءة بين البلدين، فضلاً عن إعلان فرنسا إلغاء تجميد مساعداتها المالية لبانغي؛ إذ أعلنت وزارة مالية جمهورية إفريقيا الوسطى، منتصف يوليو الماضي، استئناف الدعم المالي الفرنسي لبانغي، بعدما كانت باريس قد علقت هذه المساعدات في يونيو 2021، بدعوى تواطؤ حكومة إفريقيا الوسطى في حملة المعلومات المناهضة لفرنسا المدعومة من قبل روسيا.

وقد كشف تقرير صادر عن موقع "أفريكا كونفدنتال" Africa Confidential البريطاني أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، توصل إلى توافقات مع رئيس إفريقيا الوسطى، فوستان تواديرا، خلال زيارة الأخير لباريس في إبريل الماضي، مفادها تعزيز التعاون بين البلدين ودعم حكومة تواديرا في فك الارتباط جزئياً مع موسكو. 

كما شهدت الأسابيع الأخيرة تحركات مكثفة من قبل البعثة الدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا الوسطى بغية التوصل لمصالحة مع حكومة الرئيس تواديرا. وفي هذا الإطار، عمدت السفارة الفرنسية في بانغي، في يونيو الماضي، إلى تمويل مشروع "الوصول إلى العدالة للجميع" بقيمة بلغت حوالي 24 مليون دولار؛ بل إن سفارة باريس دعت علناً قوى المعارضة في إفريقيا الوسطى للتوقف عن التهديد بمقاطعة الانتخابات المحلية المرتقبة في أكتوبر المقبل، وقد أعلن السفير الفرنسي في بانغي أن بلاده تسعى حالياً لحشد مزيد من الدعم المالي من قبل الاتحاد الأوروبي لتمويل هذه الانتخابات. 

2- تنامي التعاون بين بانغي والاتحاد الأوروبي: عادت العلاقات بين السلطات في جمهورية إفريقيا الوسطى والاتحاد الأوروبي لتشهد تحسناً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، ففي مايو الماضي، قدمت بروكسل حوالي 2.2 مليون دولار لحكومة إفريقيا الوسطى للمساهمة في تحديث الملفات الانتخابية، كما طالب ممثل الاتحاد الأوروبي في بانغي، دوغلاس كاربنتر، بضرورة مشاركة بروكسل في تمويل الانتخابات المحلية المقبلة في إفريقيا الوسطى.

من ناحية أخرى، شهدت الأسابيع الأخيرة وصول العديد من المسؤولين الأوروبيين إلى بانغي، في إطار البعثات التدريبية الأوروبية لإفريقيا الوسطى. وقد عبرت الأخيرة عن ترحيبها باستعادة العلاقات الودية مع بروكسل، ولاسيما بعدما قامت الأخيرة باستئناف العديد من الأنشطة التي كانت قد أوقفتها سابقاً في بانغي، في مؤشر مهم على تحول الأخيرة إلى أولوية على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي في إفريقيا.

3- تقارب بانغي وواشنطن: كشفت العديد من التقارير الغربية عن وجود تحركات مكثفة من قبل الولايات المتحدة لتعزيز تقاربها مع السلطات الحاكمة في إفريقيا الوسطى؛ إذ تركز واشنطن حالياً على الجوانب الاجتماعية والثقافية في محاولة لتعزيز مبادرات حسن النية مع بانغي، بالإضافة لاتجاهها لتمويل بعض المشروعات التنموية في إفريقيا الوسطى، سواء بشكل مباشر أم من خلال الاعتماد على بعض حلفاء الولايات المتحدة، خاصةً رواندا التي تعتمد عليها واشنطن في تعزيز الانخراط داخل بانغي، وممارسة الضغوط على بعض المسؤولين في حكومة إفريقيا الوسطى. وبالفعل تمكنت رواندا من توسيع انخراطها في بانغي؛ بل أصبحت القوات الخاصة الرواندية مندمجة في القوات الأمنية المسؤولة عن تأمين الرئيس تواديرا. وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن الرئيس الرواندي، بول كاغامي، بات مقرباً في الوقت الراهن من رئيس إفريقيا الوسطى، فوستان تواديرا، ويسعى حالياً لتنظيم زيارة للأخير إلى الولايات المتحدة. 

وفي هذا الإطار، كشفت بعض التقارير الغربية عن قيام حكومة إفريقيا الوسطى بإبرام اتفاق مع شركة "بانكروفت" العسكرية الخاصة الأمريكية؛ بغية توفير التدريبات الميدانية والعديد من الخدمات للسلطات الحاكمة في بانغي، تتعلق بمجالات أمن الحدود وحماية المواقع الاستراتيجية في البلاد، ولاسيما مواقع التعدين التي تعرضت مؤخراً لهجمات متكررة وتعثرت محاولات المرتزقة الروس في توفير الحماية اللازمة لها.

وتجدر الإشارة إلى أن المفاوضات الأولية بين السلطات الحاكمة في إفريقيا الوسطى والشركة الأمريكية، كانت قد بدأت فعلياً منذ نهاية العام الماضي 2023؛ إذ تم رصد وصول عدد من عناصر شركة "بانكروفت" إلى بانغي؛ بل إن هناك بعض التقارير التي لم تستبعد وجود عمليات تقييم تقوم بها الولايات المتحدة حالياً لفكرة إنشاء قاعدة عسكرية لها بالقرب من العاصمة بانغي.

تحولات في الدور الروسي:

شهدت الأسابيع الأخيرة جملة من التحولات الملحوظة في الدور الروسي بوسط وغرب إفريقيا، بما في ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى؛ وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تراجع حضور عناصر الفيلق الإفريقي في بانغي: رصدت العديد من التقارير تراجعاً ملحوظاً في انتشار عناصر الفيلق الإفريقي الروسي في شوارع عاصمة إفريقيا الوسطى، فبعدما كان المرتزقة الروس سابقاً منتشرين بشكل كبير في شوارع بانغي؛ أصبح وجود هذه العناصر أقل وضوحاً بشكل كبير. لكن هذا لا يعني بالطبع غياباً كاملاً للحضور الروسي في البلاد؛ إذ لا يزال عناصر الفيلق الإفريقي، رغم تراجع حضورهم العلني، متغلغلين في الكثير من الأماكن الحيوية داخل العاصمة. بالإضافة لذلك لا يمكن فصل هذا التراجع في حضور المرتزقة الروس عن تنامي المشاعر المعادية لهم داخل البلاد؛ بسبب ممارساتهم العنيفة أحياناً مع المواطنين المحليين.

2- تصاعد استهداف العناصر الروسية: شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في المواجهات بين المجموعات المسلحة الموجودة في جمهورية إفريقيا الوسطى وعناصر الفيلق الإفريقي الروسي، التي تتولى فعلياً تأمين سلطة رئيس إفريقيا الوسطى، فوستان تواديرا؛ وهو ما زاد من التحديات التي تواجهها المجموعة الروسية داخل بانغي، فرغم استمرار وجودها في عاصمة إفريقيا الوسطى؛ فإن نفوذها الحقيقي تراجع بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن موسكو تمكنت من إحكام السيطرة على فاغنر بعد وفاة رئيسها ومؤسسها، يفغيني بريغوجين، لكن المجموعة ظلت تحتفظ بدرجة كبيرة من استقلاليتها في إفريقيا الوسطى، قبل أن يبدأ نفوذها الفعلي في التراجع. 

3- انتشار الشركات العسكرية في إفريقيا الوسطى: لم تعد مجموعة فاغنر الروسية تعمل بشكل منفرد داخل جمهورية إفريقيا الوسطى؛ بل أضحى هناك العديد من المجموعات العسكرية التي تعمل في هذه البيئة المضطربة، لعل أبرزها العناصر الرواندية التي باتت موجودة بشكل كبير داخل بانغي؛ بل إن هناك بعض التقارير التي رصدت اتجاه الفيلق الإفريقي للاعتماد على مقاتلين روانديين إلى جانب العناصر الروسية الموجودة في المجموعة. ويمتاز المقاتلون الروانديون بسمعة أفضل بكثير بين السكان المحليين في إفريقيا الوسطى، مقارنة بالمرتزقة الروس؛ وبات يتم الاعتماد على المقاتلين الروانديين في تأمين العديد من الأنشطة الاقتصادية لشركات التعدين.

4- تراجع الدور الدبلوماسي والاقتصادي الروسي في إفريقيا: على الرغم من الحضور الكبير الذي تحظى به روسيا في القارة الإفريقية، والذي يعتمد بالأساس على التعاون العسكري؛ فإن ثمة تراجعاً نسبياً في النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي لموسكو في القارة الإفريقية. فقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية في الدور الدبلوماسي لموسكو في إفريقيا، على الرغم من الزيارات الدبلوماسية المتكررة لوزير الخارجية الروسي لدول القارة، في المقابل باتت قوى دولية وإقليمية أخرى، كالصين وتركيا، تحظى بتأثير دبلوماسي أكبر في إفريقيا، حتى إن الصين كانت هي الفاعل الرئيس الذي مارس ضغوطاً على بعض الدول الإفريقية لثنيها عن حضور قمة السلام الأوكرانية التي استضافتها سويسرا في يونيو الماضي. كما أن عدد القادة الأفارقة الذين حضروا القمة الروسية الإفريقية في عام 2023 بلغ حوالي 19 قائداً؛ وهو تقريباً نصف العدد الذي حضر قمة عام 2019.

ويرتبط تراجع التأثير الدبلوماسي لروسيا في إفريقيا بضعف التعاون الاقتصادي بين الجانبين، فعلى الرغم من التعهدات التي شهدتها القمة الروسية الإفريقية في عام 2019 بمضاعفة حجم التجارة بين موسكو ودول القارة الإفريقية خلال السنوات الخمس التالية للقمة؛ فإن حجم هذه التجارة انخفض فعلياً بحوالي 30% مقارنة بعام 2018. وقد تفاقم هذا الضعف في التعاون الاقتصادي والتجاري بين روسيا ودول القارة الإفريقية بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو؛ وهو ما فتح المجال أمام بعض القوى الإقليمية، كتركيا، لتقديم صفقات للتعاون الاقتصادي والتجاري مع دول القارة، بما في ذلك دول وسط وغرب إفريقيا. 

سياقات معقدة:

تأتي التحولات الأخيرة في خريطة النفوذ الجيوسياسي في إفريقيا الوسطى في إطار جملة من المتغيرات المهمة التي طرأت على السياق الداخلي والإقليمي في المنطقة؛ وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تفاقم حالة الفوضى في بانغي: تُعد جمهورية إفريقيا الوسطى إحدى أكثر دول القارة التي شهدت أعمال عنف وعدم استقرار خلال السنوات الماضية. فمنذ استقلالها عام 1960، شهدت بانغي ستة انقلابات عسكرية، بالإضافة للعديد من المواجهات العنيفة بين المجموعات المسلحة المنتشرة في البلاد. وعلى الرغم من المحاولات السبع لإبرام اتفاقات سلام بين الحكومة والمجموعات المسلحة منذ عام 2012؛ فإن كافة هذه المحاولات باءت بالفشل. فبعدما تمكنت قوات "سيليكا"؛ وهي عبارة عن تحالف من الجماعات المسلحة ذات الأغلبية المسلمة، من السيطرة على العاصمة بانغي والإطاحة بحكومة، فرانسوا بوزيزي، عام 2013، تشكل في المقابل تحالف "أنتي بالاكا" العسكري المسيحي، وبدأ يشن هجمات عنيفة ضد مقاتلي "سيليكا" والمدنيين المسلمين. ورغم تفكك قوات "سيليكا" رسمياً، فإن عناصرها السابقة استمرت في شن هجمات مضادة؛ مما أدى إلى انزلاق البلاد في حالة من الفوضى.

وعلى الرغم من التفاؤل الذي ساد البلاد في أعقاب انتخاب الرئيس، فوستان آرشانج تواديرا، عام 2016، وما تمخض عنه من توقف القتال بين المسلمين والمسيحيين؛ فإن القتال بين فصائل قوات "سيليكا" السابقة تزايد، ورغم احتفاظ حكومة تواديرا بالسيطرة على العاصمة بانغي؛ فإن غالبية الجماعات المسلحة قاطعت محاولات تواديرا لنزع السلاح وتحقيق الاستقرار؛ وهو ما قوض كثيراً من حركة الحكومة خارج نطاق العاصمة؛ ومن ثم ترك المجال مفتوحاً أمام الجماعات المسلحة لتنامي قدراتها وفرض سيطرتها. وخلال السنوات الماضية فشلت قوات حفظ السلام، التي أنشأها مجلس الأمن الدولي عام 2014 من قوات الاتحاد الإفريقي وفرنسا، في تحقيق الاستقرار في البلاد، والأمر ذاته فشل فيه المرتزقة الروس الذين استعان بهم تواديرا. 

2- تداعيات الحرب السودانية: مع اندلاع الحرب الأهلية في السودان، تفاقم الصراع العسكري في جمهورية إفريقيا الوسطى، فقد رصدت بعض التقارير انخراط العديد من مقاتلي إفريقيا الوسطى في الحرب السودانية؛ الأمر الذي بات يشكل تهديداً كبيراً لحكومة الرئيس، فوستان تواديرا، وتصاعداً في وتيرة المواجهات المسلحة وتكريس حالة الاستقطاب الداخلي. 

3- تمدد الحرب الروسية الأوكرانية إلى إفريقيا: شهدت الآونة الأخيرة امتداد الحرب الروسية الأوكرانية بدرجة كبيرة إلى القارة الإفريقية، ففي مالي، رصدت العديد من التقارير قيام كييف بتزويد الجماعات المسلحة هناك بمعلومات استخباراتية تمخض عنها هجمات شنتها هذه الجماعات ضد عناصر الفيلق الإفريقي الروسية؛ أدت إلى مقتل أكثر من 84 شخصاً؛ وهو ما يتسق مع تصريحات رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانفو، في مايو الماضي؛ إذ ألمح إلى وجود تحركات جارية تقوم بها بلاده لشن عمليات خارجية تستهدف الحد من الإمكانات العسكرية الروسية في أماكن مختلفة حول العالم. 

وعلى المنوال ذاته، زودت أوكرانيا قوات الجيش السوداني بطائرات من دون طيار؛ لاستهداف قوات الدعم السريع؛ بل إن هناك بعض التقارير كانت قد رصدت قيام القوات الخاصة الأوكرانية بتنفيذ هجمات ضد عناصر فاغنر الروسية في السودان. وفي هذا الإطار، لا يمكن استبعاد أن تصل حرب الوكالة بين موسكو وكييف إلى داخل إفريقيا الوسطى، من خلال اتجاه الاستخبارات الأوكرانية، بدعم غربي، إلى محاولة التوسع في استهداف النفوذ الروسي في بانغي.

4- تدهور الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل: شهدت الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل تدهوراً كبيراً خلال العام الماضي، وعلى الرغم من لجوء المجالس العسكرية في دول الساحل لروسيا لمحاولة التغلب على مشكلاتها الداخلية؛ فإن الأوضاع الأمنية ازدادت تدهوراً، ولاسيما مع تركيز موسكو لمواردها على حربها في أوكرانيا؛ ومن ثم يبدو أن الدعم الروسي الراهن لدول الساحل بات غير كافٍ لمساعدة هذه الدول على حل مشكلاتها الداخلية. فرغم أن المبرر الذي كانت المجالس العسكرية طرحته لتفسير انقلاباتها العسكرية تمثل في تدهور الأوضاع الأمنية في بلادها؛ فإن هذه المجالس فشلت حتى الآن في تحقيق أي تقدم حقيقي في هذا الملف. 

ارتدادات محتملة:

في إطار المتغيرات السابقة، هناك جملة من الارتدادات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن التحولات الأخيرة في علاقة جمهورية إفريقيا الوسطى بالقوى الغربية؛ يمكن عرضها على النحو التالي:

1- توسيع النشاط الروسي في وسط وغرب إفريقيا: في مواجهة التحركات الغربية في وسط وغرب إفريقيا، يرجح أن تعمد روسيا إلى تكثيف جهودها ومحاولة توسيع نشاطها في هذه المنطقة، للحيلولة دون خسارتها لنفوذها الذي تستثمر فيه موسكو منذ فترة طويلة. وفي هذا الإطار، تم رصد وجود العديد من الشركات العسكرية الروسية في هذه المنطقة، ومنها شركة "لواء الدب" الأمنية، التي تم تأسيسها في مارس 2023 في شبه جزيرة القرم، والتي بدأت في الانتشار في بعض دول الساحل الإفريقي على غرار بوركينا فاسو. 

ومن ثم، على الرغم من تنامي التحركات الغربية لتقويض النفوذ الروسي في منطقة الساحل الإفريقي؛ فإن موسكو تسعى في المقابل لتعزيز تموضعها في هذه المنطقة؛ حيث بات "فيلق إفريقيا" الروسي مسيطراً على مناجم اليورانيوم، ويسعى لمنع القوى الغربية من الوصول إليها، وهو ما يشكل تهديداً للأمن الطاقة وإنتاج الغرب من الكهرباء النووية. وفي هذا السياق، أشارت بعض التقارير إلى أن الرئيس الروسي يخطط للقيام بجولة في إفريقيا خلال الأسابيع المقبلة، يتوقع أن تشمل كلاً من بوركينا فاسو ومالي وبورتسودان. 

2- تحركات غربية مضادة لاستقطاب بانغي: رغم أن الحضور الروسي لا يزال قائماً في جمهورية إفريقيا الوسطى؛ فإنه في المقابل ثمة تحركات غربية مكثفة، أمريكية وفرنسية بالأساس، تعكس وجود توجهات راهنة لإعادة بانغي إلى المدار الغربي، أو الضغط عليها للعودة، ويرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات الغربية في هذا الاتجاه. فقد وافقت فرنسا على دعوة الرئيس تواديرا لدعم الانتخابات المحلية، في محاولة لاستعادة حضورها داخل بانغي، والعمل على تقويض نفوذ المجموعات الروسية هناك، كما ضغطت باريس على الاتحاد الأوروبي لتمويل هذه الانتخابات بحوالي 2.2 مليون دولار، لكن لا تزال هناك حاجة ملحة لحوالي 16 مليون يورو إضافية، يتوقع أن تتحملها الولايات المتحدة. ويمكن أن يشكل الاتفاق مع شركة "بانكروفت" الأمريكية، حال تنفيذه، خطوة مهمة باتجاه إعادة هيكلة خريطة النفوذ الجيوسياسي في إفريقيا الوسطى، لكنها في المقابل ربما تفضي أيضاً إلى مزيد من العنف الداخلي في البلاد.

3- تخوفات من الإطاحة بنظام تواديرا: حذرت بعض التقارير الغربية من احتمالية أن يؤدي الانفتاح الراهن للرئيس، فوستان تواديرا، على الغرب إلى الإطاحة به، من خلال بعض العناصر الموالية لروسيا في القوات المسلحة لإفريقيا الوسطى، والتي يتوقع ألا تكون راضية عن التحركات الراهنة لتواديرا، وربما تزداد احتمالية هذا الطرح في ظل انتشار العناصر الروسية، وكذا القوات المدربة من قبل موسكو، في كافة أنحاء بانغي، حتى في ظل تراجع نفوذهم الملحوظ في البلاد. 

4- تفاقم حالة الاستقطاب الداخلي في إفريقيا الوسطى: تشهد إفريقيا الوسطى حالة من الاستقطاب الحاد، وصلت حتى إلى النطاق الضيق من المستشارين المحيطين بالرئيس، فوستان تواديرا، فقد أشارت بعض التقارير إلى أن الاتفاق الذي أبرمته بانغي مع شركة "بانكروفت" الأمريكية جاء بناءً على اقتراح من قبل بعض مستشاري تواديرا، بينما عمد مستشارون آخرون لمحاولة التآمر على موظفي الشركة في بانغي، لمحاولة إفشال هذا الاتفاق.

في السياق ذاته، هناك بعض المليشيات المؤيدة للرئيس تواديرا، كمليشيا "les requins" (The Sharks)، التي تفرض سيطرتها داخل بانغي بعيداً عن سيطرة الجيش والشرطة، وحتى المرتزقة الروس. في المقابل ثمة مليشيات أخرى مرتبطة بقوات الجيش والمرتزقة الروس، كالمليشيات المحلية من عرقية أزاندي، وكثيراً ما تحدث مواجهات بين هذه المليشيات في إطار حالة الاستقطاب الداخلية.

وفي التقدير، تبقى تجربة إفريقيا الوسطى، والتي تشهد حالياً منافسة حادة بين الغرب وروسيا، نموذجاً مهماً يتوقع أن تكون له انعكاسات مباشرة على السياق الإقليمي الأشمل في وسط وغرب إفريقيا، فحال تمكنت الولايات المتحدة وفرنسا من استعادة النفوذ الغربي في بانغي وتقويض النفوذ الروسي هناك، فربما تشكل إفريقيا الوسطى حلقة أولى من سلسلة الانقلابات العسكرية المضادة في المنطقة، وبدء مرحلة جديدة لتراجع النفوذ الروسي فيها لصالح الغرب، أو على الأقل لبعض القوى الإقليمية المرتبطة بالغرب. لكن لا يزال هذا السيناريو أقل احتمالية، على الأقل في المدى المنظور، في ظل استمرار الوجود الروسي في دول المنطقة بشكل كبير، حتى مع الانتكاسات التي تتعرض لها العناصر الروسية في مالي وإفريقيا الوسطى، وضعاً في الاعتبار أن تلك العناصر، والقوات التي دربتها، أصبحت متغلغلة بدرجة كبيرة في دول الساحل، وقريبة من مراكز صنع القرار في هذه الدول.