أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

العرب:

الكونفوشيوسيون الجدد: كيف أسهم المثقفون في صعود الصين؟

28 ديسمبر، 2023


ثمة فجوة واسعة بين الثقل الجيوسياسي والاقتصادي للصين عالمياً، ومشهدها الثقافي بسبب حاجز اللغة، إذ تبدو جميع معارفنا عن المشهد الفكري الصيني مطبوعة بأحكام غربية مسبقة، على اعتبار أنها دولة شمولية ذات صوت وحزب وفكر واحد.

ويقول الكاتب أحمد نظيف في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إنه مع التسليم بأن النظام السياسي الصيني ليس ديمقراطياً تمثيلياً، إلا أن الحياة الفكرية داخل هذا البلد أكثر تنوعاً واختلافاً مما نعتقد.

ويؤكد هذه الفكرة كتاب “صعود الصين والمثقفين العموميين الصينيين” للمؤرخ ديفيد أونبي، الباحث في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي عمل لسنوات في ترجمة الإنتاجات الفكرية الصينية، ومنها مشروعه الإلكتروني “قراءة الحلم الصيني”؛ لذا يُعد الكتاب حصيلة عمل دؤوب لمتابعة تطور التيارات الفكرية في الصين، إذ يقدم فهماً للصعود الصيني المعاصر، أو ما يسميه الكاتب بــ”الثورة الصينية الثانية”.

ويهتم المؤلف بالحياة الفكرية في الصين الراهنة، أي منذ بداية القرن الحالي، إذ يحلل اتجاهات المثقفين الصينيين خاصة المؤيدين للقواعد التي ترسيها الدولة، ومدى تأثيرهم في القيادة السياسية للبلاد، ومن ثم، فلا يطال هذا الكتاب المثقفين الصينيين المعارضين بالرغم من أنه يتناول التيار الليبرالي الصيني.

روافد المثقفين الصينيين

يحاول أونبي – في بداية الكتاب – أن يضع حدوداً نظريةً لمفهوم المثقفين العموميين في الصين المعاصرة. إذ يعتبرهم فئة تأتي من رافدين، الأول الرافد الأكاديمي، فأغلب المثقفين العموميين أساتذة في أفضل الجامعات الصينية، يكتبون بشكلٍ أكاديمي لأقرانهم، لكنهم يحاولون أيضاً، من خلال صوتهم العام، التحدث إلى جمهور أوسع. أما الرافد الآخر فيضم مثقفين آخرين خارج الإطار الجامعي، يطلق عليهم اسم “المثقفين الشعبيين”، ولا يحظى المثقفون الصينيون بوجهٍ عام بالإجماع، وكثيراً ما ينخرطون في مناقشات ساخنة.

وبالرغم من أن بعض المثقفين ينتقدون القرارات السياسية التي يتخذها النظام علناً، فإن القليل منهم يعارضونها صراحةً بشكل منتظم. إنهم يفعلون في الأساس ما يفعله المثقفون في أماكن أخرى، فهم يحاولون التأثير في المثقفين الآخرين، فضلاً عن الرأي العام، وحتى الحكومة، في ما يتصل بقضايا السياسة العامة التي تسمح لهم الدولة والحزب الشيوعي الحاكم بمناقشتها.

ويعود ظهور هذه الفئة من المثقفين إلى فترة الانفتاح الصيني، إذ أدت وفاة ماو تسي تونغ عام 1976، ثم سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، واتصال الصين بالغرب إلى تأثيرات كبيرة في الحياة الفكرية. فقد أصبحت الدولة الصينية تدرك أهمية الأفكار والمعرفة حتى تظل قادرة على المنافسة. لهذا السبب، استثمرت الحكومة بكثافة في الجامعات الصينية وشجعت التبادلات الدولية بين الباحثين والطلاب. وفي هذا الوقت تقريباً، بدأ توسع الإنترنت ووسائل الإعلام الصينية، مما جعل تبادل المعلومات ونشر الكتب والمجلات أكثر حرية وأسهل مما كان عليه الأمر في عهد ماو تسي تونغ.

مع التسليم بأن النظام الصيني ليس ديمقراطيا تمثيليا إلا أن الحياة الفكرية أكثر تنوعا واختلافاً مما نعتقد

ويردّ أونبي على اعتراض يبدو وجيهاً بالنسبة إلى المتابع الخارجي للصين، مفاده مدى فائدة آراء هؤلاء المثقفين في ظل وجود نظام الحزب الواحد والقائد الواحد؛ بالقول إن دولة الحزب الواحد بقيادة شي جينبينغ، والمثقفين العموميين يتعايشان، وإن لم يكن دائماً بطريقة ودية. فمن الواضح أن أولئك المثقفين يخضعون لدولة الحزب الواحد في أوقات الخطر، لكن مواقفهم تبدو مستقلةٍ عن الدولة، على نحو حذر. ويُعد هذا الاستقلال نتاجاً طبيعياً لسياسة الإصلاح والانفتاح مثله كمثل صعود أفكار المبادرة الحرة والطموح الفردي التي تتسم بها أجزاء كبيرة من المجتمع الصيني.

وبعبارة أخرى، نجح المثقفون الصينيون في صنع مكان لأنفسهم في المجتمع بينما كانت الدولة مشغولة بأشياء أخرى، ضمن سقف محدد، لكنهم بارعون في العمل تحت هذا السقف وإنتاج مضمون فكري قد لا نجده لدى شرائح من المثقفين يتمتعون بهوامش حرية أكثر اتساعاً. لذلك، يرى أونبي أن المثقفين الشعبيين الصينيين قادرون على التعبير عن أنفسهم رغم القيود، على عكس ما هو شائع في التصورات الغربية، فقراءة فن الممكن في الصين تعلمنا الكثير، بحسب مؤلف الكتاب.

التيارات الثلاثة للمثقفين

يقسم أونبي المشهد الفكري الصيني المعاصر إلى ثلاثة تيارات رئيسية، على النحو الآتي:

1- اليسار الجديد: وهو الاسم الذي اختاره خصومه الليبراليين لتشويه سمعته من خلال الإشارة إلى أنه يدعو إلى العودة إلى الثورة الثقافية. ووُلد هذا التيار في تسعينات القرن العشرين، كرد فعل على الإصلاحات الاقتصادية وتأسيس اقتصاد السوق ومقولات نهاية التاريخ التي برزت بقوة في الغرب عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. ويدافع اليسار الجديد عن رؤية مفادها إعادة تصور الاشتراكية الصينية، بوصفها ماركسية صالحة للقرن الحادي والعشرين.

وكان للغرب تأثير كبير في اليسار الصيني الجديد، خاصة التيارات في الأوساط الأكاديمية مثل: ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. فقد درس اليسار الصيني الجديد العديد من شخصيات اليسار في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة. ويُعد كوي تشيوان، وهو عالم سياسي قام بالتدريس في جامعة شيكاغو، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لبضع سنوات، ثم عاد إلى الصين، أحد الشخصيات الفكرية التي تمثل هذا التيار.

أما الشخصية الثانية، فهي جيانغ شيغونغ، أستاذ القانون في جامعة بكين، الذي يرى أن القيم العالمية التي يدافع عنها الغرب هي نتاج عرضي للتاريخ والثقافة لبناء المصالح الغربية، وبالنسبة إلى شيغونغ، وأولئك الذين يشاركون منهجه، تُعد هذه الفكرة تحرراً عميقاً لأنها تعني أن العالم يقدم مجموعة متنوعة من الاحتمالات التي تتجاوز ما اخترعه مفكرو التنوير في أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر أو ما طوره منظرو التحديث الأميركيون في خمسينات القرن العشرين. ويعتبر شيغونغ أن الصين تشكل الفرصة التالية والأفضل لكوكب الأرض. لذا، يهتم اليسار الجديد الصيني بالصراع مع الولايات المتحدة أكثر من اهتمام اليسار التقليدي بالمسألة الطبقية.

2- التيار الليبرالي: يمثل هذا التيار طيف واسع من المثقفين في الصين الذين تأثروا بفترة الانفتاح خلال عقدي الثمانينات والتسعينات. لكن هذا التيار يشهد تراجعاً من حيث الإنتاج أو التأثير أو الانتشار بعد صعود شي جينبينغ إلى السلطة، وتصاعد الصراع مع واشنطن. ومن أبرز شخصيات هذا التيار، لي شينزي، الذي بزغ نجمه كمثقف عمومي بعد احتجاجات ميدان تيانانمن عام 1989، والذي على خلاف قطاع واسع من نظرائه الليبراليين لم يُسجن أو يُنفى وما زالت كتاباته متاحة في الصين. وتدور أطروحات شينزي حول كلاسيكيات الفكر الغربي المتعلق بالتنوير والديمقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان والحريات.

في المقابل، يركزّ هي ويفانغ أستاذ القانون في جامعة بكين والناشط في مجال الإصلاح القضائي الصيني على إنشاء نظام قضائي مستقل لضمان سيادة القانون. وما يزال ويفانغ نجماً فكرياً في الصين؛ وقبل عشر سنوات، صنفته مجلة فورين بوليسي الأميركية في عام 2011، ضمن أعظم مئة مفكر في العالم.

عموماً، يدافع التيار الليبرالي في الصين عن أن فكرة التقدم بالأساس تدور حول اللحاق بالغرب، بوصفه معياراً عالمياً، وكان ذلك صحيحاً نسبياً خلال فترة الانفتاح الصيني على العالم، مع ذلك يجد التيار نفسه اليوم في موقف دفاعي من الناحية الفلسفية في مواجهة اليسار الجديد الذي يرى أن “القيم العالمية” لم تنشأ إلا لأن الغرب الرأسمالي والإمبريالي فرضها على بقية العالم، وأن نجاح الدولة الصينية غير الليبرالية يثبت أن الغرب كان مخطئاً، وأن الصين بالتالي حُرة في تشكيل قيمها الخاصة.

مضمون فكري كبير

3- الكونفوشيوسيون الجدد: ظهرت الكونفوشيوسية الجديدة في الثمانينات، عندما تزايد الاهتمام بالدراسات الوطنية، بما في ذلك الكونفوشيوسية، كرد فعل على تجاوزات الثورة الثقافية. فمنذ عشرينات القرن العشرين، تخلت النخبة السياسية والفكرية في الصين إلى حدٍ كبير عن الكونفوشيوسية، واعتبرتها عبئاً ثقافياً أعاق تنمية البلاد، مع أن كتابات ماو، ومنظري الحزب الشيوعي الصيني لم تخل من إشارات للروح الكونفوشيوسية للصين، خاصة خلال حرب التحرر الوطني ضد اليابان.

يقوم هذا التيار على هدف أساسي هو بناء الفلسفة السياسية للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، من خلال تجاوز اليسار واليمين وتحويل الماركسية إلى أيديولوجية ذات طبيعة قومية صينية. لذا، يفسر الكونفوشيوسيون الجدد صعود الصين بالطابع الفريد لحضارتها التي تغلبت على قرن ونصف من الإذلال والعنف على أيدي الغرب، وليس لكونها دولة اشتراكية.

من رموز هذا التيار ياو يانغ مدير مركز البحوث الاقتصادية الصينية وعميد المدرسة الوطنية للتنمية في جامعة بكين، الذي ارتبط طويلاً بتيار اليسار الجديد، ثم طور اهتماماً قوياً بالكونفوشيوسية. ويدعو يانغ إلى العودة إلى المبادئ الأساسية للتقاليد الكونفوشيوسية، والتي تشمل البراغماتية، والتوازن بين الفردية والنظام، والجدارة وسيادة الفضيلة، ومجادلاً بأن الماركسية أدت دوراً حاسماً في التاريخ الصيني من خلال المساهمة في الثورة التي مكنت من ظهور الصين الحديثة. ومع ذلك، فقد عفا عليها الزمن الآن، ويجب أن تستوعبها الحضارة الصينية، بنفس الطريقة التي دمجت بها الصين البوذية في العصور الوسطى.

ووفقاً ليانغ، فإن السبب وراء نجاح الصين اليوم، بينما فشلت في عهد ماو تسي تونغ، أنها عادت إلى المبادئ الكونفوشيوسية، مستدلاً بمقولة دنغ شياو بينغ “عبور النهر عن طريق تحسس الحجارة” لوصف الإستراتيجية المناسبة لفترة الإصلاح والانفتاح. ويرى أيضاً أن المهمة التي تواجه الجيل الحالي من المثقفين الصينيين تتلخص في إضفاء الطابع الصيني على الماركسية بجعلها كونفوشيوسية.

وأخيراً، يضع الكتاب – بالرغم من منشئه الغربي – حداً للبداهة السائدة غربياً حول الصين وعوالمها الفكرية. فهي ليست اتجاهاً واحداً يعيد ترديد شعارات وأفكار الحزب الشيوعي الحاكم، بل ساحة متنوعة فكرياً وفلسفياً، تعمل ضمن سقوف محددة سلفاً. مع ذلك، فقد تمكّنت على مدى الأربعين سنة الماضية من إنتاج أفكار ومحتوى فلسفي مستقل عن الأفكار الرسمية للدولة والحزب، وكذلك الانضمام إلى الثقافة العالمية مع بقائها معتدةً بكونها صينية. فالعقبات الرئيسية التي تجعل التبادل الفكري بين الصين وبقية العالم أمراً صعباً ليست في نهاية المطاف تلك التي تقيمها دولة الحزب الواحد، بل أيضاً حالة التعميم والأحكام المسبقة التي تصدرها المؤسسات الأكاديمية والإعلامية الغربية في سياق صراعها مع الصين.

*لينك المقال في العرب*