أخبار المركز

أنماط مُتعددة:

كيف توظّف الدول الهجرة في علاقاتها الخارجية؟

28 يونيو، 2024


في ظل التغيرات الجيوسياسية المُتسارعة التي يشهدها المجتمع الدولي من حروب ونزاعات وكوارث طبيعية، أصبح لإدارة الهجرة -بأنماطها المختلفة- موقع رئيسي في السياسة الخارجية للدول؛ إذ توظّف كافة أدواتها الدبلوماسية ومواردها لإدارة ملف الهجرة بما يُعزز قوتها ويحقق لها أهدافاً تتصل أو لا تتصل بالهجرة.

وكما هو الحال في الدبلوماسية التقليدية، تتشكل دبلوماسية الهجرة بفعل كثير من العوامل؛ أهمها موقع الدولة من تدفقات الهجرة سواء أكانت دولة منشأ، أم عبور أم وجهة، وعلاقات القوة بين الدول، والمصالح الوطنية المتباينة والمتغيرة. 

أنماط التوظيف: 

في ضوء ديناميات الهجرة الطبيعية، قد تميل دولة وجهة (ذات موارد عالية) إلى توظيف كل أدواتها الدبلوماسية ومواردها لحماية حدودها ومنع تدفقات الهجرة إليها خاصة في وقت الأزمات والحروب، كما أنه من الممكن لدولة العبور (النامية أو الأقل نمواً) أن تختار فتح حدودها لتلك التدفقات بهدف الحصول في المقابل على مكاسب مالية ومزايا اقتصادية، ولتحقيق أهداف سياسية وأمنية، وكذلك لتعزيز شرعيتها الدولية، أو أن تستغل دولة المنشأ الحاجة إلى جاليتها في دولة وجهة لضمان حقوقهم وكأداة للضغط السياسي والاقتصادي أيضاً. 

ليس هذا وحسب، فبعض الدول تستحدث أو تشجع بعض تدفقات الهجرة بحيث تستخدمها كأداة لممارسة الضغط الدبلوماسي والجيوسياسي، والأمني على دول مجاورة فيما يعرف بـ "الدبلوماسية القسرية". وفيما يلي عرض وتحليل لتلك الأنماط من توظيف دبلوماسية الهجرة في ضوء الديناميات الطبيعية والمستحدثة. 

1- الديناميات الطبيعية للهجرة: تحدث أغلب تدفقات الهجرة بشكل طبيعي؛ إذ إن المهاجرين، بفعل عوامل اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو أمنية، أو بيئية أو ديمغرافية، يقررون التنقل من مكان لآخر بهدف الوصول إلى دولة الوجهة التي خططوا للاستقرار فيها. وفي إطار تلك الديناميات الطبيعية، تتباين أهداف وأنماط توظيف الدول لدبلوماسية الهجرة حسب موقعها من خريطة تدفقات الهجرة وكذا مصالحها الوطنية المتشابكة والمتغيرة. 

أ‌. دول الوجهة (Destination countries): تقوم دول الوجهة ذات الموارد العالية، خاصة في الشمال، بتوظيف كافة أدواتها الدبلوماسية ومواردها لخلق حوافز لدول المنشأ والعبور النامية والأقل نمواً حتى تستقبل تدفقات الهجرة غير المرغوب فيها (كالهجرة غير النظامية والنزوح)، والأهم من ذلك أن تشدد إجراءات أمنها الحدودية بحيث تمنع تلك التدفقات من الوصول لدول الوجهة. تشمل هذه الحوافز الوصول إلى الأسواق التجارية، وتسهيل التأشيرات، والاستثمارات، والدعم المباشر للميزانية، وتمويل التنمية، وكذلك التمويل المباشر لأنشطة إدارة الهجرة (على سبيل المثال من خلال مبادرات بناء القدرات)... إلخ. 

وربما يُعد الاتفاق المبرم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 2016 هو المثال التقليدي على هذا النمط من دبلوماسية الهجرة، فبموجبه وافقت تركيا على اتخاذ تدابير لمنع المهاجرين واللاجئين (خاصة القادمين من سوريا والعراق) من العبور إلى اليونان ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى بشكل غير قانوني. وفي المقابل، ضخّ الاتحاد الأوروبي مليارات اليوروهات لدعم جهود تركيا في دمج اللاجئين داخل حدودها، كما قدم حوافز أخرى كتحرير التأشيرات للمواطنين الأتراك المسافرين إلى أوروبا، وكذلك فتح باب المحادثات حول عضوية الاتحاد الأوروبي (والتي تعثرت فيما بعد). 

ومن الأمثلة الحديثة على استمرارية هذا النمط في دبلوماسية الاتحاد الأوروبي للهجرة عقده -خلال الربع الأول من عام 2024- شراكة استراتيجية مع مصر لمدة ثلاث سنوات بقيمة 7.4 مليار يورو لمنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر المتوسط، في مقابل دعم الاقتصاد المصري؛ إذ تم تخصيص 5 مليارات يورو في شكل قروض مُيسّرة لدعم التغيرات الاقتصادية، و1.8 مليار يورو لدعم استثمارات القطاع الخاص، و600 مليون يورو في شكل منح، بما في ذلك 200 مليون يورو لإدارة الهجرة. وكان الاتحاد الأوروبي قد عقد اتفاقاً مشابهاً مع تونس عام 2023 بقيمة 150 مليون جنيه إسترليني من أجل وقف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من تونس. 

من الجدير بالإشارة إلى أن كافة صور الدعم التي تقدمها دول الوجهة لحماية حدودها من خلال دعم عمليات التنمية والاندماج للمهاجرين وطالبي اللجوء في دول المنشأ والعبور لا تعود بالنفع عليهم بالضرورة. فبجانب احتمالات الفساد وشبهات توجيه التمويل إلى غير الأغراض المتفق عليها، فهناك انتهاكات كبيرة للحقوق الأساسية للمهاجرين وطالبي اللجوء تتم بموجب تنفيذ بعض تلك الصفقات. ومن الأمثلة التي أثارت انتقادات كبيرة قيام أستراليا بإنشاء مراكز احتجاز للمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين في الدول الفقيرة في ناورو وجزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة، مقابل المساعدات المالية والتنموية. بموجب هذا النظام، بمجرد اعتراض طالبي اللجوء في البحر، يتم نقلهم قسراً إلى مراكز الاحتجاز في ناورو أو جزيرة مانوس إلى حين البت في طلباتهم للجوء ويُحرمون من فرصة الاستقرار الدائم في أستراليا -حتى لو وجد أنهم يستحقون الحماية- مع إعادة التوطين في بلد ثالث أو البقاء في ناورو وبابوا غينيا الجديدة كخيارات وحيدة. 

ب‌. دول العبور: (Transit countries): تحاول دول العبور النامية والأقل نمواً استغلال التهديد الذي تشعر به أغلب دول الوجهة ذات الموارد العالية (في الشمال) من المهاجرين وطالبي اللجوء. فعلى النقيض من خطاب أغلب دول الوجهة الداعي لضرورة حماية حدود الدولة من تلك التدفقات، أدركت دول العبور أن استقبال المهاجرين وطالبي اللجوء، خصوصاً في وقت الأزمات، يمكن أن يصبح قناة للتدفقات المالية والمكاسب الاقتصادية، ووسيلة لتحسين شرعيتها الدولية كدولة تتقاسم عبء استقبال المهاجرين غير الشرعيين أو تكافح شبكات الجريمة المنظمة التي تتربح من ورائها، وكذلك أداة لممارسة الضغط الجيوسياسي والأمني. 

والأمثلة على أنماط التوظيف تلك كثيرة. فعلى سبيل المثال، كانت ليبيا -تحت رئاسة معمّر القذافي- ملجأ الاتحاد الأوروبي وخصوصاً إيطاليا لمنع طالبي اللجوء والمهاجرين من عبور المتوسط إلى أوروبا، وفي المقابل قدم الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروهات لليبيا وغض الطرف عن كافة الانتهاكات الحقوقية التي كانت تقوم بها. ومؤخراً تحولت انتقادات الاتحاد الأوروبي اللاذعة لاستقلال القضاء والإعلام في بولندا إلى ثناء بعد تحول الأخيرة لدولة عبور للنازحين الأوكرانيين من الحرب الروسية على أوكرانيا.

ج‌. دول المنشأ (Origin states): على الرغم من أنه من الشائع أن تحاول دول العبور والوجهة الاستفادة من موقعها من تدفقات الهجرة لتحقيق مكاسب جيوسياسية؛ فإن دول المنشأ (الدول المرسلة للمهاجرين) تشارك أيضاً في "دبلوماسية الهجرة". وفي هذه الحالة، غالباً ما تكون جهودها الدبلوماسية جزءاً لا يتجزأ من عملية صنع السياسات الخاصة بتعزيز حقوق جالياتها في الخارج أو خلق فرص ومسارات للهجرة لمواطنيها.  

من ضمن الحالات اتفاقية الهجرة التي تم إبرامها مؤخراً بين أستراليا وجزيرة توفالو البولينيزية. والتي بموجبها، تتعهد أستراليا بدعم توفالو في مواجهة تغير المناخ، ويشمل ذلك منح 280 تأشيرة دائمة سنوياً لمواطني توفالو الذين يواجهون تهديدات تتعلق بتغير المناخ (وهو رقم ليس بالقليل في بلد يبلغ عدد سكانه 11 ألف نسمة)، والتعهد بدعم وتعزيز مواقف توفالو في المحافل الإقليمية والدولية. وكل هذا في مقابل حصول أستراليا على حق النقض ضد توفالو لمنع دخولها في اتفاقيات أمنية أو دفاعية مع دول أخرى (الصين بالأساس)، وذلك في إطار المنافسة الشديدة على النفوذ الجيوسياسي في المحيط الهادئ. بينما قد يبدو أن جوهر الاتفاقية لا علاقة له بالهجرة، إلا أن هذا المثال يوضح كيف يمكن الاستفادة من مسارات الهجرة لتعزيز التعاون في القضايا غير المتعلقة بالهجرة، وتحقيق المنفعة من/للمهاجرين.

2- الديناميات المستحدثة للهجرة: بالإضافة إلى استغلال الدول للديناميات الطبيعية القائمة للهجرة، من الممكن لدولة أن تخلق أو تدعم حدوث ديناميات جديدة كأداة لممارسة الضغط الدبلوماسي والجيوسياسي، والأمني على دول مُجاورة فيما يعرف بـ "الدبلوماسية القسرية". 

من ضمن الأمثلة الواضحة على ذلك محاولة الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، في عام 2021، تصدير "أزمة هجرة جديدة" إلى أوروبا، من خلال توجيه آلاف المهاجرين نحو الحدود مع ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، رداً على العقوبات والانتقادات من الاتحاد الأوروبي. وكذلك تهديد الرئيس التركي أردوغان للاتحاد الأوروبي -في عام 2019- بفتح الحدود التركية للمهاجرين للزحف بحرية في اتجاه أوروبا؛ بهدف الحصول على مزيد الدعم لإنشاء منطقة آمنة لإعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم. 

وفي التقدير، يمكن القول إنه بالنظر لصور توظيف دبلوماسية الهجرة الحالية، ستظل دول الوجهة عالية الموارد مُعرضة للضغط الجيوسياسي والأمني من دول العبور والمنشأ لغلبة النزعة الأمنية على التعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء، وكذا للحاجة الماسة للعمال المهاجرين خصوصاً في ظل أزمة ديمغرافية لا يتوقع إلا أن تزداد سوءاً في كثير من دول الوجهة.